التحوّل الإسرائيلي.. “الأمن المطلق” مقابل العزلة الدولية

في أعقاب "طوفان الأقصى" في خريف العام 2023، لم تعد إسرائيل تكتفي بمراجعة إستراتيجيّتها الأمنيّة؛ بل شرعت في عملية إعادة بناء هندسةٍ كاملةٍ لدولتها من الدّاخل، بما في ذلك عقيدتها العسكرية، وذلك في خدمة رؤيةٍ أمنيّةٍ جديدةٍ متطرّفةٍ لا مكان فيها للخطوط الحمر التقليديّة التي كانت راسخة قبل السابع من أكتوبر.

ثمة تحوّل في عقيدة ورؤية إسرائيل العسكرية والأمنية. هذا الأمر لا يجري الترويج له في أروقة مراكز الدراسات والمعاهد الأمنيّة الإسرائيليّة بل بات معيوشاً في الميدان، من غزة إلى الدوحة، وما بينهما من جبهات. لا تهدف هذه الرؤية فقط إلى “تحقيق النّصر” في غزّة أو في مواجهة إيران، بل إلى تأسيس “نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ” تكون إسرائيل فيه القوّة المحوريّة التي تُحدّد شروطه بمفردها. لكن هذا المشروع الطموح يقوده حسابٌ دقيقٌ للمخاطر، يتجلّى في مقايضة استياء المجتمع الدوليّ مقابل تحقيق مكاسب استراتيجيّة تعتبرها النّخبة الحاكمة وجوديةً ولا غنى عنها. هذه الورقة تحلّل ملامح هذه الاستراتيجية الانقلابيّة، والتحوّلات العميقة التي ستفرضها على البنية الدّاخليّة لإسرائيل، وكيف تُعيدُ تعريف هويّتها ومصيرها في سياق المقايضة المحفوفة بالمخاطر.

 من الردع إلى الهيمنة 

لم تعد إسرائيل تروّج لصورة “الجيش الأخلاقيّ” (وهو لم يكن يومًا كذلك) و”القوّة الذكية”. فالاستراتيجيّة الجديدة المُعْلَنَة من خلال أقطابها الأمنية هي استراتيجيّة قوّةٍ غاشمةٍ استباقيةٍ (Brute Force)، تقوم على مبدأ “انهض واقتل أولاً”، تحويل الاغتيالات والضربات الوقائيّة من تكتيكٍ استثنائيٍّ إلى سياسةٍ روتينيةٍ علنيّة، بغضّ النظر عن السّيادة الدوليّة، كما حدث في إيران ولبنان وقطر. ورفض أيّ حدودٍ للصّراع، والرسالة الموجّهة للعرب هي أنّ كلّ الجغرافيا متاحة، وأنّ كل من يشمله تعريف “العدو” هو هدفٌ مشروع. واستبدال الدبلوماسيّة بـ “لغة القوّة الوحيدة”، والافتراض الجديد هو أنّ العرب لا يفهمون سوى لغة القوّة، وأنّ أيّ تنازلٍ يُعتبر ضعفاً، وأنّ “السّلام” سَيُفْرَض من خلال هزيمة الخصم هزيمةً كاملة.

إعادة تشكيل إسرائيل

لمواكبة هذه الاستراتيجيّة، تجري إسرائيل تغييراتٍ جذريّةً في بنيتها الداخليّة، فهي تحوّل اقتصادها إلى “اقتصاد الحرب الدّائمة”، وإخضاعه لخدمة الآلة العسكريّة عبر ضخّ استثماراتٍ هائلةٍ في الصّناعة الحربيّة المحلّيّة لتحقيق “الاستقلال الاستراتيجيّ” وتقليل الاعتماد على الولايات المتّحدة، فضلاً عن إعادة هيكلة الميزانيّة الوطنيّة لتحويل الأموال من القطاعات المدنيّة (التّعليم، الصّحّة إلخ..) إلى وزارة الدفاع.

العرب والعالم أمام اختبارٍ حقيقيٍّ؛ إمّا الانسياق وراء منطق “إسرائيل القويّة”، أو تطوير إستراتيجيّة مضادّة (Counter-Strategy) قائمةٌ على التّضامن والمقاومة القانونيّة والدبلوماسيّة لمحاصرة هذا المشروع التوسعيّ قبل أن يحرق الجميع. الأسابيع والأشهر القادمة كفيلةٌ بكشف ما إذا كانت مقايضة إسرائيل ستنجح، أم أنها ستكتشف أنها راهنت على الحصان الخاطئ في المعادلة الدوليّة

كما تقوم بعمليّة تحوّلٍ ديموغرافيٍّ (سكّانيٍّ) وقانونيٍّ من خلال هندسةٍ سكانيّةٍ جديدة، وهذا هو أخطر جوانب التحوّل، إذ تسعى لنقلٍ طوعيٍّ لسكان غزّة وتروّج لتهجيرهم كـ”حلٍّ عمليّ”، وتبني جهازاً بيروقراطيّاً وقانونيّاً للمواجهة المباشرة مع القانون والمجتمع الدوليين. بالإضافة إلى ضمّ الضّفة الغربيّة وجعلها أمرًا واقعًا، وتطبيق القانون الإسرائيليّ على غور الأردن في خطوةٍ هي الأخرى نحو الضمّ الأحاديّ الجانب. كذلك تقوم عمدًا بإضعاف القضاء والمؤسّسات الرقابيّة تحت ذريعة “الوحدة الوطنيّة” و”حالة الحرب”، وذريعة مسار “الإصلاح القضائيّ”، وتُروّج لثقافة “الحصن المنعزل” من خلال تعزيز الخطاب القوميّ المتشدّد الذي يُصوّر إسرائيل كقلعةٍ محاصرةٍ، ممّا يبرّر التضحية بالحرّيّات في سبيل “البقاء”.

المقايضة المحسوبة

إسرائيل لا تتجاهل ردود الفعل الدوليّة، بل تخاطر بها بشكلٍ متعمّد (Calculated Risk) مقابل مكاسب تعتبرها وجوديّة. تقوم هذه المقايضة بالرّهان على الانشغال العالميّ والانقسامات الدوليّة، هي تُدْرِك أنّ العالم منشغلٌ بأزماتٍ كبرى (أوكرانيا، التّنافس الأميركيّ-الصينيّ)، مما يمنحها هامشاً أكبر للمناورة. وهي تعلم أيضًا أنّ انقسام المواقف الأوروبيّة و”فيتو” الولايات المتحدة في مجلس الأمن يحميها من عقوبات جادّة.

في الوقت عينه، تسعى إسرائيل لإعادة تعريف “الشّرعية” بناءً على القوّة من خلال استراتيجيّة خلق “الوقائع الجديدة (new facts)” وهي فلسفةٌ تقليديّةٌ تعتمد على أنّ العالم سيتقبّل في النّهاية الأمر الواقع الذي لا يمكن عكسه، كما يحصل في المستوطنات وضمّ الأراضي الفلسطينيّة في الضفّة والتهجير في غزة. واستبدال الشرعيّة القانونية بـ”شرعية البقاء” من خلال تقديم أيّ إجراء، حتى لو انتهك القانون الدوليّ، على أنّه “مشروعٌ” في إطار “حقّ الدّفاع عن النفس”.

فضلًا عن ذلك، تراهن إسرائيل على تحوّلٍ في القيم الدوليّة عبر صعود اليمين والشعبويّة في الغرب، وهو ما حصل عمليًّا في دولٍ مثل المجر وإيطاليا وأجزاءٍ من الحزب الجمهوريّ الأميركيّ، وشوكته تتصلّب في الكثيرٍ من الدول في أوروبا الغربية، وهو أكثر تعاطفاً مع الخطاب الأمني المتشدّد وأقل اكتراثاً للقانون الدوليّ. كما أنّها تعتقد وتراهن على أنّ المصالح الاستراتيجيّة للدّول العربيّة ستتفوّق على المبادئ، فالتعاون الأمنيّ السرّيّ مع بعض الأنظمة العربيّة سيستمر برغم الإجراءات العدوانيّة العلنيّة.

ثغرات في الحساب الإسرائيليّ

مع أنّ إسرائيل تحسب الأمور بدقّة من خلال مراكز أبحاثها ودراساتها، إلا أنّ هناك مخاطر قد تكون أقلقتها لكنّها تتجاهلها أو تستهين بها:

  1. التحوّل في الرّأي العام الغربيّ (وبخاصةً بين الشباب)، فانتقاد إسرائيل لم يعد محصوراً بيسار الطّيف السياسيّ. هذا التحول الثقافيّ طويل الأمد قد يترجم يوماً ما إلى ضغوطٍ سياسيّةٍ لا يمكن لأيّ حكومةٍ غربيةٍ تجاهلها.
  2. آليات المحاسبة الدوليّة البطيئة ولكن الثابتة، مثل المحكمة الجنائية الدولية، على بطئها، تحقّق في جرائم حربٍ محتملة. قد لا توقفها هذه التحقيقات فوراً، لكنّها تهدّد بتبعاتٍ قانونيّةٍ على المسؤولين الإسرائيليين على المدى الطّويل.
  3.  تحويل إسرائيل إلى “دولةٍ ثكنة” عسكريّة سيأتي على حساب اقتصادها ومجتمعها المدنيّ، وقد يؤدّي إلى هجرة العقول والأموال والثروات على المديين المتوسط والطويل.
إقرأ على موقع 180  من "الوعد" إلى "الطوفان".. التكوين المُلتبس للقضية (1)

في الخلاصة، التحوّل الذي تقوده إسرائيل هو مقامرةٌ كبرى. إنها تزن بدقّة بين العزلة الدوليّة والمكاسب الأمنيّة، مراهِنةً على أنّ العالم سينشغل وأنّ أنظمته لن تفلح في محاسبتها. لكن هذه المقايضة محفوفةٌ بمخاطر جسيمة، ليس فقط بتعميق العزلة الدوليّة، بل أيضاً بتآكل نسيجها الدّاخليّ، وإمكانيّة انفجار الصراع الإقليميّ بشكل لا يمكن السيطرة عليه.

العرب والعالم أمام اختبارٍ حقيقيٍّ؛ إمّا الانسياق وراء منطق “إسرائيل القويّة”، أو تطوير “إستراتيجيّة مضادّة” (Counter-Strategy) قائمةٌ على التّضامن والمقاومة القانونيّة والدبلوماسيّة لمحاصرة هذا المشروع التوسعيّ قبل أن يحرق الجميع. الأسابيع والأشهر القادمة كفيلةٌ بكشف ما إذا كانت مقايضة إسرائيل ستنجح، أم أنها ستكتشف أنها راهنت على الحصان الخاطئ في المعادلة الدوليّة.

(*) راجع المقالة المترجة (منى فرح) بعنوان: “فورين أفيرز”: رسالة الدوحة الإسرائيلية للعرب.. لا خطوط حمر بعد الآن 

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  إيران وإسرائيل.. حروب الأذرع الخفية