

الصورة اليوم من مصر إلى الخليج العربي، تعيد صياغة السؤال وفقاً للسياق الكبير. فبعد التحييد الكبير لقوة حزب الله في لبنان وبالتأكيد سوريا، وبعد تدمير غزة فوق “حماس”، امتدت اليد الإسرائيلية “الطويلة” إلى الخليج العربي. الرسالة واضحة إلى تركيا بما يتجاوز الواقع القطَري. وفي جنوب إسرائيل، الهائمة بالحلم التوراتي من النيل إلى الفرات، وفي عمق تفكير الدولة المركزية، مصر، شعورٌ غريب: مزيج من الغضب والتأهب والقلق البالغ من العدوانية الإسرائيلية المتفلّتة.
ضمن هذه الصورة للإستباحة والتدمير والتفتيت، تقف المجتمعات العربية أمام نقاش، بل صراع كبير، حول سبل حماية نفسها.
للأمانة، لكلٍّ منها أسباب موجبة وكثيرة. والسياق السياسي وموازين القوى، تمنح إحدى الفكرتين أرجحية، وبخاصة لبنانياً. في السابق، كانت كفة الميزان راجحة لمصلحة حزب الله حين كان في أوج قوته التي فرضت معادلات سياسية في لبنان، ولفكرة المقاومة على أنها الرادع العملي لإسرائيل. كان الخطاب قوياً لتعبيره عن المعنى والواقع.
وحين اهتزت فكرة المقاومة بعد الحرب، عادة فكرة الدولة لتصعد كإحدى وسائل الحماية لهذه المجتمعات. الدولة هنا ذات معنى مفتوح على التأويل والتفسيرات. في الأساس، هي الدولة “الوستفالية” التي تحتكر العنف. لبنانياً، وحتى عربياً، هي الدولة التي تسلك طريق الهدنة مع إسرائيل والعلاقة الوثيقة مع الغرب وأميركا، لتأمين الحماية المفقودة.
في أعقاب نكسة العام 1967 ترسّخت عربياً ثنائية دول المواجهة ودول المساندة، وكان لبنان جزءاً من الفئة الثانية. هذه التقسيمات لم تأتِ من فراغ، بل من “أسباب موجبة” لواقع الأمور. والجواب على السؤال الكبير، لن يأتي سريعاً، لا سيما أن قمة الدوحة لم تخرج بالمقررات والقرارات الجريئة، كما كان يأمل عربٌ كثيرون.. ولعلها أكثر مهمة النخب الطليعية المتنورة أن تدفع بالأجوبة!
تنامى تأثير نقاش فكرة المقاومة بسبب تنوع تركيبة المجتمعات. كان لحزب الله طريقته في إدارة هذا الصراع في لبنان. فمنذ مجزرة تظاهرة طريق المطار في العام 1993، سعى “الحزب” لتفادي الصدام إلا حين تطلبت مصلحته ذلك، كما حصل في 7 أيار/مايو 2008. ليس هناك أعقد من التوافق على مسائل كبرى كما في لبنان. لا بل في المشرق وصولاً إلى العراق بعدما أظهر انهيار الأنظمة السلطوية هشاشة هذه المجتمعات وترسخ التعددية فيها إلى حد الإنفجار والتشظي المجتمعي.
والدولة، حاضرة في خطاب الصراع، إيجاباً وسلباً. مؤيدو فكرة المقاومة أو المجموعات المسلحة خارج الدولة (non state actors)، يتغطون بعدم قدرة الدولة على تأمين وظيفة الحماية. خطاب البيئة الشيعية يُكرّر لازمة ترك الجنوبيين من عام 1948 إلى بدايات الحرب اللبنانية، لترسيخ القوة الذاتية والإبتعاد عن الدولة، إلا من الإستفادة منها والدخول الفاعل فيها بعد 6 شباط/فبراير 1984.
وخصوم فكرة المقاومة، يرون في خروجها عن “الدولة” أداة لتفجير المجتمعات وترجيح كفة مكون على آخر وتعزيز الصراعات على أساس الهوية.
في سوريا والعراق، نقاشٌ من نوع آخر. “العدو” في العراق مرتبط بـ”داعش” وأخواتها أكثر من إسرائيل، ولو أن الحركات المسلحة العراقية نفّذت “رمايات” تحذيرية على إسرائيل، قبل أن تُلجم لاحقاً. أما في سوريا، فصراع بين الحكم الجديد الآتي من جذور متشددة، وبين نزعات الإبتعاد إلى حد الإنفصال عن الحكم الوليد، لدى مجموعات متمركزة في مناطق جغرافية واضحة المعالم، الشمال الشرقي والساحل والسويداء.
التحول الراهن بعد تداعيات 7 أكتوبر، مثير. فقد تجاوز الصراع بين ثنائية الدولة العربية والمقاومة ليصبح كالتالي: إذا كانت الدولة والمقاومة كلتاهما غير قادرتين على تأمين وظيفة الحماية، فأي إطار سيمكنه ذلك، لا بل ما هي الأطر الجديدة لتحقيق الحد الأدنى من مواجهة ذات جدوى؟
قد يكون من المجازفة العلمية الجزم بأن نخب المجتمعات العربية، لا تملك جواباً حاسماً على هذا السؤال الذي لا بد أنه يقض مضجعها.
ففيما ترسل إسرائيل رسائل واضحة من الضربة على قطر إلى تركيا، وتُهدّد مصر، بات عاملا الأمن والحماية يتجاوزان القدرات المحلية للمجتمعات المتنوعة والمنقسمة في المشرق. لا بل إن السجال الذي يتصل بالعصبيات المحلية والإنتخابات التمثيلية، إن لم نقل أنه سخيف، أقله بات قاصراً عن المواكبة والتلازم مع الصورة الإقليمية الأوسع. اللهمَّ، إن كانت النجاة بالنفس وبخاصة النفس اللبنانية، هي الحجة الأكثر إقناعاً بمساحة زمنية للإستراحة من حروب متعبة. هذا من الأسباب الموجبة للهدوء قليلاً.
لكن إلى عقود قادمة، سنبقى أمام كيان ومجتمع متطرف يزعزع كل البنى الدولتية والمجتمعية القائمة. والنقاش، بات ذات بعد عربي-إقليمي حول مسألة الحماية ومستلزماتها، إنما أيضاً حول كفية إدارة الصراع اللامتناهي مع إسرائيل.
والنقاش في أشكال المواجهة مشروع، حتى لو تضمن صوراً سلمية كما حصل في “انتفاضة الحجارة” الفلسطينية والتي دُعمت أميركياً، كما اعترف وزير خارجية الولايات المتحدة جيمس بيكر لنظيره السعودي سعود الفيصل في اجتماعهما الشهير حول لبنان وتكريس تلزيمه لسوريا (كتاب “الإنقلاب على الطائف” للنائب السابق ألبير منصور).
في أعقاب نكسة العام 1967 ترسّخت عربياً ثنائية دول المواجهة ودول المساندة، وكان لبنان جزءاً من الفئة الثانية. وكما في تعبيرات ومصطلحات لا تتناسب مع الراديكالية، ومنها العبارات اللبنانية على سبيل المثال عن “الوطن – الرسالة” و”التفاهم والتفاهم” وغيرها، فإن هذه التقسيمات لم تأتِ من فراغ، بل من “أسباب موجبة” لواقع الأمور.
والجواب على السؤال الكبير، لن يأتي سريعاً، لا سيما أن قمة الدوحة لم تخرج بالمقررات والقرارات الجريئة، كما كان يأمل عربٌ كثيرون.. ولعلها أكثر مهمة النخب الطليعية المتنورة أن تدفع بالأجوبة!