

تُستخدَم مُفرَدة “المَشتَى” كاسم مكان، وربما تُستَعمَل أيضًا في إشارةٍ للزَّمان؛ تبعًا للسِّياق الذي تُوضَع فيه. يُقال على سبيلِ المثال إن الغردقة وشرم الشيخ من أجمل مَشاتي مِصر، وإن كيهك وطوبة وأمشير هي شهورَ المَشتى التي يعتمدها التقويمُ القبطيّ. في العبارة الأولى يُمثِّل المَشتى مكانًا وفي الثانية مِيقاتًا، واللفظ واحدٌ ثابت.
***
لم تزَل الاسكندرية أحب مَشتى إلى قلبي؛ حتى بعد أن تغيَّر وجهُها في الآونة الأخيرة. تحوَّلت شطآنها في كثير المناطق إلى كتل مُتلاحِمة تمنع عن أهلِها وزوَّارها رؤية البحر، وتبدَّلت شوارعها العتيقة وأزقتُها الطيبة لتعكس علاماتِ الحداثة المُنفِّرة، بينما حلَّت مَحلّ الكورنيش الضَّيق القديم حاراتٌ عديدةٌ مُتَّسعة؛ يصادف المارُّ بها حوادثَ سَير شِبه يومية مرعبة، ويُقال أيضًا إن في خطة المسئولين حذفَ الترام الأثريّ مِن على الخارطةِ المُنتهَكة المَغدورة. القضاءُ على روح المدينة السَّاحرة التي انطبع تاريخُها في الأذهان؛ طعنةٌ في صَدر المُتيَّمين بها وسُبَّة في الجَّبين؛ فعلٌ مُؤسٍ يترك في الرُّوحَ ندوبًا لا يمكن محوُها.
***
لا يتأتى تعويضُ الأمكنة ما دُكَّت وأتَت عليها صُروفُ الزمان، والخسائر ما وقعت؛ لا يُمكن استدراكُها ولا التخفيفُ من وطأتها، وإذ أحرَق المغولُ مكتبة بغداد؛ أحد أعظم المكتبات خلال القرن الثالث عشر؛ فإن الكتُبَ والمخطوطاتِ التي أمسَت رمادًا قد تركت جرحًا لا يندمل في عقل الإنسانية، وإذ هَدمَت حركةُ طالبان تماثيلَ بوذا في أفغانستان خلال القرن الحادي والعشرين؛ فإرث لن تُتاح استعادتُه بأي وسيلة. التضحيةُ بالتاريخ على مَذبح الأفكار التافهة، والتفريط في كلِّ ثمين لصالح أصحاب السُّلطة المُتعطِّشين للظهور؛ مأساةٌ كُبرى لن تتجاوز عنها أجيالُ المستقبل، ولن يتسامح معها العارفون بقيمة ما أُهدِر.
***
يقول السَّاحليون وبعضُ أهل الشام وشمال أفريقيا ما أمطرت السماء: “الدنيا بتشتي”؛ وكأن القطراتِ المُتساقِطة مُرتبطة بفصْلِ الشتاء دون غيره، وقد اعتاد الصغارُ فيما مضى ترديدَ أغنية تقول كلماتُها: الدنيا بتشتي وهاروح لسِتّي، ويُرجِع بعضُ الباحثين استخدامَنا مفردة “تشتي” إلى نباتِ الشتوة الموسِميّ الذي ينمو في الأشهُر المَطيرة ولا يظهر في فترات الجفاف.
***
الشتاءُ فصلٌ قريبٌ إلى أهواءِ الكثيرين؛ بمفرداته الشجية من سُحُبٍ وغَيم ورِياح، وبتفصيلاته الصَّغيرة المُحبَّبة التي تمتدُّ لتشملَ رائحة الأرضِ المُبتلة وأوراق الشَّجر النديَّة. برودته تجلو الرُّوحَ وتُنعِش المشاعرَ وتحفِّز على العَمل، وأفقه رحبٌ مَفتوح؛ لا يشتعل بحرارة قاسية أو بضوءٍ عنيف. الشتاءُ بألوانه الناعمة باعثٌ على التأمُّل في الحاضر ومُراجعة الماضي؛ وما أحوجَ المَرء لهدنة يستشرِف فيها القادمَ ويعُد العُدَّة للآتي ويِعيد ضَبطَ بوصلته نحو الهدف.
***
اشتهرت مُحافظتا الأقصر وأسوان بكونهما من أهمِّ المَشاتي على وَجه الأرض؛ ليس بسبب طقسهما الممتع الدافئ وحسب؛ بل كونهما تحتضنان نسبةً هائلةً من أقدم الآثار، ونهرًا من أعظم الأنهار وأغناها. درجنا على التباهي بكليهما؛ ولم نتوان مع هذا عن إساءة التصرُّف تجاههما، سُرِقت آثارنا على مدار الأعوام، أما النهرُ فبات في خطر داهم. دالت المَكانةُ وتراجعت المَهابة، وبقيت قولةُ سيد درويش صالحة للتدليل على الحال وإن مرَّت عليها السُّنون: “دول فاتوا لك مَجد وأنت فُت عار”. الكلمات لبديع خيري من أغنية “قوم يا مصري“ التي تحمل مقاطعها تقريعًا للمتراخين المتخاذلين، وحثًا على الأخذ بأسباب الريادة وصَون المَجد والكرامة.
***
الطريقُ إلى محافظات البحر الأحمر التي تمثل بدورها مشاتي جاذبة، تبدو مَحفوفةً بسخافات لا تُحتَمل. يحكي المسافرون عن أمكنة يُعامَل فيها الزائر كمشتبه فيه وأحيانًا كمُتهم، وعن أشخاص يُوقفون دون سبب واضح، عن أسلوب معاملة سيئ وعن وقت ضائع لا يهتم أحد بقيمته. فرضُ النظام وحفظ الأمن أغراضٌ لا يمكن التفريط فيها؛ لكن التطبيقَ فنٌ نفتقر إليه أغلب الأحيان، أو ربما لا نجد له ضرورة.
***
خريفُ العُمر وشتاؤه تعبيران مجازيَّان يرمزان إلى مراحل زمنيَّة مُتقدِّمة من حياة الإنسان؛ يصبح خلالها أكثر حكمةً ونضوجًا. يدرك حقائقَ مُختلفة عما اعتقد سلفًا، ويتمكَّن من مَعرفة الناسِ بصورةٍ أعمقَ وأشمَل؛ لكنه قد يَعجز عن تحقيقِ الاستفادة القصوى بما عرف وأدرك؛ لأسباب تتعلقُ بتراجع قُدرة الجَّسد وكفاءته، فالنشاط يتناقصُ تدريجيًا وقابلية المرءِ لتحمُّل المشاقِّ المادية والنفسية تتضاءل، الرؤية الثاقبة يصحبها عزوفٌ عن توجيه الآخرين، وانكشافُ المَحجوب يرافقه شيءٌ من اللامبالاة والرغبة في اتخاذ موقع المتفرج، والأهم من هذا وذاك أن المرءَ يزداد قناعة بأن الأمورَ ستمضي كما قُدر لها، وأن مُحاولة اختصار المسافات لن تُجدِيَ ولن تُثمر. يرى إرهاصات التغيير ويملك اليقين بأنه آت لا محالة؛ إنما في وقته.
***
يحلُّ الشتاءُ قريبًا ولم تزل الحربُ دائرةً على أرض فلسطين، ولم يزَل أهلُ غزَّة يقاومون الفناء، ويكابدون معاناةً تتفتت من هولها الجبال، بينما ينتحل جيرانِهم الأعذارَ ويتذرَّعون بسخائف الحُجَج، يتعللون بالشعوب الخانعة ويجعلون منها مشجبًا للتقاعس والخذلان؛ لكنها منهم بريئة، وإن يأتِ الأوان فلا راد لغضبتها، وبالجوار يضرِب الأشقاء مثالًا لم يكن بالبال.