السلطة والهوية.. حزب الله أمام مأزق مزدوج!

منذ تأسيسه في العام 1982، شكّل حزب الله حالة مركّبة بين المحلي والإقليمي؛ فهو مشروع مقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه مكوّن عقائدي متصل بالمرجعية الإيرانية وولاية الفقيه. هذا الوتر المشدود بين الوطنية والعقائدية العابرة للحدود ظل قائمًا طوال العقود الماضية.. الآن جاء وقت الإمتحان، فماذا سيختار حزب الله؟

تأثرت نشأة حزب الله بالثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حيث تحلقت مجموعات من مشارب مختلفة (حزب الدعوة والاتحاد الوطني للطلبة المسلمين وحركة أمل وانتماءات حزبية سابقة) حول الظاهرة التي مثّلها الإمام الخميني وثورته وصولاً إلى ولادة أول مشروع شيعي للسلطة في العصر الحديث. هذا التأثير الإيراني لم يقتصر على الجانب الأيديولوجي، بل امتد ليشمل الدعم العسكري والمالي، ما ساعد الحزب على بناء شبكة اجتماعية مترامية الأطراف تعنى بشؤون الشهداء والجرحى والإعمار والتعليم والصحة والاستشفاء إلخ.. وفي كتابه “حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل”، يقدم الشيخ نعيم قاسم رؤية شاملة لتأسيس الحزب، حيث يشير إلى أن الحزب نشأ من إيمان عميق بالإسلام كمنهج شامل للحياة، مع التركيز على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتحرير الأراضي المحتلة. ويؤكد قاسم أن الحزب لم يكن مجرد رد فعل عسكري، بل كان مشروعًا اجتماعيًا-ثقافيًا يسعى إلى بناء مجتمع قائم على القيم الإسلامية.

بناء الهوية الجماعية

يقول الباحث وضاح شرارة إن حزب الله نشأ في سياق مجتمع شيعي مزقته الحرب الأهلية، حيث سعى إلى تكريس النظام السياسي الطائفي في لبنان عبر تحويل جزء كبير من مجتمع الجنوب إلى مجتمع مغلق نقيض لباقي المجتمع اللبناني بمختلف طوائفه، ما أدى إلى تدمير الفروقات والاختلافات والنزاعات والتباين في “الشعب الشيعي”.

يقف حزب الله اليوم أمام مأزق مزدوج: قوة عسكرية صلبة لكنها بلا شرعية وطنية جامعة، وعزلة إقليمية بعد هزيمة المحور الإيراني في سوريا. السلاح ما يزال حاضرًا، لكنه أصبح أكثر رمزية كوسيلة حماية للهوية والطائفة من كونه أداة نفوذ سياسي مستدام، أي صار يغلب عليه الطابع الدفاعي وليس الهجومي، وهذا الواقع يضع الحزب أمام تحديات حقيقية في كيفية الموازنة بين المشروع الوطني والالتزام الإقليمي-العقائدي، وسط بيئة داخلية متغيرة وإقليم مضطرب

ركز الحزب على بناء هوية جماعية للطائفة الشيعية، مستفيدًا من الظروف الاجتماعية والاقتصادية التاريخية التي مر بها المجتمع الشيعي. حيث قدم الحزب خدمات اجتماعية وصحية وتعليمية، ما عزز مكانته بين أبناء الطائفة. ويورد إيلي غزال في كتابه “تفوق حزب الله: صعود القوة الشيعية في لبنان”، كيف أن الحزب استطاع الاستفادة من ظروف المجتمع الشيعي الهش، والفجوات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لبناء قاعدة شعبية قوية ومتماسكة، مع تحويل الطائفة الشيعية إلى عنصر محوري في الحفاظ على مشروع الحزب.

التحول إلى قوة سياسية وإقليمية

مع مرور الوقت، تحول حزب الله من حركة مقاومة محلية إلى قوة سياسية إقليمية، كما تورد أمل سعد غريب في كتابها “حزب الله: السياسة والدين”، مشيرة إلى انخراط الحزب في بينة النظام السياسي اللبناني وكيفية تبرير ذلك.

في دراسة أخرى، أبرز أوغسطوس ريتشارد نورتون في “حزب الله في لبنان: الأيديولوجيات المتطرفة مقابل السياسات العملية” التوتر بين الأيديولوجيا والسياسة العملية داخل الحزب، ودوره في السياسة اللبنانية. كذلك، تناولت جوديث بالمر هاريك في “حزب الله: الوجه المتغير للإرهاب” التحولات في أساليب الحزب، من حركة مقاومة إلى منظمة معترف بها دوليًا.

العلاقة مع إيران.. الذراع الإقليمي

تعتبر العلاقة مع إيران عقائدياً من أبرز مميزات حزب الله، حيث يُنظر إلى الحزب كذراع سياسي-عسكري لإيران في لبنان. هذه العلاقة أثرت على سياسة الحزب الخارجية، وجعلته جزءًا من محور المقاومة الذي يضم إيران وسوريا وحركات مقاومة أخرى في المنطقة.

في تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة برانديز، ناقش محمد عطائي تحولات شعبية حزب الله وجاذبيته العابرة للطوائف، وكيف أن صراعاته في سنواته التكوينية مع العديد من حلفائه الحاليين شكلت الحزب الذي نعرفه اليوم.

السلاح والمأزق الدستوري

لم يظهر حزب الله في فراغ سياسي، بل كنتاج مباشر للنظام الطائفي اللبناني. اتفاق الطائف نص على حلّ الميليشيات، لكنه استثنى الحزب تحت ذريعة «المقاومة ضد الاحتلال». هذا الاستثناء سمح للحزب بالاحتفاظ بسلاحه، ما أتاح له لعب أدوار متعددة: مقاومة مسلحة، فاعل سياسي، وشريك غير معلن في صياغة معادلات السلطة.

لكن بقاء السلاح خارج إطار الدولة أنتج معضلة: بينما حافظ على قوته العسكرية، بدأ يشوّه صورته الوطنية، وجعل وجوده محل جدل دائم بين الطوائف اللبنانية الأخرى. أحداث 7 أيار (مايو) 2008 كانت لحظة مفصلية في علاقة الحزب بالداخل اللبناني، أظهرت أن فائض القوة العسكرية لم يعد مخصصًا للعدو الخارجي فقط، بل أداة لفرض معادلات سياسية داخلية، برغم تبريرات الحزب أن ما تم استهدافه داخلياً، أي شبكة اتصالاته (وإقالة مدير أمن المطار اللواء وفيق شقير)، يؤدي إلى إحداث خلل في معادلات الردع التي كان يسعى إلى تكريسها في صراعه مع العدو.

إقرأ على موقع 180  عن حربنا الأهلية التي لم تنته بعد!

اتفاق الدوحة وهو نتاج 7 أيار (مايو)، منح الحزب الثلث المعطّل في الحكومات اللاحقة، لكنه أفقده جزءًا كبيرًا من رصيده الوطني. الطوائف الأخرى رأت في سلاحه أداة ابتزاز داخلي، ودشّن ذلك مسارًا طويلًا من تطييف صورة الحزب وحصره في «البيئة الشيعية»، بدل أن يكون مقاومة عابرة للطوائف.

 من الوطنية إلى التطييف

بعد 7 أيار (مايو)، تحول فائض القوة من أداة تفاوض داخلية إلى ورقة استراتيجية في خدمة محور إقليمي تقوده إيران. التدخل في الحرب السورية عام 2012 كان لحظة تأسيسية أخرجت الصراع من الإطار اللبناني-الإسرائيلي إلى ساحة إقليمية، حيث دافع الحزب عن نظام آل الأسد حماية لشريان الإمداد الإيراني، وسقط ما تبقّى من الوطنية الجامعة لصالح تطييف طائفي-عقائدي.. التورط العسكري في الحرب السورية كشف حدود القدرة على الجمع بين مقاومة وطنية والمشاركة في حروب الآخرين، ما أفقد الحزب تعاطف شرائح شعبية واسعة باستثناء التحالفات السياسية والجماعات الممولة منها في مختلف الطوائف، وتحولت صورته إلى قوة شيعية صافية.

الانقسام الداخلي تعمّق، فالقوى اللبنانية الأخرى لم تعد ترى في الحزب رصيدًا وطنيًا، بل مصدر تهديد يجر البلاد إلى صراعات خارجية. فائض القوة تراجع تدريجيًا، فلم يعد الحزب قادرًا على فرض معادلات سياسية بسهولة كما بعد 7 أيار (مايو)، كما أن تكاليف استخدام القوة ارتفعت بسبب العقوبات وفقدان الغطاء الوطني. العقوبات الأميركية والدولية استهدفت شبكات التمويل والمؤسسات المرتبطة بالحزب، وأثّرت على قدرته التمويلية وأضعفت هامش المناورة الاقتصادية للبنان.

حرب غزة.. والاسناد

في حرب غزة دخل الحزب في مواجهة مع إسرائيل تحت شعار «حرب إسناد غزة»، لكن المواجهة كشفت حدود قدرته وعجزه عن ردع إسرائيل بشكل حاسم. تسببت الحرب في دمار واسع في الجنوب اللبناني ونزوح جماعي مع تفاقم الانقسام الداخلي حول شرعية السلاح. فتحوّلت المساندة إلى نكسة استراتيجية أصابت كل معادلات الردع التي أرساها الحزب طوال ربع قرن من الزمن، كما أبرزت أن فائض القوة وهم غير قابل للترجمة العملية، وتحولت القوة العسكرية من أداة استراتيجية إلى عبء سياسي.

سردية السلاح

يُشكّل استحضار التاريخ أداة مركزية في تكريس خطاب الخوف والمظلومية، حيث تُقدّم تجارب المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي؛ أحداث 7 أيار/مايو 2008؛ حروب المنطقة، دائمًا كإطار شرعي يبرّر بقاء السلاح. يستشهد كذلك بالرموز الدينية مثل كربلاء لتأكيد التضحية والمقاومة، ما يمنح السلاح أبعادًا دينية ومذهبية تتجاوز البعد الوطني.

كما أن للسلاح دور آخر يمتد إلى البنية الاجتماعية والثقافية، فالمؤسسات التعليمية والخيرية، الإعلام، والخطب، جميعها تعمل على ترسيخ فكرة أن السلاح هو حماية للهوية والمجتمع. في هذا السياق، يصبح السلاح رمزًا للتماسك الجماعي والهوية الشيعية، ويُحوّل القاعدة الشعبية إلى شريك رمزي في المقاومة، بينما تُحوّل الخصوم إلى «آخر» يهدد وجود الطائفة والمجتمع. هذه السردية تجعل المجتمع الشيعي متكيفًا اجتماعيًا مع وجود سلاح خارج إطار الدولة، ويعزز التماسك الداخلي في مواجهة ما يُصوّر على أنه تهديد مستمر.

اليوم، يقف حزب الله أمام مأزق مزدوج: قوة عسكرية صلبة لكنها بلا شرعية وطنية جامعة، وعزلة إقليمية بعد هزيمة المحور الإيراني في سوريا. السلاح ما يزال حاضرًا، لكنه أصبح أكثر رمزية كوسيلة حماية للهوية والطائفة من كونه أداة نفوذ سياسي مستدام، أي صار يغلب عليه الطابع الدفاعي وليس الهجومي، وهذا الواقع يضع الحزب أمام تحديات حقيقية في كيفية الموازنة بين المشروع الوطني والالتزام الإقليمي-العقائدي، وسط بيئة داخلية متغيرة وإقليم مضطرب.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إتعظوا من الماضي والحاضر.. إنه النظام