برلمان 2026.. هل تولد كتلة لبنانية عابرة للطوائف؟

يشكّل المجلس النيابي اللبناني، منذ تأسيسه، القلب النابض للنظام السياسي في لبنان، إذ يُعتبر المسؤول الرئيس عن سن التشريعات ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية، فضلاً عن دوره المركزي في انتخاب رئيس الجمهورية وفق الدستور ومنح أو حجب الثقة عن الحكومات.

على الرغم من هذا الدور الحيوي، لم يتمكّن المجلس من تأسيس كتلة لبنانية خالصة تتجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية، فمعظم الكتل البرلمانية منذ الاستقلال وحتى اليوم تشكّلت على أسس مذهبية وطائفية ومناطقية، مع بقاء الولاءات السياسية مرتبطة بالزعيم المحلي أو الطائفة التي ينتمي إليها النائب، وهو ما أعاق قدرة البرلمان على إنتاج برامج وطنية شاملة وموحدة، وعطل القدرة على التوافق على إصلاحات استراتيجية تتجاوز حدود المصالح الطائفية.

ينطلق هذا المقال من الإشكالية الجوهرية التي تقول إنه لا يوجد في المجلس النيابي اللبناني كتلة وطنية خالصة، بل توجد كتل طائفية مناطقية، وهو ما ساهم في ضعف الحياة البرلمانية وقدرة النواب على بناء مشروع وطني جامع. السؤال المحوري الذي يطرحه المقال هو: هل يمكن أن تتيح انتخابات مايو/أيار 2026- طبعاً إذا جرت في موعدها الدستوري- ولادة كتلة نيابية وطنية وازنة، وما هي الأدوات والاستراتيجيات التي يمكن أن تحقق ذلك؟. لذلك؛ لا بد من الذهاب الى دراسة وتحليل الجذور التاريخية للطائفية البرلمانية، تقييم القانون الانتخابي الحالي، دراسة أثر البنية الطائفية على أداء البرلمان، ثم اقتراح خارطة طريق عملية تؤدي إلى تشكيل كتلة لبنانية متماسكة في الانتخابات المقبلة.

انتخابات مايو/أيار 2026 تمثل فرصة محورية لكسر الطائفية البرلمانية تدريجيًا، بشرط الالتزام بخارطة طريق استراتيجية، تشمل: توحيد القوائم وتوزيع الأصوات التفضيلية بعناية، بناء شبكة فعالة للناخبين غير المقيمين، تأسيس ائتلاف برلماني منضبط مع ميثاق داخلي واضح، اعتماد برنامج وطني شامل

يعتمد النظام اللبناني على نموذج الديموقراطية التوافقية (Consociationalism) الذي وضعه عالم السياسة آرنولد ليجبارث، والذي يقوم على أربعة عناصر أساسية:

أولاً؛ تشكيل ائتلاف واسع للنخب لضمان حكم بالتوافق بدل حكم الأغلبية.

ثانياً؛ التمثيل النسبي للفئات المجتمعية بما في ذلك الطوائف والمناطق والمجموعات العرقية.

ثالثاً؛ حق الفيتو المتبادل بين الأطراف لضمان حماية مصالح الأقليات.

رابعاً؛ إدارة القضايا الأساسية عبر التوافق لضمان استقرار الدولة.

هذا النموذج، على الرغم من ملاءمته للمجتمعات المنقسمة طائفياً، إلا أنه يؤدي إلى الجمود المؤسساتي ويُؤسّس لهويات أولية قوية على حساب التنافس البرامجي الوطني، وهو ما ظهر بوضوح في تصميم المجلس النيابي اللبناني منذ الاستقلال وحتى اليوم. فقد رسّخ هذا النظام الولاءات الطائفية والمناطقية وأضعف فرص ولادة كتلة نيابية لبنانية غير طائفية متماسكة تستطيع تجاوز مصالح الزعيم المحلي لصالح برامج وطنية واضحة.

تعود الجذور التاريخية للطائفية البرلمانية إلى الميثاق الوطني عام 1943، الذي كان اتفاقًا غير مكتوب بين الزعامات اللبنانية لتنظيم توزيع السلطة بين الطوائف الكبرى في البلاد. نصّ هذا الميثاق الشفهي على رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة الحكومة للسنّة، ورئاسة المجلس النيابي للشيعة، كما نص على التمثيل النسبي للطوائف في البرلمان والإدارة بنسبة 6/5 لصالح المسيحيين. هذا التوازن حافظ على الاستقرار السياسي نسبيًا، لكنه رسّخ الزعامة الطائفية والولاءات المحلية، وأضعف نشوء أحزاب وطنية عابرة للطوائف. دستور 1926 المعدّل، الذي أُعد في ظل الانتداب الفرنسي، أعطى النواب دورًا نظريًا يمثل الأمة جمعاء، لكنه لم ينجح في إحداث تحول جوهري، إذ ظلّ الانتخاب يعتمد على دوائر محلية ترتبط بالولاءات الطائفية والزعامات المحلية، ما أعاد إنتاج الصراعات الطائفية داخل البرلمان وجعل الزعامات المحلية اللاعب الأساسي في الحياة السياسية اللبنانية، ما يعكس بوضوح علاقة النظام الدستوري بالهويات الطائفية والولاءات الشخصية.

جاء اتفاق الطائف عام 1989 مدخلاً لحل للأزمة اللبنانية الطاحنة بعد الحرب اللبنانية، فأدخل تعديلات جوهرية على دستور 1926، لعل أبرزها تحقيق المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في مقاعد المجلس النيابي (رفع عدد أعضاء المجلس إلى 108 نواب لكن حسابات السلطة السياسية في الحقبة السورية رفعت العدد إلى 128 نائباً: 64/64)، وإلغاء الطائفية السياسية كهدف وطني مرحلي، مع إنشاء هيئة وطنية لتفعيل ذلك، وإنشاء مجلس شيوخ عند انتخاب أول مجلس غير طائفي لمقاربة القضايا الطائفية الميثاقية، وتعديل الصلاحيات الرئاسية لتعزيز التوافق على القرارات الجوهرية بما فيها تعديل الدستور الذي يحتاج إلى موافقة ثلثي المجلس. ومع ذلك، بقي الممر الطائفي قائمًا، ما انعكس على استمرار ضعف البرامج الوطنية داخل البرلمان، إذ ظلت معظم الكتل مرتبطة بالهويات الطائفية والمناطقية، ما أعاق القدرة على وضع برامج وطنية متماسكة قادرة على معالجة أزمات مثل الكهرباء، المالية العامة، البنية التحتية، واللامركزية الإدارية.

مع صدور قانون الانتخاب رقم 44/2017، تم اعتماد نظام انتخابي يعتمد على التمثيل النسبي والصوت التفضيلي الواحد ضمن 15 دائرة انتخابية، مع استمرار توزيع المقاعد طبقًا للطوائف، وتحديد أن الصوت التفضيلي يوزع على المرشحين داخل القضاء، كما شمل القانون تخصيص ستة مقاعد للناخبين غير المقيمين. على الرغم من أن القانون فتح الباب أمام بعض الاختراقات، مثل دخول نواب إصلاحيين في انتخابات 2018 و2022، إلا أن ولادة كتلة نيابية لبنانية متماسكة ما زالت محدودة بسبب تشتت اللوائح وتفاوت القدرات التنظيمية، إضافة إلى استمرار ولاءات النواب للهويات الطائفية والزعامات المحلية، وهو ما يضع قيودًا واضحة على قدرة البرلمان على العمل كهيئة وطنية جامعة.

إقرأ على موقع 180  أحداث 6/6: من يريد توريط العسكر بمواجهة الشارع؟

تأثير البنية الطائفية على أداء البرلمان اللبناني يظهر بوضوح في عدة أبعاد:

أولاً؛ تطييف الاصطفافات الحزبية، حيث تُبنى غالبية الكتل على أساس مذهبي أو مناطقي أكثر من كونها منصات وطنية برامجيّة، مما يؤدي إلى ضعف الانضباط التصويتي وتقلب التحالفات وتعطل الإصلاحات الكبرى بسبب الفيتوات المتبادلة.

انتخابات مايو/أيار 2026 تمثل فرصة تاريخية يمكن استثمارها لولادة كتلة نيابية لبنانية مترابطة برامجيًا، شرط تطبيق استراتيجيات دقيقة تجمع بين إصلاح قانون الانتخاب، الانضباط التنظيمي، وبرامج وطنية واضحة، ما يُعزّز قدرة البرلمان على لعب دور أكثر فاعلية

ثانيًا، الزبائنية والتمويل الانتخابي غير المتكافئ، إذ تظهر الدراسات أن المرشحين التقليديين يستخدمون موارد الدولة لدعم حملاتهم، بينما تظل القوائم الوطنية العابرة للطوائف محدودة الموارد، وهو ما يحد من قدرتها على المنافسة الفعالة. نتائج انتخابات 2022 برهنت على وجود اختراق إصلاحي محدود، إذ تمكن نحو 13 نائبًا إصلاحيًا ضمن “قوى التغيير” من دخول البرلمان، ما أكد إمكانية تمثيل يتجاوز الاصطفاف التقليدي، لكن التشتت وضعف الانضباط حال دون تحويل هذا الاختراق إلى كتلة لبنانية فعالة.

الواقع البرلماني اللبناني يظهر توترًا دائمًا بين المدخل الطائفي للتمثيل، الذي تحدده المادة 24 وتوزيع المقاعد الطائفية، وبين الوظيفة الوطنية للنائب، وفق المادة 27 التي تنص على أن النائب يمثل الأمة جمعاء. هذا التناقض البنيوي يجعل ولادة كتلة نيابية لبنانية وازنة تحديًا كبيرًا، لكنه ليس مستحيلًا، إذ أن القانون الانتخابي لا يمنع بالضرورة تشكيل كتلة وطنية، لكنه يفرض قيودًا على المدخل الانتخابي، ما يستلزم تكامل استراتيجية دقيقة من الناحيتين التنظيمية والسياسية، تشمل التخطيط قبل الانتخابات، توحيد اللوائح، إدارة الأصوات التفضيلية، واستثمار الناخبين غير المقيمين بشكل فعال.

انتخابات مايو/أيار 2026 تمثل فرصة محورية لكسر الطائفية البرلمانية تدريجيًا، بشرط الالتزام بخارطة طريق استراتيجية، تشمل: توحيد القوائم وتوزيع الأصوات التفضيلية بعناية، بناء شبكة فعالة للناخبين غير المقيمين، تأسيس ائتلاف برلماني منضبط مع ميثاق داخلي واضح، اعتماد برنامج وطني شامل يتضمن إصلاح القضاء، الكهرباء، المالية العامة، اللامركزية، مكافحة الفساد، قوانين حماية المستهلك والمنافسة. كما تشمل حماية العملية الانتخابية عبر شراكة مع هيئات المراقبة لمنع شراء الأصوات، وتحويل المقاعد الفردية إلى قوة تشريعية منسقة بعد الانتخابات لتعزيز التنافس البرامجي.

في ضوء ذلك، يظهر أن الأزمة البرلمانية في لبنان ليست وليدة اللحظة، بل تراكم تاريخي نتيجة بنية طائفية دستورية وسياسية مستدامة. انتخابات مايو/أيار 2026 تمثل فرصة تاريخية يمكن استثمارها لولادة كتلة نيابية لبنانية مترابطة برامجيًا، شرط تطبيق استراتيجيات دقيقة تجمع بين إصلاح قانون الانتخاب، الانضباط التنظيمي، وبرامج وطنية واضحة، ما يُعزّز قدرة البرلمان على لعب دور أكثر فاعلية في صياغة السياسات الوطنية وتجاوز الولاءات الطائفية التقليدية.. والأهم من ذلك توفر الكتلة العابرة للطوائف القادرة على كسر الإصطفافات وحماية التوازنات اللبنانية.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  زياد الرحباني.. آثار على الرمال