الترامبية مهنة أميركا الجديدة.. Deal or No Deal

عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات من الملاحقات القضائية والجدل السياسي. عودةٌ لم تكن ممكنة لولا ضعف منافسه جو بايدن (قبل أن يُقرّر في ربع الساعة الأخير الإنسحاب لمصلحة كاميلا هاريس) من جهة وصدى محاولة الاغتيال الفاشلة التي أسهمت في حسم النتائج من جهة ثانية..

مع عودة ترامب، عادت الترامبية بوصفها الممر الإلزامي لجعل أميركا عظيمة مجدداً. عودةٌ تخلع قناع مؤسسات الدولة العميقة ومفرداتها المهذبة والمنضبطة وتؤكد أن الطموح في واشنطن لا يحتاج إلى إذن مسبق بل إلى إعلان جريء.

ويُخيّل للكثيرين أن الطريق إلى البيت الأبيض لا بد أن يمر عبر الجامعات الكبرى أو المراكز المالية العالمية، لكن التاريخ الأميركي يُقدّم صورة مغايرة تماماً لذلك. بعض أعظم الرؤساء بدأوا حياتهم في مهن متواضعة لا علاقة لها بالسياسة. أعمال أقرب ما تكون إلى الكد اليومي من أجل لقمة العيش. لكنها لم تمنع أصحابها من الوصول إلى قمة السلطة في الولايات المتحدة.

***

-أبراهام لينكولن؛ رمزُ الحرية وموحّد الأمة الأميركية خلال الحرب الأهلية. عمل في بداياته ساعي بريد في ريف إلينوي في وسط الغرب الأميركي. كان يقطع مسافات طويلة على قدميه ليُسلم الرسائل حتى في أسوأ الأحوال الجوية. يُحكى إنه كان يُعير الطابع البريدي من جيبه الخاص إذا نسي أحدهم وضعه. الرجل الذي حمل رسائل الناس العاديين تحول لاحقاً إلى حامل رسالة سياسية كبرى غيّرت وجه أميركا بإلغاء العبودية ما أن صار الرئيس السادس عشر لأميركا.

-جيمس غارفيلد؛ الرئيس العشرون. بدأ حياته نجاراً يصنع الأثاث بيديه. كان يمزح أحياناً مع أصدقائه قائلاً “إذا لم أنجح في السياسة، سأفتتح ورشة أثاث للكونغرس”.

-هاري ترومان؛ الرئيس الثالث والثلاثون. أمضى سنوات من حياته بائعاً للملابس الداخلية الرجالية. كان يمتلك ذاكرة قوية لدرجة أنه يتذكر مقاسات زبائنه ولو بعد سنوات. وحين سأله صحافي لاحقاً وهو رئيس عما إذا كان ما زال يحفظ هذه المقاسات أجاب مازحاً “لا، لكنني أذكر وجوهكم عندما لم تستطيعوا دفع ثمنها”. الرجل الذي باع قمصاناً داخلية هو نفسه الذي اتخذ القرار الأخطر في القرن العشرين باستخدام القنبلة الذرية وإلقائها على اليابان.

-ليندون جونسون؛ ورث رئاسة أميركا في لحظة حرجة بعد اغتيال جون كينيدي في العام 1963. وُلد الرئيس السادس والثلاثون لأميركا فقيراً وكان في شبابه عامل نظافة ومُلمّع أحذية. كان يضحك مع زبائنه قائلاً “سألمّع البيت الأبيض يوماً ما”.

-ريتشارد نيكسون؛ قبل أن يدخل كلية الحقوق ويصعد في السياسة، كان حطاباً يساعد أسرته الفقيرة.

-جيرالد فورد كان طباخاً في معسكر كشفي قبل أن يصبح مدرباً للملاكمة في الجامعة.

-رونالد ريغان هو الوجه الأكثر شهرة في هذا السياق. قبل أن يصير أحد أبرز الرؤساء المحافظين، كان ممثلاً في هوليوود، وظهر في أحد أفلامه مع قرد. وعندما سأله صحافي لاحقاً عن شعوره بالتمثيل مع الحيوانات، أجاب مبتسماً “كان تدريباً جيداً لمستقبلي السياسي”. هذه القدرة على السخرية من نفسه، وعلى تحويل صورته الإعلامية إلى أداة سياسية، جعلته واحداً من أكثر الرؤساء شعبية في القرن العشرين.

***

وسط هذه القصص التي تبدأ بمقاسات الثياب الداخلية ومسح الأحذية وتنظيف الطرقات وتنتهي بسلطة الرئاسة وحكم البيت الأبيض، يظهر استثناء لافت للانتباه: إنه دونالد ترامب.

لم يأتِ ترامب من الفقر أو من مهن بسيطة بل من عالم المال والأعمال والشهرة. رجل المليارات الذي لمع اسمه في تجارة العقارات وبرامج تلفزيون الواقع كان يفترض أن تمنحه تجربته قدرة على إدارة شؤون الدولة. لكن الطريف أنه في حملته الانتخابية كان يُردّد باستمرار: أنا أعرف كيف أعقد أفضل الصفقات”. وعندما وصل إلى البيت الأبيض، تحوّل كل شيء تقريباً إلى صفقة. حلف “الناتو” صفقة خاسرة. اتفاقية باريس للمناخ صفقة سيئة. علاقة أميركا مع الصين “أكبر صفقة في التاريخ”. تعامل مع السياسة كما يتعامل التاجر مع عقد تجاري. إذا ربح يستمر، وإذا خسر ينسحب. غير أن الدولة العظمى ليست شركة. والمصالح الاستراتيجية لا تُقاس بدفاتر الحسابات.

***

في أوروبا تختلف الصورة كثيراً عن الولايات المتحدة. فالمسار السياسي هناك غالباً يبدأ مهنياً منضبطاً وينتهي صفقاتياً مصلحياً بعكس واشنطن.

معظم القادة الأوروبيين يأتون من خلفيات أكاديمية أو مهنية مرموقة. فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانت باحثة في الكيمياء. بينما تخرج إيمانويل ماكرون من المدرسة الوطنية للإدارة في فرنسا ثم عمل مصرفيا في بنك روتشيلد.

في بريطانيا معظم رؤساء الوزراء أتوا من جامعات النخبة مثل أوكسفورد وكامبريدج. ونستون تشرشل رمز بريطانيا في الحرب العالمية الثانية بدأ حياته ضابطاً ثم مراسلاً حربياً. تيريزا ماي بدأت مسيرتها مستشارة في بنك إنجلترا.

هذه الأمثلة تُبيّن أن الطريق إلى السلطة في القارة العجوز تمر عبر مسارب ومهن ومؤسسات نخبوية تمنح أصحابها رصيداً ما قابل لأن يتحول لاحقاً إلى حساب مصلحة وصفقات.

هذه الحكايات تكشف أن القيادة ليست امتداداً للوظيفة السابقة. بل انعكاس لمزيج من الطموح الشخصي والجرأة والقدرة على التواصل مع الناس. من يُلمّع الأحذية أو يقطع الأعشاب قد يصبح رئيساً عظيماً إذا عرف كيف يترجم تجربته إلى سياسات عامة. ومن يملك المليارات قد يتعثر إذا حوّل السياسة إلى تجارة. وربما هذا هو الدرس الأهم: السلطة في أميركا لا تتعلق بالبدايات بل بالنهايات. المال وحده لا يصنع رجل دولة. تماماً كما أن الفقر لا يمنع أحداً من أن يصبح زعيماً لأكبر دولة في العالم.

إقرأ على موقع 180  رونين بيرغمان: "اتفاق سلام سعودي إسرائيلي مع قنبلة موقوتة"!

***

ثمة مواصفات شخصية حتماً تساعد القائد في النجاح أو الفشل مثل المرونة والثقة والصدق والقدرة على الإقناع وضبط النفس واتخاذ القرار الصعب وبالتالي بناء الشرعية السياسية وثقة الجمهور والتعامل مع الأزمات بحكمة ودراية كبيرين وصولاً إلى تحديد أولويات واضحة والقدرة على التواصل والإقناع وفهم احتياجات المواطنين والتعلم من الأخطاء وتعديل المسار عند اللزوم.

ومع عودة الترامبية، تصبح هذه العناصر كلها موضع مراقبة وتقييم وتشكيك. نحن أمام موجة يمينية تجتاح العالم بأسره ولو أخذنا النموذج الأميركي القائل بـ”أميركا أولاً”، لوجدنا أن الناخبين الأميركيين لن يحاسبوا ترامب على انجازاته الخارجية بل على ما يُمكن أن يُقدمه لجمهوره من مؤشرات داخلية كفيلة بطمأنة الأميركيين كالبطالة، الصحة، التضخم، النمو، الاستثمار، العجز، الفائض المالي، الناتج، الدين العام، احترام القانون إلخ..

حتى الآن، ثمة مؤشرات متناقضة يعزو الخبراء بعضها إلى العامل النفسي مثل مؤشر النمو لكن باقي المؤشرات تنحو بمعظمها نحو السلبية، لكن الاختبار الأساس هو في الانتخابات النصفية في خريف العام 2026. ما يقوم به ترامب حالياً يُذكرنا بكيفية تفصيل قوانين الإنتخابات في لبنان، وذلك على قياس أهل السلطة، وهذا ما تشي به محاولة اعادة رسم الدوائر الانتخابية في كل الولايات الاميركية ولا سيما المحسوبة تاريخياً على الديموقراطيين وأيضاً من خلال التحكم بقرار المحكمة العليا. إذا نجح ترامب في ما يصبو إليه لن يكون مفاجئاً للعالم أن يحظى بولاية ثالثة وأن يبدأ العد العكسي لتحول أميركا إلى دولة من “دول الموز”.

في نهاية الكلام. لم تكن الرئاسة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية يوماً مهنة تُستمدُ من الماضي. هي امتحان قدرة على حمل مصالح امبراطورية عابرة للقارات وإدارة نظام دولي. ومن صخب الأسواق المالية وضجيج هوليوود وورش الأعمال خرج رجال أدوا المهمة ولو بتفاوت. هل يُكتب لترمب أن يكون واحداً منهم؟ أم يجر أميركا ومعها النظام الدولي إلى هبوط مهين في دروب جمهوريات الموز؟

إذا حصل ذلك، يكون ترامب قد كسب مهنة جديدة. صانع مجد أميركا الجديدة بوصفها ليست الحاكمة المطلقة للعالم بل مجرد إمبراطورية موز!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  آثار سياسات الحمائيّة على دول الجنوب العالميّ