الرأسماليّةُ الأميركيةُ.. وقيادة الحرب

العالمُ تحت وطأةِ الحرب. كلُّ الكوكبِ شرقاً وغرباً يمرُّ بلحظةِ اشتعالٍ. تتسابقُ الصراعاتُ الاقتصادية ُتحت مِظلَّةِ الاستعداداتِ العسكرية. النِقاطُ الساخنةُ كثيرةٌ: الساحةُ الأوكرانيّةُ حيث الحربُ الروسيةُ – الأطلسية. ساحة ُغزَّةَ التي تختصِرُ كُلَّ القضيةِ الفِلسطينية. ساحةُ إيرانَ التي تتحضَّرُ بجِديّةٍ عاليةٍ لاحتمالِ حربٍ جديدةٍ عليها.

هذه الساحاتُ الثلاث تبدو في ظاهرِ الجغرافيا منفصلةً لكنَّها مترابطةٌ في الإستراتيجيا؛ إذْ تؤثِّرُ في كلِّ الساحاتِ الأخرى ضمنَ قوسٍ يمتدُّ من بحرِ الصينِ الجنوبي إلى البحر الكاريبي إلى شبهِ القارَّةِ الهنديةِ، إلى القوقاز حيث التنافسُ الخفيّ بين روسيا وتركيا، إلى غرب آسيا كلِّهِ ولا سيّما الساحلُ الشرقيُّ للبحرِ المتوسِّطِ، إلى المضائقِ والممراتِ المائيةِ العالمية حيث تتصادمُ التجارةُ بالتجارةِ وتتّقِدُ المياهُ بالنارِ ويشتدُّ أوارُ محاولاتِ السيطرةِ على المواردِ الطبيعيّة.

“الرأسمالية ُما فوقَ الإمبريالية” هي التي تريدُ الحربَ العالميةَ الثالثةَ، ولقد مهَّدتْ لها فعلاً بتأجيجِ الصراعاتِ الإقليميةِ الموسَّعة. الولاياتُ المتحدةُ تقودُ هذه الحروبَ معَ حليفتِها الدولةِ الصهيونيةِ – الماسونيّةِ العميقة، وتخلُطُ آلتُها الدعائيةُ السياسيةَ بالدين، وبالنهبِ، وبالتغوُّلِ العسكريّ، وتُحاوِلُ أن تُنقِذَ نفسَها منَ السقوطِ حتى لو أشعلتِ الكونَ. سقوطُ التغوُّلِ الرأسماليّ حتميٌّ إستراتيجياً لكنَّه في المدى المنظورِ يحتاجُ إلى سنواتٍ عديدة. ومن هنا بالضبطِ ينبغي أنْ يجري التصدِّي للرأسماليةِ الناهبةِ من زاويةِ وعْيِ إستراتيجيّتها، لا من زاوية تكتيكاتِها الكاذبةِ حين تتحدَّثُ عن السلامِ والديموقراطيّةِ وحقوقِ الإنسان.

وإذا كانتِ الولاياتُ المتحدةُ قد فرَضتْ هيمنتَها الأُحاديَّةَ على العالمِ بعد سقوطِ الاتحادِ السوفياتيّ فإنَّها تُزاحُ تدريجيَّاً اليومَ إذْ لا تستطيعُ أنْ تتنكَّرَ لصعودِ قوىً أخرى أثْبتَتْ نفسَها. ها هو الماردُ الآسيويُّ – الصينيُّ قد خرجَ إلى كلِّ الكوكبِ، ويتفوَّقُ عليها في الزحفِ الناعمِ المتحصِّنِ بالقوةِ العسكريّةِ الصاعدةِ. وها هي أميركا اللاتينيةُ والوُسْطى يصرخُ معظمُها ضدَّها ويتصدَّى لها برغمِ انتشارِ أساطيلِها في المحيط الهادىء والبحرِ الكاريبي ولا سيَّما أمام فنزويلّا وكولومبيا وكوبا. أمَّا روسيا السلافيَّةُ – الأرثوذوكسيّة فقد نهَضتْ وعادتْ تُناظِرُها النِدَّ بالنِدِّ وتتحالفُ معَ الصينِ وكوريا الشَمالية وإيران، وما الحربُ في أوكرانيا سوى رسالةٍ قويّةٍ إلى واشنطن والاتحادِ الأوروبّيّ مُفادُها أنَّ التجرِبتيْنِ: النابوليونيّةَ القديمةَ والنازيةَ الحديثةَ لتهديدِ موسكو تَستحيلُ اِستعادتُهُما.

الخطرُ الكارثيُّ الذي تمثِّلُهُ الرأسماليةُ المتوحِّشةُ بقيادةِ الولاياتِ المتحدةِ هو أنَّهُ كلَّما استفحلَ مأزِقُها هرَبتْ إلى الحربِ. ولذلكَ تشكِّلُ تهديداً للبشريةِ جمْعاء. ونحن في مشرقِ العربِ ومَغربِهم نمثِّلُ الجزءَ الأكثرَ استهدافاً في حروبِ أميركا، فالاستنكافُ عن مواجهتِها سيجرُّنا إلى القاعِ، سياسياً وقوميّاً وحضارياً ووجودياً، وهوَ قاعٌ أعمقُ ممَّا نحن فيه الآن. ولا جدوى من التأَسِّي بأنَّ الأوروبيين سيدفعونَ ثمناً غالياً أيضاً بالرغمِ من أنَّهُم في قلبِ الدائرةِ الرأسماليةِ الواحدة، فالولاياتُ المتحدةُ – النموذجُ ما فوقَ الإمبرياليُّ الأعلى حالياً – لا تتردَّدُ في اِبتزازِ أهلِ دارِها. وهذهِ نتيجةٌ منطقيَّةٌ للتنافُسِ الرأسماليّ – الرأسماليّ الذي يُريدُ فيه كلُّ طرفٍ أنْ يدفعَ الآخرونَ الثمنَ الأفظعَ حتى لو كانُوا حلفاءَهُ. وهنا يظهرُ أكثرَ فأكثرَ أنَّ الأوروبيينَ التابعينَ للولاياتِ المتحدةِ مرَشَّحونَ مثلَ الدولِ العربيةِ ليدفعُوا هذا الثمن. وهم يعيشونَ راهناً مأزِقاً إستراتيجياً وينجرُّونَ إلى التهويلِ بالحرب على روسيا متجاهلينَ أنَّ موازينَ القُوى ليستْ في صالِحِهِم، لكنَّ تبعيّتَهُم لواشنطن ما زالتْ تحولُ دونَ وعْي ٍأوروبيٍّ جديدٍ يصنعُ قراراً عقلانيَّاً على الأقلِّ إنْ لم يكنْ مستقلاً.

تتزامنُ إراحةُ “إسرائيلَ” بموجب اتفاقِ شرم ِالشيخ معَ إطلاقِ واشنطن يدَها في غيرِ غزَّة، ولا سيَّما في لبنانَ وسوريا. وربّما لبنان هو الأكثرُ تأثراً بذلك، فالضغوطُ الأميركيةُ تزدادُ عليه لجرِّهِ إلى تطبيعٍ خطيرٍ يترافقُ مع تكثيفِ الاعتداءاتِ الإسرائيلية على الجنوب والبقاعِ، بكلِّ ما يمثِّلُ هذا الأمرُ من مخاطر على أوضاعِهِ الداخليّةِ خصوصاً معَ تصاعدِ الدعواتِ إلى الإجراءِ الصعبِ بل المستحيلِ لنزْعِ سلاحِ المقاومة، ومن ثمَّ فإنَّ شبحَ اعتداءٍ إسرائيليٍّ واسعٍ يلوحُ في الأفق

تحت وطأةِ الحربِ التي تُلوِّحُ بها الولاياتُ المتحدةُ، وتنفِّذُ بعضها حاليَّاً تعيشُ الأنظمةُ الرسميةُ العربيّة ُالتي تقامرُ بمصيرِ الشعوبِ، وتزحفُ تحت قدمَيْ واشنطن من أجلِ الحفاظِ على سلطتِها السياسيةِ وعلى عروشِها الملكيّةِ وجمهوريَّاتِها الخادعة؛ فضلاً عن أنَّ هذه الأنظمةَ – ويا لَمفارقةِ التاريخِ الساخرةِ – هي في مُعظمِها، ولا سيَّما دولُ الخليجِ، تُموِّلُ الولاياتِ المتحدةَ، وتُقدِّمُ لها ما يكفي ويزيدُ لتُقدِّمَهُ واشنطن إلى الكيانِ الإسرائيلي، بصورةٍ مذهلةٍ إذْ قلَّما رأينا في التاريخِ أناساً يَرْضوْنَ بمساعدةِ الجزَّارِ في وضعِ السكينِ على رقابِهم. ولذا ليس منَ المُتوقَّعِ أنْ ترفعَ هذه الأنظمةُ صوتاً اِعتراضيَّاً على السياسةِ الأميركيةِ، أو أنْ تُفكِّرَ يوماً بأنَّ الثرواتِ التي تملِكُها هي ثرواتٌ وطنيّةٌ وقوميّة ٌلا يجوزُ هدرُها لخدمةِ أعداءِ العربِ، لكنَّ عبادةَ المُلكيةِ والسلطةِ تطغى عندَهم على كلِّ شيءٍ.

أمامَ هذه المعادلاتِ الناريّةِ في العالمِ، ما هي الملامحُ التي تَرْتسِمُ في المنظورِ العربي القريب؟ هنا تبرُزُ الملاحظاتُ الآتية:

أوَّلاً؛ شعارُ “السلامِ المُستَدامِ” الذي أطلقَهُ ترامب في شرْمِ الشيخ لم يتجاوزْ حدودَ التكتيكِ المؤقتِ قصيرِ المدى من أجلِ تهدئةٍ هشَّةٍ لإراحةِ “إسرائيل”، وإخراجِها من عزلتِها، وإطلاقِ يدِها في غيرِ غزَّةَ. وهكذا يبدو واضحاً أنَّ واشنطن وتل أبيب تُراوغانِ، ولا يظهرُ أيُّ مؤشِّرٍ على أنَّ المرحلةَ الثانيةَ من اتفاقِ شرْمِ الشيخ ستدخلُ مرحلةَ التنفيذِ العادلِ، ولا سيّما أنَّ وزيرَ الخارجيّةِ الأميركي ماركو روبيو شدَّ على يدِ “إسرائيل” عندما قالَ خلالَ زيارتِه الكيانَ قبل أيام: “إنَّ على حماس والفصائلِ إلقاءَ السلاح”. ما يعني دعوةً متجدِّدةً إلى اِستسلامٍ يقضي على القضيةِ الفلسطينيةِ، وهذا أمرٌ تاريخي لا يملكُ القدرةَ على الحسم فيه أيُّ فصيلٍ، لا حماس ولا غيرُها، وما زلنا نتذكَّرُ أنَّه في العام 1996 وبعد تصاعدِ العمليَّاتِ الاستشهاديّةِ عُقِدَ في شرْمِ الشيخِ مؤتمرٌ مماثلٌ رفِعَتْ فيه شعاراتُ السلامِ لكنَّ التحالفَ الأميركيَّ الإسرائيليَّ الغربيَّ أسقطَها وعادتِ الحرب.

إقرأ على موقع 180  ما بعد الدولة، ما قبل النظريّة.. التشظي مختبراً للحرية الجديدة (1)

ثانياً؛ تتزامنُ إراحةُ “إسرائيلَ” بموجب اتفاقِ شرم ِالشيخ معَ إطلاقِ واشنطن يدَها في غيرِ غزَّة، ولا سيَّما في لبنانَ وسوريا. وربّما لبنان هو الأكثرُ تأثراً بذلك، فالضغوطُ الأميركيةُ تزدادُ عليه لجرِّهِ إلى تطبيعٍ خطيرٍ يترافقُ مع تكثيفِ الاعتداءاتِ الإسرائيلية على الجنوب والبقاعِ، بكلِّ ما يمثِّلُ هذا الأمرُ من مخاطر على أوضاعِهِ الداخليّةِ خصوصاً معَ تصاعدِ الدعواتِ إلى الإجراءِ الصعبِ بل المستحيلِ لنزْعِ سلاحِ المقاومة، ومن ثمَّ فإنَّ شبحَ اعتداءٍ إسرائيليٍّ واسعٍ يلوحُ في الأفق.

ثالثاً؛ فكرةُ إدارةِ الحربِ العالميةِ التي تُريدُها واشنطن عبرَ حروبٍ إقليميةٍ متعددةٍ، يرغبُ بها أيضاً عددٌ وافٍ من الدولِ العربيةِ، إذْ يعتقدُ هؤلاء أنَّ ضربَ إيرانَ ممكنٌ من دونِ أنْ يتأثَّروا، ويحلمونَ في الوقتِ نفسِهِ بضربِ اليمن والتخلُّصِ منه، لكنَّهم يتناسَوْنَ أنَّ الموازينَ تغيَّرتْ في العامين الماضييْن، ويستنكفونَ عن قراءةِ المعاني البعيدة للتحالف الروسي الإيراني الصيني الذي لن يكون خارج معادلات الردِّ في أيِّ منطقةٍ تمتدُّ إليها نيرانُ الشرقِ الأوسط.

وبقدْرِ ما تظهرُ كلُّ هذه الأمور واضحةً أمامنا، بقدْرِ ما نتأكَّد من أنَّ الرأسماليةَ العالميةَ، بقيادةِ الولاياتِ المتحدةِ تتجِّهُ إلى محاولةِ حلِّ مآزقِها عبرَ إشعالِ الحروب، لكنَّها رَغمَ ذلكَ لن تستطيعَ إنقاذَ نفسِها، وستكونُ الولاياتُ المتحدةُ إمبراطوريَّةً في طريق الزوالِ ومعَها الكيانُ الإسرائيلي، ولن يؤخِّرَ ذلك سوى التردُّدِ في مواجهتِها. إنَّ التصدِّي لها هو الممرُّ الوحيد الذي يُنقذُ البشريَّةَ من حربِ الإفناء.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  حمّى الكورونا تُذيب دول الملح