لبنان وإشكالية التفاوض بين الضرورة.. والسيادة

يعيش لبنان في مرحلة دقيقة تتقاطع فيها الضغوط الدولية والإقليمية مع التهديدات الأمنية الميدانية، ما يجعله أمام تحدٍّ وجودي يتجاوز حسابات السياسة الداخلية. فالمناخ الدبلوماسي في المنطقة يشي بمسار تطبيعي متسارع مع إسرائيل، وبمحاولات مستمرة لإدماجها في ترتيبات الأمن والاقتصاد الإقليميين، في ظلّ تراجع واضح للدور العربي التقليدي، وتمدّد للنفوذ الأميركي والإسرائيلي في ملفات الطاقة والحدود والمياه الإقليمية.

في هذا السياق، تتكثّف الضغوط على لبنان لدفعه نحو مسار تفاوضي جديد مع إسرائيل، يُقدَّم هذه المرة تحت عنوان “تسوية الحدود البرّية” أو“تثبيت وقف إطلاق النار”، لكن خلف هذه العناوين يختبئ هدف سياسي أعمق يتمثل في إدماج لبنان بمنظومة إقليمية أو بما بات يُعرف بمشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يُعيد رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط على حساب مبدأ السيادة الوطنية.

تتزامن هذه الضغوط أيضاً مع تصعيد عسكري إسرائيلي متكرّر على الحدود الجنوبية، بلغ ذروته في الساعات الأخيرة مع توغلات برية (اقتحام بلدية بليدا وقتل أحد الموظفين المدنيين فيها) وغارات طالت العمقين الجنوبي والبقاعي واستفزازات بحرية وجوية شبه يومية (تجاوزت الأربعة آلاف منذ اتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، وهذه كُلها تُشكّل جزءًا من سياسة “القضم البطيء” التي تعتمدها تل أبيب لفرض وقائع ميدانية تمهّد للتفاوض مع لبنان من موقع القوة. في المقابل، يجد لبنان نفسه أمام معادلة دقيقة: من جهة ملزم دوليًا باحترام اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2024، ومن جهة أخرى، لا يستطيع أن يتجاهل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية والخروقات التي تنتهك سيادته، وهذا ما استوجب صدور موقف عن رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون هو الأول من نوعه منذ وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى، بالطلب من قيادة الجيش اللبناني إعطاء الأوامر للعسكريين اللبنانيين للتصدي لأي توغل إسرائيلي في الأراضي اللبنانية المحررة.

وعلى الرغم من التباينات السياسية الداخلية، فإنّ الثابت الوطني يتمثّل في ضرورة أن يبقي لبنان على مكامن القوة التي يختزنها- عسكرياً، شعبياً، ودبلوماسياً- كعامل ردع أساسي يعزّز موقفه التفاوضي ويحميه من الضغوط والإملاءات. فالتجربة التاريخية منذ عام 1982 أثبتت أنّ المفاوضات لا تُفرض على دولة قادرة على الدفاع عن نفسها، وأنّ الدبلوماسية اللبنانية كانت دائمًا أكثر فعالية عندما كانت مدعومة بتوازن قوى واقعي على الأرض.

لكنّ الإشكالية الحقيقية لا تكمن فقط في كيفية إدارة المفاوضات، بل في البيئة السياسية التي تُهيّئ لها. إذ لا يمكن فصل ملف التفاوض عن الانقسام الداخلي حول مفهوم “السلام” وحدود التعامل مع إسرائيل. فشريحة واسعة من اللبنانيين تعتبر إسرائيل دولةً عدوانية محتلة لا تزال تحتل أراضي لبنانية، وتخرق السيادة براً وجواً وبحراً، وترى أنّ أي تفاوض قبل تحقيق الانسحاب الكامل والالتزام بالقرارات الدولية سيكون تنازلاً مقنّعًا عن الحقوق الوطنية.

أما على المستوى الدستوري، فإنّ النصوص واضحة في تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية، الذي يُعتبر وفق المادة 49 من الدستور رأس الدولة ورمز وحدتها، والساهر على احترام الدستور وحماية استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه. وهذا الموقع يمنحه هامش تقدير في تحديد شكل وأطر التفاوض، سواء أكان مباشراً أم غير مباشر، بما يضمن عدم المسّ بالمصلحة الوطنية العليا. ومن هنا، تصبح المزايدة على موقع الرئاسة أو التشكيك بوطنيتها خروجًا عن منطق الدولة، إذ لا يمكن تحميل الرئاسة مسؤولية سياسية عن ملفات تحتاج إلى توافق وطني شامل وغطاء شعبي واضح.

في المقابل، تُدرك القوى السياسية اللبنانية أنّ أي مسار تفاوضي لا يمكن أن ينطلق من موقع الضعف والانقسام، بل من وحدة داخلية تعيد الثقة بالمؤسسات وتوحّد الخطاب السياسي حول الثوابت الوطنية. فالتفاوض الناجح لا يُبنى على الرغبة بل على القدرة، ولا يستقيم تحت التهديد أو الضغوط الاقتصادية، بل في ظلّ توازن يحمي القرار السيادي.

ولعلّ ما يميز لبنان، برغم هشاشة بنيته الداخلية، هو قدرته التاريخية على المناورة السياسية الذكية وتوظيف عناصر قوته الوطنية للحفاظ على موقعه في قلب المعادلة الإقليمية دون التنازل عن ثوابته. فلبنان لا يُمكن أن يكون ساحة أو هامشاً في لعبة الأمم، بل يجب أن يثبت أنّه دولة قادرة على حماية حدودها ومصالحها عبر موقف متماسك يجمع بين الدبلوماسية الحذرة والردع المشروع.

ولا يتمثل التحدّي الراهن في رفض التفاوض كمبدأ، بل في تحديد شروطه ومعناه: هل هو تفاوض من أجل تثبيت الحقوق اللبنانية، أم بوابة لإدخال لبنان في ترتيبات أمنية تخدم مصالح الآخرين؟ هل هو مسار لحماية السيادة، أم خطوة نحو تطبيع سياسي واقتصادي يُفقد الدولة آخر أوراق قوتها؟

وفي المحصلة، لا يمكن للبنان أن يخوض أي تفاوضٍ ناجح إلا إذا توفّرت ثلاثة شروط أساسية:

أولاً؛ التزام الطرف الآخر باتفاق وقف اطلاق النار، أي وقف الخروقات والاغتيالات والاعتداءات والإنسحاب من الأراضي اللبنانية واطلاق سراح الأسرى اللبنانيين.

ثانياً؛ وحدة الموقف الداخلي اللبناني في مقاربة ملف التفاوض من دون مزايدات.

ثالثاً؛ الاستناد إلى عناصر القوة الوطنية، السياسية والعسكرية والاقتصادية والاعلامية والثقافية، باعتبارها الضمانة الفعلية لأي تسوية عادلة ومتوازنة.

إقرأ على موقع 180  مبادرة ماكرون اللبنانية.. أممية بإدارة فرنسية

باختصار؛ لبنان اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إمّا أن يفاوض من موقع السيادة والإرادة الحرة، أو أن يُزجّ به في مسارٍ إقليمي مفروض عليه. وفي كلا الحالتين، يبقى الخيار الوطني الصادق هو حجر الزاوية. فالوطن لا يُصان بالخطابات ولا بالولاءات العابرة، بل بثبات الموقف ووعي الدولة في زمنٍ تحاول فيه القوى الكبرى إعادة رسم خريطة المنطقة على أنقاض الشعوب.

معركة لبنان ليست معركة تفاوض فحسب، بل معركة وجود وكرامة، تُختصر بمعادلة واضحة: لا سلام بلا سيادة، ولا سيادة بلا قوة، ولا قوة بلا وحدة وطنية.

Print Friendly, PDF & Email
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "تسونامي بيروت" يتردد صداه في بكين!