نبدأ حديثنا مع وزير المال من عند موازنة العام 2026؛ يرفض جابر تحويل الموازنة إلى «حاوية فرسان» تشريعية. النص، كما يقول، التزم المواعيد الدستورية وجرّد نفسه من البنود الدخيلة، مع اعتراف صريح بأن الاستثمار لا يتجاوز 10–11% وأن الكتلة الكبرى تذهب للرواتب والحماية الاجتماعية. النواقص تُعوَّض بتمويل خارجي مبرمج: قرض بقيمة 250 مليون دولار من البنك الدولي لإعادة الإعمار على جدول، وقروض للكهرباء والزراعة والمياه قيد المتابعة. لا يعني ذلك شراء الوقت، بل ربط الاستثمار الثقيل بموارد طويلة الأجل لا تتحمّلها خزينة مثقلة.
كل ذلك يتداخل مع معركة أخرى لا تقلّ حساسية: إخراج الاقتصاد من سيطرة النقد الورقي. هنا يضع جابر خطة تشغيلية مباشرة: رقمنة قبض الدولة في المالية والعدل والاقتصاد والعمل، الدفع بالبطاقات بدل النقد، تشديد رقابة مصرف لبنان على شركات التحويل، ملاحقة الصرافين المخالفين وفرض غرامات على التأخير في توريد الأموال. الفكرة بسيطة وقاسية في آن: لا اندماج ماليًا بلا أثرٍ رقمي، ولا أثر رقميًا بلا دولة تُجبى أموالها إلكترونيًا.
في خلفية المشهد، يحرص الوزير ياسين جابر على تثبيت صورة «وفد واحد» يتعامل مع الصندوق: وزارة المال، حاكم مصرف لبنان، وزراء ومستشارون ومدراء عامون ضمن تفويض حكومي واضح. الخلافات موجودة، يعترف، لكنها تعالج على الطاولة نفسها، في بيروت كما في واشنطن، و«التقدّم حاصل» ولو كان متدرّجًا. الهدف القريب ليس توقيعًا متسرّعًا، بل وضع الاتفاق «على السكة» وترتيب تراتبية الخسائر بقوانين متناسقة: قانون الفجوة (أو الانتظام المالي)، قانون معالجة أوضاع المصارف، وتوزيع الأعباء وفق معايير دولية تحمي المودع قبل المساهم، وتمنح القضاء أدوات الإنفاذ.
ولكي لا يختلط الأمل بالتمنّي، يضع جابر خطًا أحمر أخيرًا: لا نهضة بلا قطاع مصرفي فاعل. المطلوب، بحسبه، عملية «سلسة» لإصلاح المصارف: تدقيق، رسملة، التزام بالقوانين المحلية والدولية. من يلتزم يستمر، ومن يعجز يخرج وفق قواعد الحوكمة والقانون لا بالاستثناءات. في المقابل، يتحدّث بثقة أكبر عن ملاءة وسيولة أفضل لدى المصرف المركزي تُستخدم بحكمة.
خلاصة الصورة التي يرسمها وزير المال صريحة: اتفاق الصندوق ليس تمويلاً طارئًا بقدر ما هو «تأشيرة عودة» إلى النظام المالي العالمي. هنا تتشكّل قصة خروج ممكنة شرط أن تقترن الأقوال بالأفعال. وإلا، سنعود إلى المربع الذي سمّاه الوزير بلا مواربة: «الانتحار الاقتصادي».
لكن، حين تُطارد الناسَ الأسئلةُ عن ودائعهم، تغدو العدالةُ أكثرَ من نصٍّ قانوني؛ لا تعود الحقوقُ مادةَ مساومةٍ أو أخذٍ وردّ، وتتحوّل العناوين الكبيرة، مثل «تراتبية الخسائر»، إلى همٍّ يومي، فيصير الكلامُ مسؤوليةً أخلاقيةً وقانونيةً معًا.
وبين حقوقِ الناس وواجبِ الدولة وتهرب المصارف ومسؤولية مصرف لبنان خيطٌ دقيقٌ اسمه العدالة الاجتماعية. في هذا الحوار، يشرح وزيرُ المال ياسين جابر مقاربةً تُقدِّم صِغارَ المودعين، وتُلزم بالمحاسبة قبل الشطب، وتُحمِّل الخسائرَ لمن استفاد قبل من تضرّر. فهل ينجح هذا المسار في ردّ الكرامة إلى الودائع وأصحابها واستعادة الثقة بالقانون؟
***
180 بوست: ما الأساس القانوني لتوصيف الودائع العالقة بين «مشروعة» و«غير مشروعة»؟ وهل صدر رأي أو اجتهاد قضائي أو تعميم مُعلَّل يحدّد معايير هذا التصنيف ويُميّز بين أنواع الودائع، بما فيها «الفوائد الفاحشة»؟
ياسين جابر: هذا هو السؤال الذي أطرحه أنا أيضًا، وهو بحاجة إلى متابعة جدّية. حاليًا يضع مصرف لبنان إطارًا عامًّا ويعرض مقترحًا على لجنةٍ يرأسها رئيس الحكومة وتضمّ وزيرَي المال والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان لمتابعة ملفّ الودائع. يوضح الحاكم أنّه «لا يستطيع تحديد رقمٍ نهائيّ للودائع الواجب ردّها» قبل معالجة ثلاثة محاور:
1. الفوائد الباهظة/الفاحشة: قبل الأزمة قدّمت المصارف عروضًا مُغرية لاجتذاب الودائع (فوائد حتى 12–14% وأحيانًا مكافآت نقدية عند التجميد). تُصنّف هذه كفوائد فاحشة، وسيتمّ شطبها من دون المسّ بأصل الوديعة.
2. الأموال «غير الشرعية»/مجهولة المصدر: كأنْ نجد على سبيل المثال موظّفًا عاماً براتب محدود، وهو في الوقت عينه يملك وديعة بمليون دولار. عالميًا، فتح الحساب يخضع لمبدأ «اعرف مصدر الأموال». هنا تُجرى مراجعة مصدر الأموال؛ فإذا ثبُت أنها مجهولة المصدر تُشطب.
3. ودائع ناتجة عن تحويلات من الليرة إلى الدولار: حالات فُرضت فيها تسويات على حسابات بالليرة ثم جرى ردّها بالدولار. وستُدرس هذه الحالات لإيجاد مخرجٍ متوازن وعادل.
لا بدّ من شطب الأموال المتصلة بعمليات فساد وإثراء غير مشروع. وقد عُدّلت أحكام السرّية المصرفية لهذه الغاية تحديداً، (ولكي يصبح التدقيق في الحسابات ممكناً). وقد نشهد في الفترة المقبلة مساءلة مسؤولين عن مصادر الأموال بموجب قوانين الإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد
في تفاصيل إعادة الهيكلة، الوديعة حتى مئة ألف دولار «مصونة بالكامل». وهذا ليس شعارًا إنشائيًا بل تعهدًا ممزوجًا بخطة سداد مقسّطة من ثلاث إلى أربع سنوات قيد الدرس، ربطًا بتوافر السيولة. ما فوق هذا السقف لن يُترك للفوضى: برنامج يمزج سيولة تدريجية مع سندات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل وفق حجم الوديعة وقدرة الخزينة والمصرف المركزي على التمويل. «الكلّ يأخذ مئة ألف كاملة»، يوضح الوزير، «والباقي يُدار بآلية عادلة وشفافة».
أما «بيت النار» في النقاش العام، الفوائد المبالغ بها والودائع ذات الشوائب، فلا مكان فيه للمقاربة الشعبوية. هناك حالات «غير طبيعية» نشأت في سنوات الهوس بسعر الفائدة العالي والتحويلات السريعة بين الليرة والدولار، لكن المعالجة ستكون قانونية فردية لا «شطبًا عشوائيًا». لكل مودِع حقّ إثبات المشروعية، ولكل حالة معيار مرجعي واضح يقيس الفوائد على أساس أسعار عالمية ومخاطر بلد، بعيدًا من مقصلة الاتهام الجماعي.
-قبل أي شطبٍ مقترَح للأرصدة والودائع، أليست هناك إجراءات تدقيق محاسبي/جنائي إلزامية لكلّ مصرف لإثبات المسؤوليات، أي محاسبة المصارف قبل المسّ بالودائع؟
-بالتأكيد. الحديث هنا عن تدقيق شامل. فلا تُشطب الوديعة عند «معالجتها»، كما أنّ تخفيض الفائدة لا يُلغي الوديعة ذاتها. أضف الى ذلك أن الآليات المطروحة لا تطال كلّ الودائع. لكن ولمعالجة الأوضاع الشاذة والممارسات الخاطئة التي كانت سائدة خلال الفترة الماضية، لا بدّ من شطب الأموال المتصلة بعمليات فساد وإثراء غير مشروع. وقد عُدّلت أحكام السرّية المصرفية لهذه الغاية تحديداً، (ولكي يصبح التدقيق في الحسابات ممكناً). وقد نشهد في الفترة المقبلة مساءلة مسؤولين عن مصادر الأموال بموجب قوانين الإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد.
-هل تقصد أن المصارف ستخضع لإجراءات تدقيقٍ جنائي لكلّ مصرف قبل توزيع المسؤوليات؟
-التدقيق الجنائي لمصرف لبنان بدأ. لا أدري إذا كان مصرف لبنان بحاكميّته الجديدة قد أرسل “الداتا” الناقصة والتي كانت قد طلبتها شركة «ألفاريز آند مارسال». لكن هذا لا يمنع من إخضاع كلّ مصرف لتدقيق محاسبي، حيث يلزم.
وفي هذا الإطار، سبق للمدعي العام المالي أن طالب باسترداد التحويلات التي تمّت بعد 17 تشرين/أكتوبر 2019، وقد قُسّمت الحالات إلى ثلاث فئات:
1. فئة «الأشخاص العاديين» الذين قاموا بتحويل أموالهم الخاصة في ظلّ غياب قانون الكابيتال كونترول.
2. السياسيّون: وهنا يُمكن فتح نقاش قانوني للتفاوض حتى يُعيدوا جزءًا من الأموال المحوّلة.
3. مدراء ومساهمو المصارف: هؤلاء يملكون معلومات داخلية وكانوا على علمٍ بالأزمة؛ وهنا يُطبّق مفهوم «فترة الريبة- نحو سنةٍ ونصف السنة قبل التوقّف عن الدفع». من حوّل في تلك الفترة وحتى قبل التوقّف الرسمي عن الدفع للمودعين يُحاسَب، لكن كلّ ذلك رهن القضاء الذي عليه أن يفرض التدقيق ويقدّم الإثباتات والادلّة.
-وفق الإطار الذي يضعه حاكم مصرف لبنان، ماذا عن مبدأ تحمّل المسؤولية؟
-لم يعد مبدأ توزيع المسؤوليات وجهة نظر بل أصبح قانوناً، وهو قانون إصلاح القطاع المصرفي/إعادة هيكلة المصارف، والذي نُشر في الجريدة الرسمية مع ملحقٍ لتراتبية الخسائر. تبدأ الخسائر بأموال المساهمين نزولًا في السُّلّم، ويأتي المودع في المراتب الأخيرة وِفق التراتبية المحدّدة قانونًا.
لن نتهرّب من المسؤولية، لكننا لن نقفز إلى أرقام تطيح الملاءة وتُدخل البلاد في دين عام جديد بلا سقف. خلف هذه المعادلة رؤية واضحة: حماية هيكل الدولة والمصرف المركزي معًا شرطٌ لحماية المودعين
-على ماذا يرتكز مصرف لبنان لتحميل هذه المبالغ لوزارة المالية؟ ما السند القانوني؟
-بعد سنوات من الانهيار المالي، بدأ رياض سلامة يطرح أرقامًا لتجميل ميزانية مصرف لبنان المركزي؛ حتى أنني سألتُ أحد كبار المحامين الذين عملوا معي في ملفّ «اليوروبوندز»: «حين كنتم تُعدّون الملف، هل ذكرتم الـ 16.5 مليارًا؟» فقال: «أبدًا». وهذا دليلٌ على أنّ ما طُرح لاحقًا مجرّد نشر معلومات كاذبة. ولا تقرير بأنّ وزارة المالية مدينة بـ16.5 مليارًا، وإلا أين المستندات التي تُفيد بذلك؟
لا يمكن تحمّل تسديد مبلغ توازي قيمته نصف الناتج المحلي، ففي ذلك مخاطرة على طريقة تعامل الدولة مع حاملي اليوروبوندز الذين يمكن أن يعتبروا أن الدولة اللبنانية قد غشّتهم بعدم الإفصاح عن حجم دينها قبل الاستدانة. ومع تسوية الوضع مع حمَلة اليوروبوندز والالتزامات التي على لبنان الإيفاء بها ستتخطّى نسبة الديون الـ110٪ من الناتج المحلي، وهذا ما سيضغط سلباً على قدرة الدولة على تحمّل الدين المزمن.
في هذا السياق، طلبتُ من شركة «لازارد» إعداد دراسة حول «قدرة الدولة على تحمّل الدين»، فجاءت النتيجة أنّ الدولة لا تحتمل هذه الصيغة؛ وعليه يبقى الأمر رهن التفاهم على حلٍّ يُراعي الاستدامة المالية.
لكن ما يهم، أن الدولة ليست متهرّبة من المساهمة في رسملة مصرف لبنان من دون أن تعترف بدين غير قانوني. هنا، يريد حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، أن يُسجّل هذا الدين من ضمن الأصول في ميزانيته حتى تكون لديه الملاءة الكافية. لكن لمصرف الملاءة المالية الكافية: عنده ذهب بـأكثر من 32 مليار دولار، وكاش بـ 11 مليار دولار، وهذا ما يوازي 43 مليار دولار، ويضاف إليها يوروبوند بنحو 2 مليار دولار، فضلاً عن ممتلكاته.
يقترح حاكم مصرف لبنان تحويل مبلغ الـ16.5 مليارًا إلى «Bond» سندٍ لا نهائيّ الاستحقاق تُدفَع عليه فائدة. لكن سعر السوق قد يجعل من الـ16.5 مليارًا هذه، 3 مليارات فقط لا غير تبعًا للفائدة والظروف.
لن نتهرّب من المسؤولية، لكننا لن نقفز إلى أرقام تطيح الملاءة وتُدخل البلاد في دين عام جديد بلا سقف. خلف هذه المعادلة رؤية واضحة: حماية هيكل الدولة والمصرف المركزي معًا شرطٌ لحماية المودعين.
-على ذكر اليوروبوندز، هل بدأتم التفاوض مع حملة السندات؟
-لم نبدأ بعد، لكن سنفعل قريباً. اجتمعتُ بهم بحضور محامين وبشرط عدم اعتماد أيّ كلامٍ كمسوّغ قانوني. وشرحنا أنّ لبنان غير جاهزٍ للتفاوض بعد.
-ردّ 100 ألف دولار لكل مودع ثم تحويل الفائض إلى سندات لمدة بين 10 و25 سنة، كيف ينسجم مع «عدم الرجعية الضارة» و«التوقّع المشروع»؟
-ضمن خطة الحاكم المُراعية لقدرة الدولة على التحمّل، والودائع لدى مصرف لبنان، يقول الحاكم كريم سعيد إن لديه الملاءة لا السيولة فإذا أمّنت الدولة حصتها، وساهمت المصارف بحسن نيّة، عندها يمكن بالسيولة المتاحة ردّ أول 100 ألف دولار لكل المودعين.
-ومن يتحمل مسؤولية الأخطاء؟
-المشكلة تعود إلى سياسات نقدية بدأت منذ العام 1993. يومها سُعي إلى النهوض بالاقتصاد بالاتكال على السوق المحليّة وتحويلات المغتربين بالإضافة إلى القليل من التمويل الدولي. واعتمد رياض سلامة مقاصة الدولار في “المركزي” حتى التعامل بالدولار وكأنّه عملة محلية، فخلقت المصارف نقودًا ائتمانية تضاعفت دفترياً عبر الجهاز المصرفي. ولكن عند ساعة الحقيقة احتاج الاقتصاد دولارات حقيقية لم تكن بالأصل موجودة.
الخطأ الثاني هو التوسع، عام 1997، تم إصدار سندات خزينة بالليرة اللبنانية وحمل “المركزي” كميّات ضخمة منها، حتى صار حوالى 70% من الدين العام بالليرة (مقابل 35 ملياراً يوروبوندز/قروض دولية). ومع انهيار الليرة ظهرت الفجوة. لذا فإنّ المعالجة تكون تدرّجية لا دفعة واحدة.
-كيف يُقيَّم السند المُعاد للمودع؟
-قد يُمنح سندٌ بقيمة اسميّة 100 دولار ويُباع في السوق بـ80 بحسب الفائدة والظروف. ويمكن تسييله عند فتح أسواق رأس المال. هذه خطة الحاكم؛ نجتمع أسبوعيًا لتطويرها. من لديه بدائل فليطرحها. أما اقتراح بيع/استثمار الذهب فطُرح بدايةً لكنه لا يؤمّن تلك العوائد الضخمة، وبالتالي فإن استثماره لن يمثّل حلاً عملياً، فهو قد يعود بـ100 مليون دولار سنوياً بأفضل تقدير.
-إذًا لا نيّة لاستخدام الذهب أو بيعه الآن؟
-لا، ليس الذهب مطروحًا للتصرّف أو البيع ولا حتى للاستثمار لأن عوائد استثماره خجولة. يُدرج الذهب ضمن «سلّة الملاءة» التي تتكوّن من الذهب والسيولة والموجودات العقارية والمساهمات المصرفية، والتي تجعل ميزانية لبنان «تتجاوز 50 مليار دولار». بكلامٍ آخر، القيمة الذهبية ليست احتياطًا جامدًا، بل ركيزة تضمن قدرة المصرف المركزي على الإصدار وتسوية الودائع من دون اللجوء إلى بيع أي غرام من المعدن الأصفر.
فرضنا 3% مُسبقة على كل البضائع، ثم عدّلناها فحصرناها بمن لم يدفع الضرائب في آخر 3 سنوات: تُجبى 3% كضريبة على الحساب إلى حين التسوية، على غرار الاقتطاع المسبق من رواتب الموظفين. وندرس تطبيق اقتطاعٍ مماثل لبعض المهن (الطب، المحاماة إلخ) بحيث يُحسم مبلغ للضريبة ويُسوّى في التصريح السنوي. الهدف إشاعة ثقافة الامتثال الضريبي
-أين دور لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة وديوان المحاسبة في مسار التدقيق والإحالات القضائية؟
-للجنة الرقابة دورٌ في مراقبة المصارف والتدقيق، ويُجيز القانون الاستعانة بمدقّقين دوليين عند الحاجة. هيئة التحقيق الخاصة تتسلّم قضايا الأموال غير الشرعية/شبهات التبييض ثم تُحيل إلى النيابة العامة المالية والقضاء. وديوان المحاسبة يُعنى بالصفقات والعقود. لكن في إطار المحاسبة نحن نُعِدّ مسارَين يندرجان ضمن صلاحياتنا كوزارة مال:
أولاً؛ التدقيق الجنائي بملفّ الدعم بمليارات الدولارات من مصرف لبنان. في هذا السياق أعددنا دفتر شروط لمناقصة اختيار شركة تدقيق جنائي مختصّة؛ وقد حوّلته إلى وزير العدل للموافقة عليه والدعوة سويًّا.
ثانياً؛ التحقيق في ملف «صيرفة»: طلبنا بيانات من المصارف، فتذرّعت بمرسومٍ يُحدّد دقائق تطبيق قانون السرية عند الاقتضاء. لذا قمنا بتحضير مرسوم، وبمجرّد صدوره سوف نستدعيهم. التحقيق في الواردات والصرف الضريبي يجري عبر مدقّق حسابات يرفع تقريراً يُحال إلى القضاء لإجراء المقتضى.
-مع أنّ عمر حكومتكم ما يزال قصيرًا، ماذا ستفعلون حيال أن 90% من الإيرادات تُجبى من الفقراء؟ ما الخطة التشريعية العاجلة لتحقيق العدالة الضريبية؟
-أصحاب الأموال والأغنياء، بوصفهم الأكثر إنفاقاً يدفعون أكثر. ونحن نعمل على قانونٍ للسياسات الضريبية. عالميًا يزداد الاعتماد على الضرائب غير المباشرة، وأبرزها الضريبة على القيمة المضافة (VAT) لأنها ضريبة على الإنفاق: كلّما أنفقتَ أكثر دفعتَ أكثر للـVAT ، مع بعض الإعفاءات (كأغذية الأطفال والحليب إلخ..).
زيادة الضريبة ليست بالأمر اليسير. نحن لا نزال في وضعٍ صعب. لكن هذا لا يعني التساهل في تحصيل الضرائب المستحقّة. وقد صدر قرارٌ بحجزٍ جمركي على التجار الذين لا يُسدّدون ضرائبهم، وخلال يومين تهافتت نحو ألف شركة لدفع مستحقاتها.
سياستي ليست زيادة الـVAT الآن، لكن رفع التحصيل والرسوم الجمركية حيث يلزم. في الجمارك سنضع خلال شهر أجهزة كشف للحاويات المستوردة للتأكد من عدم الغش في التصاريح الجمركية. أجرينا مناقصة ب 1.2 مليون دولار لتحديث الأنظمة المعلوماتية. الفكرة أن تُحمَّل مستندات الشحنة مسبقًا: شهادة المنشأ، الفاتورة الأصلية…) عندها يولّد «كود» إلكتروني بحيث تتبلّغ الجمارك قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بمحتوى الحاوية. ولدينا برامج تحليل/تقدير المخاطر لتصنيف الشحنات (أحمر/أخضر) وتحديد الكذب والتلاعب والغشّ.
وكنّا قد فرضنا 3% مُسبقة على كل البضائع، ثم عدّلناها فحصرناها بمن لم يدفع الضرائب في آخر 3 سنوات: تُجبى 3% كضريبة على الحساب إلى حين التسوية، على غرار الاقتطاع المسبق من رواتب الموظفين. وندرس تطبيق اقتطاعٍ مماثل لبعض المهن (الطب، المحاماة إلخ) بحيث يُحسم مبلغ للضريبة ويُسوّى في التصريح السنوي. الهدف إشاعة ثقافة الامتثال الضريبي.
-كيف تُفسّرون أمام المجتمعَيْن الدولي والمحلي غياب ملاحقات جنائيّة بحقّ مصرفيين أو مسؤولين تسبّبوا بكارثة الودائع؟
-وزارة العدل والقضاء هما المعنيان في هذا الملف؛ ليست لنا كوزارة مال أي سلطة مباشرة على المصارف أو على القضاء.
-إذًا التقصير قضائي؟
-هناك ورشة إصلاح قضائي بدأت. محاسبة القضاة أولًا واجب، ثمّ يأتي فتح الملفات، وطلب كشوف الملكية والحسابات المصرفية.. أي على القضاء أن يبدأ بمحاسبة نفسه قبل محاسبة غيره.
-وماذا عن استرداد الأموال المحوّلة إلى الخارج؟ هل يمكن اللجوء إلى اتفاقيات مساعدة دولية لدعم إجراء المدّعي العام المالي؟
-إذا وُجد ملفّ قضائي ثابت وصدر في لبنان حكمٌ، يمكن طلب تنفيذه خارجًا عبر التعاون القضائي.
لكن من واجب القضاء أن يُحدّد الشرائح التي حوّلت الأموال بعد 17 تشرين: سياسيون، أصحاب مصارف، ثم سواهم وهذا بديهي. على النائب العام المالي التحرّك.
لكنّ المشكلة ليست بمصرف واحد بل بالنظام ككلّ. القطاع المصرفي كلّه، بما فيه المصرف المركزي، متورّط: جُذبت أموال، ودُفعت فوائد مرتفعة، طُلبت تحويلات. المنظومة المصرفية كلها كانت متواطئة، ومن يقرأ الأرقام (عجز الموازنة، خدمة الدين المحلي والأجنبي) منذ 12 سنة، كان ليرى أن المشكلة قادمة خصوصاً وأن عجز الموازنة كان بالجزء الأكبر منه نتيجة الفوائد على الدين.
ترسم الحكومة خطًّا فاصلاً بين واجب السداد وواجب الصون المالي: تسوية تُحافِظ على الحقّ من غير أن تُسقِط القدرة. ليس المطلوب منا لا الإنكار ولا المغامرة. علينا أن نكون واقعيين وأن يتحمل كل واحد منا مسؤولياته وعندها نضع بلدنا على سكة التعافي.. وأنا على ثقة أن اللبنانيين يملكون من الإرادة والقدرة والثقة ما يجعلهم يتجاوزون هذه الأزمة، برغم ما يعتري مسيرتهم من صعوبات
-كلّ ما سبق من إصلاحات، كيف يُصرف في السياسة ضمن جدول الأعمال اللبناني وإعادة بناء الدولة؟ أيمكن تنفيذ كلّ ذلك بمعزلٍ عن حصرية السلاح؟
-برأيي لا. واضح أنّ المطلوب دوليًا وإقليميًا الآن هو نزع السلاح، ثمّ السير في الإصلاحات توازياً. في المؤتمرات، كلها، لا حديث إلا عن «إصلاحات» والعمل بها واجب وطني قبل أن يكون مطلبًا دوليًا. داخل الحكومة نقاشٌ دائم لرفع القدرة على الإصلاح وإعادة الإعمار على الرغم من محدودية الإمكانات.
-وماذا عن ملف إعادة الإعمار؟
-في ملف إعادة الإعمار، ننتظر إقرار قانون إعادة إعمار البنى التحتية (250 مليون دولار من البنك الدولي)، وهو خطوة أولى. لدينا 75 مليون يورو من الفرنسيين ولدينا وعود من بعض الصناديق العربية. ومن الخزينة نساهم وِفقاً لإمكانياتنا، منحنا مجلس الجنوب مؤخراً 18 مليون دولار، ونعمل على تدعيم الإنشاءات لـ500 مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت ومنحنا الهيئة العليا للإغاثة 200 مليار ليرة حتى تبدأ العمل وسأصرف حوالى 12 مليون دولار كدفعة أولى. يحتاج التدعيم الإنشائي إلى 50 مليون دولار وهو ليس مبلغاً كبيراً، فالعراق سبق وتبرّع بـ 20 مليون دولار.
-كلمة أخيرة معالي الوزير؟
-حكومة الرئيس نواف سلام لن تُحمِّل الخزينة أعباءً لا تطيقها ولا أرقامًا تفوق قدراتها. بذلك ترسم خطًّا فاصلاً بين واجب السداد وواجب الصون المالي: تسوية تُحافِظ على الحقّ من غير أن تُسقِط القدرة. ليس المطلوب منا لا الإنكار ولا المغامرة. علينا أن نكون واقعيين وأن يتحمل كل واحد منا مسؤولياته وعندها نضع بلدنا على سكة التعافي.. وأنا على ثقة أن اللبنانيين يملكون من الإرادة والقدرة والثقة ما يجعلهم يتجاوزون هذه الأزمة، برغم ما يعتري مسيرتهم من صعوبات.
