متى تثور أوروبا على.. أوروبا؟

في قلب القارة التي وُلدت فيها الفلسفة الحديثة، يتأمل العقل الأوروبي ذاته كمن ينظر إلى نهرٍ جفّ ماؤه وبقيت فيه الحجارة شاهدة على زمنٍ كان مفعماً بالضوء.

أوروبا، تلك الفكرة التي حلم بها هيغل وجعلها نيتشه معبراً نحو الإنسان الأعلى، تعيش اليوم ارتباكاً يختلط فيه الإعياء الفكري بالانحدار الاقتصادي وبالبحث عن هوية جديدة تحت سماءٍ مزدحمة بالرموز الأميركية. ليس الصراع بين الذات والآخر سوى مواجهة بين ما تبقّى من روحٍ حرّة وما يفرضه واقعٌ يتسارع بلا روح.

لقد خُلقت أوروبا الحديثة على يقينٍ بأن العقل قادر على تنظيم العالم، وأن التنوير هو الطريق نحو الخلاص الإنساني. غير أنّ هذا اليقين انقلب عليها، فتحوّل العقل إلى أداةٍ تكنولوجية باردة، والإبداع إلى سلعةٍ تسوّقها المنصات الرقمية. تآكل المعنى في فضاءٍ كان يوماً مهد الفلسفة والفن والموسيقى، وصار الإنسان الأوروبي يختبر فراغاً داخلياً يوازي امتلاء المدن بالمادية الصارخة. هكذا بدأ التمزّق: بين ما يُنتَج وما يُحسّ، بين ما يُعرض على الشاشات وما يُعاش في الشوارع، بين صورة القارة التي صدّرت الوعي للعالم وواقعها الذي يستهلك ذاته في دوائر الاستهلاك.

الأزمة الاقتصادية ليست حدثاً عارضاً، بل جرحاً مزمناً في الجسد الأوروبي. حين انهارت البنوك، لم ينهَر المال فحسب، بل انهارت الثقة؛ تلك الكلمة التي كانت أساس العقد الاجتماعي. المواطن الأوروبي الذي وُعد بالأمان والرفاه، وجد نفسه وسط دوّامة بطالةٍ وتضخّمٍ وهجرةٍ معاكسة للمعنى. الجنوب المتعب من ديون الشمال، والشرق الفقير من رخاء الغرب، يكشفان هشاشة الوحدة الاقتصادية التي أرادها الاتحاد الأوروبي جداراً من فولاذ، فتحوّلت إلى شبكةٍ من المصالح.

العقل الأوروبي اليوم أمام خيارين: أن يواصل الارتهان لقوى الخارج ويغرق في شيخوخةٍ روحية واقتصادية، أو أن يُعيد تعريف ذاته كفضاءٍ للحرية والكرامة والمعرفة. حين تختار أوروبا أن تفكر من جديد؛ أن تعيش لا كقارةٍ ماضية بل كضميرٍ حاضر، يُمكنها أن تعثر على معنى آخر لتاريخها. فالأزمات ليست نهاية، بل بدايةُ وعيٍ جديد، وذاك ما يجعل أوروبا، برغم تعبها، قادرة على النهوض كلما ظنّ العالم أنّها انتهت

أوروبا التي كانت ترى نفسها عقل العالم، أصبحت تعتمد على قرارات تصدر من وراء الأطلسي لتعرف كيف تتصرّف في أزماتها الطاقوية أو المصرفية أو الأمنية.

ومع كل أزمة مالية، تبرز أزمة أعمق: أزمة هوية. لم تعد أوروبا تعرف إن كانت غرباً في مواجهة الشرق، أم شرقاً يحاول أن يبقى غرباً. العولمة أذابت الحدود الثقافية، والمهاجرون الذين جاءوا طلباً للحياة جاؤوا أيضاً بما يُذكّر أوروبا بإنسانيتها القديمة. هذا التعدد أثراها وأربكها في آنٍ معاً. فقد أرادت أن تكون بيتاً للعالم، لكنها شعرت بأنّ البيت لم يعُد بيتها وحدها. في باريس وبرلين ومدريد، تتجاور اللغات والديانات والأزياء والموسيقات، ويتحوّل الفضاء العام إلى فسيفساء من الذوات، كلٌّ منها تطلب اعترافاً، وكلٌّ منها تحيا داخل قلقها الخاص. هكذا يغدو الاندماج معركة رمزية أكثر منه عقداً مدنياً.

الهوية الأوروبية التي قامت على العقلانية والإنسانية والحرّية، تكتشف أنّها فقدت توازنها حين وضعت هذه القيم في خدمة السوق. الإنسان الذي كان محور الوجود، أصبح رقماً في منظومة الإنتاج والاستهلاك. الحرية التي كانت أساس الثورة الفرنسية، تحوّلت إلى حرية شراء. العقل الذي كان يُفكّر في العدالة، صار يُفكّر في النموّ. هذه المفارقة تفسّر شعور الأوروبي بالإنهاك والاغتراب، وتُحوّل القارة إلى مختبر للضجر، حيث يبحث الناس عن معنى في الأفلام والمسلسلات أكثر مما يجدونه في الفلسفة.

في المقابل، تقف الهيمنة الأميركية كظلّ طويل يمدّ جسده فوق الخرائط الأوروبية. ليس الأمر استعمارًا بالسلاح، بل استعمارًا خفيًا للخيال واللغة ونبض الثقافة. أوروبا تعتمد على حلف الأطلسي لحمايتها، وعلى الدولار لاستقرارها، وعلى وادي السيليكون لتغذية اقتصادها الرقمي. بهذا الشكل، يتحوّل العقل الأوروبي إلى تابعٍ في عالمٍ صاغته أمريكا على صورتها: سريع، استهلاكي، برّاق، ومفكك من الداخل. هيمنةٌ لا تُرى بالسلاح، بل بالشاشة، بالسينما، بالمنتجات التي تُحدّد الذوق والوعي والموقف. حين تتابع أوروبا الانتخابات الأميركية أكثر من نقاشاتها الداخلية، تدرك أنّها أسيرة زمن التبعية الرمزية قبل السياسية.

وبرغم هذا الانحدار الظاهري، يظل في العمق شعاع كامويّ يرفض الاستسلام. كان ألبير كامو يرى أن الإنسان، حين يعي عبث الوجود، يبدأ بالتحرر. كذلك أوروبا حين تعي عبث واقعها، تستطيع أن تبدأ من جديد. فالمشكلة ليست في الانهيار، بل في فقدان الإرادة للنهوض والنهضة. على القارة أن تستعيد صوتها الداخلي؛ أن تُصالح بين قيمها القديمة وروح عصرها؛ أن تعيد للثقافة دورها كمحرّكٍ للكرامة لا كديكورٍ للترف. الثورة التي دعا إليها كامو ليست بالسلاح، بل بالوعي، بثورةٍ ضد اللامبالاة، ضد الخضوع للمألوف، ضد تحويل الإنسان إلى أداة.

العقل الأوروبي اليوم أمام خيارين: أن يواصل الارتهان لقوى الخارج ويغرق في شيخوخةٍ روحية واقتصادية، أو أن يُعيد تعريف ذاته كفضاءٍ للحرية والكرامة والمعرفة. حين تختار أوروبا أن تفكر من جديد؛ أن تعيش لا كقارةٍ ماضية بل كضميرٍ حاضر، يُمكنها أن تعثر على معنى آخر لتاريخها. فالأزمات ليست نهاية، بل بدايةُ وعيٍ جديد، وذاك ما يجعل أوروبا، برغم تعبها، قادرة على النهوض كلما ظنّ العالم أنّها انتهت.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  اليسار المصري في الحوار الوطني.. معزوفة رديئة!
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  حدود التصعيد الإسرائيلي مع لبنان.. "نصر مطلق" أم "خسارة استراتيجية"؟