يتتبع هذا الكتاب زيارات وجولات وأعاجيب السيد المسيح في الجنوب اللبناني، من مدينة صور الفينيقية إلى شقيقتها صيدا، ومن بلدة قانا إلى بلدات القليلة والصرفند ومغدوشة، وعلى طول الخطّ الساحلي، حيث كان الفينيقيون واللبنانيون الأوائل في طليعة الذين آمنوا برسالة السيد المسيح. وهو الذي قال لامرأة من صور: «ما أعظم إيمانكِ يا امرأة» كما يروي إنجيلا مرقس ومتى، ولم يقلها المسيح إلا لتلك المرأة الصورية.
وفي تفاصيل سيرة المرأة الكنعانية مع السيد المسيح كما يرويها القديس متّى: خرج يسوع إلى نواحي صور وصيدا، فأقبلت عليه امرأة كنعانية (في إنجيل مرقس: امرأة فينيقية) من تلك البلاد، وصاحت: «ارحمني يا سيّدي يا ابن داود، ابنتي فيها شيطان». فدنا تلاميذه وقالوا: «اصرفها عنّا». لكن المرأة سجدت له وقالت: «ساعدني يا سيّدي». فأجابها: «لا يُؤخذ خبز البنين ويُرمى إلى الكلاب». فقالت المرأة: «نعم يا سيّدي، حتى الكلاب تأكل من الفتات الذي يتساقط من موائد أصحابها». فأجابها يسوع: «ما أعظم إيمانكِ يا امرأة، فليكن لكِ ما تريدين». فشُفيت ابنتها من تلك الساعة.
والسيّد نفسه هو الذي أنجد أرملة من بلدة الصرفند. وعن لسان يسوع يروي إنجيل لوقا: «كان في إسرائيل كثير من الأرامل في أيام إيليا، حين احتبست السماء ثلاث سنوات وستة أشهر، فأصابت الأرض كلها مجاعة شديدة. ولم يُرسل إيليا إلى واحدة منهن، وإنما أُرسل إلى أرملة في صَرِفَت صيدون». وصرفت هو الاسم الكنعاني/الفينيقي للصرفند الحالية، وكانت من أعمال مدينة صيدا.
فهل ذاك كلام عابر ما يقوله السيد المسيح عن امرأتين من نساء فينيقيا في صور والصرفند، وهما جدّتا اللبنانيات الجنوبيات اللواتي كان السيد المسيح يلجأ إلى مدنهن وقراهن كلّما طلب الراحة وبعد أن يكون الفريسيون والأسينيون قد كابدوه نوازل ونكالًا؟
يقول بيلغرينو رونكاليا إن الأدلة الأثرية تُظهر مدينة صور عالمية الحضور في أيام يسوع وفي ذروة ازدهارها، وكانت مدينة صيدا تُعرف بـ«صيدون الكبرى». وجاء يسوع بالديانة الجديدة إلى تلك الناحية. ويشير إلى أنّ المعلّقين على الكتاب المقدّس يلاحظون مجيء السيد المسيح إلى منطقتي صور وصيدا كلّما أراد تجنّب استفزازات الفريسيين والصدوقيين وأسئلتهم المخادعة. وبالقرب من صور وصيدا كان يلقى السكينة والسكون.
ويفيض المؤلّف في الحديث عن بلدة قانا التي شهدت الأعجوبة الأولى للسيد المسيح. وقانا، تلك البلدة الفينيقية اللبنانية الجنوبية، تحضر شواهدها وآثارها في الكتابات الهيروغليفية المصرية القديمة. وقد جاءها المسيح وأمّه السيدة مريم العذراء لمباركة سرّ الزواج في العرس الشهير، كما يروي إنجيل يوحنا. وفي قانا كانت السيدة العذراء تتصرّف مع أهل العريس بحرية وحميمية، ممّا يدل على رابطة الصداقة الوثيقة التي كانت تجمعها بتلك العائلة من بلدة قانا. ويقول يوحنا في إنجيله: «أولى أعاجيب يسوع صنعها في قانا، فأظهر مجده وآمن به تلاميذه».
أمّا الأعجوبة الثانية في البلدة ذاتها، فيرويها القديس يوحنا أيضًا، وخلاصتها أنّ رجلًا نبيلًا من بلدة كفرناحوم جاء إلى قانا حيث كان المسيح، فطلب شفاء طفله الصغير، فقال له يسوع: «اذهب… إن ابنك قد شُفي». ومن قانا تلميذان معروفان للمسيح: فيليبس ونتنائيل، ويُقال إن سمعان كان منها. ولو خرجنا قليلًا عن كتاب بيلغرينو رونكاليا، واستدعينا حوارًا للأب يوسف يمّين يعود إلى 16 تموز/يوليو 2010، لوقف القارئ متأمّلًا بما يقوله عن هوية تلامذة المسيح: فقد كانوا كنعانيين بأجمعهم، ما عدا يهوذا الإسخريوطي الذي كان من أورشليم، وقد غدر بالمسيح مقابل ثلاثين من الفضة وفق النصوص الإنجيلية.
وليس بعيدًا عن قانا تقع بلدة القليلة، وحيالها ينقل المؤلّف عن المعتقدات الشعبية أنّ النبيّ عمران، والد السيدة العذراء، مدفون في البلدة، وضريحه تعلوه قبّة وسياج حديدي. وإلى الشمال من قانا والقليلة، وبعد عبور الصرفند، وعلى الطريق الساحلية نفسها، تقع بلدة مغدوشة. وفي أعلى هضبتها تمثال المنطرة للسيدة العذراء، وهي تميل بوجهها نحو مدينة صيدا، أولى المدن الجنوبية اللبنانية والعريقة بمجدها وفينيقيتها. ووفق بعض رواة السيرة، إنّه عندما دخل المسيح صيدا بقيت العذراء مريم تنتظره على هضبة مغدوشة لتطمئن عليه وحتى تراه عائدًا إليها سالمًا معافى.
ويحفل كتاب بيلغرينو رونكاليا بمعلومات موسّعة حول كل خطوة خطاها المسيح في جنوب لبنان. وما يدعو إلى التوقف عنده تلك الخصوصية الإيمانية التي يخصّ بها يسوع مدينتي صيدا وصور. فبعدما عاندته المدن اليهودية، يقارن المسيح معاندتها مع أحوال الصيدونيين والصوريين، مستشهدًا بما يورده متّى ولوقا عن أنّ مصير صيدا وصور في يوم الحساب سيكون أفضل من كورزين (بلدة تاريخية يُرجّح أنّها قرب بحيرة طبريا) ومن بيت صيدا (بلدة مختلف على موقعها التاريخي). ولذلك يعدّ المسيح كورزين وبيت صيدا بالويل والبلاء: «وأما أنتِ يا كفرناحوم، أترتفعين إلى السماء؟ لا، إلى الجحيم ستهبطين».
وإذ يصعب إحصاء المرات التي يتحدث فيها المؤلف عن مدينة صور، فإنّ ما يورده عن قصة «الشيكل» (العملة الإسرائيلية الحالية) يستحق التأمّل. فـ«الشيكل» يعني الثقل أو المثقال في اللغات السامية، وأول من صكّ عملة فضية بهذا الاسم هم أهل صور. وبقي «الشيكل» الصوري متداوَلًا خمسة قرون، وتجاوزت قيمته قيمة العملة الرومانية. وعلى وجهه الأول كان يظهر نقش لهيكل ملقارت، سيد مدينة صور، وعلى الوجه الآخر عبارة: «صور المقدسة التي لا تُقهر». ثمّ صادَر اليهود فكرته قبل ميلاد المسيح، فأصدروا «شيكلًا» خاصًا بهم، ونقشوا على أحد وجهيه رسمًا لهيكلهم، وعلى الوجه الآخر: «إسرائيل المقدسة».. والمفارقة أنّ السيدة العذراء كانت تدفع الصدقات بـ«الشيكل» الصوري.
وعلى هذا النحو من السرد يصل المؤلف إلى القول: «إنّ الأرض المقدّسة تعني بالنسبة للمسيحيين المكان الذي عاش فيه يسوع وتلامذته، وتكلّموا واجترحوا المعجزات وطافوا البلاد وعلّموا الناس، وهذا ما فعله يسوع وتلامذته في قسم من فينيقيا المسمّى الآن لبنان الجنوبي».
قبل الختام؛ في إنجيلي متّى ولوقا هذه العبارة للمسيح: «أورشليم… أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المُرسَلين إليها».
وفي الختام؛ طوبى لمن سار على درب المخلّص.
