سوريا الجديدة.. “داعش” في البادية ومخيم الهول بين الأمن والعبء الإنساني (4)

يُمثّل ملف تنظيم "داعش" في البادية السّورية ومخيم الهول في الشّمال الشّرقي أحد أكثر التّحديات تعقيدًا أمام الدّولة السّوريّة الجديدة. فبين نشاط خلايا التّنظيم في الصّحراء الممتدة بين وسط سوريا وحدود العراق، والوضع الشّائك لآلاف النّساء والأطفال والمحتجزين المرتبطين بالتّنظيم في الهول، تتقاطع الأبعاد الأمنيّة والقانونيّة والإنسانيّة والسّياسيّة في آنٍ واحد.

شكّلت البادية السّورية، الممتدّة من ريف حمص الشّرقي مرورًا بدير الزور وصولًا إلى الحدود العراقيّة – السّورية، فضاءً مناسبًا لنشاط تنظيم “داعش” بعد خساراته المتتالية كل مراكز سيطرته الحضريّة في كل من سوريا والعراق، مُستفيدًا من طبيعة المنطقة الجغرافيّة؛ ضعف الكثافة السّكانية؛ تشابك خطوط السّيطرة بين أطرافٍ متعدّدة، والأهم أنها تُشكّل بيئةً ملائمةً لحرب العصابات وعمليّات الكرّ والفرّ. ومع انتقال السّلطة في دمشق إلى حكومةٍ جديدة، بقيت خلايا التّنظيم تنشط عبر هجماتٍ على طرق الإمداد، واستهداف قوافل عسكريّة وشاحناتٍ مدنيّة، وزراعة عبواتٍ ناسفةٍ في مناطق متفرّقة.

ومن هنا، تواجه الدّولة السّورية الجديدة إشكاليّةً مركّبةً في التّعامل مع هذا الواقع. من جهة، تسعى إلى إثبات قدرتها على بسط الأمن على كامل أراضيها، بما في ذلك المناطق الصّحراويّة الواسعة. ومن جهةٍ أخرى، تعتمد في بعض القطاعات على تنسيقٍ أمنيٍّ مع أطرافٍ أخرى فاعلةٍ في المنطقة، مثل روسيا، وقوات سوريا الدّيموقراطيّة (قسد) شرق الفرات، والقوّات العراقيّة عبر الحدود، إضافةً إلى تأثيرٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ للوجود الأميركيّ في بعض نقاط الشّمال الشّرقي. هذا التّعدد في الجهات المنخرطة في ملف مكافحة “داعش” يفرض على دمشق العمل في إطار شبكات تنسيقٍ إقليميّةٍ ودوليّة، وليس فقط عبر إجراءاتٍ أحاديّة.

وفي موازاة ذلك، يمثّل مخيم الهول في محافظة الحسكة تحدّيًا من نوعٍ مختلف. فهو يضمّ عشرات الآلاف من النّساء والأطفال، إلى جانب عددٍ من الموقوفين أو المحتجزين المرتبطين بالتّنظيم، سوريين وغير سوريين. وتقع الإدارة الفعلية للمخيم ضمن سيطرة الإدارة الذّاتيّة و”قسد”، بدعمٍ وتنسيقٍ مع أطرافٍ دوليّة. ويضع هذا الأمر الواقع الدّولة السّورية الجديدة أمام معضلتين رئيسيتين: الأولى تتعلّق بمواطنيها من المقيمين في المخيّم، والثّانية تتعلّق بدورها ومسؤوليتها إزاء الأبعاد الإقليميّة والدّوليّة للملف.

وعلى المستوى الأمنيّ، ينظر العديد من المراقبين إلى الهول بوصفه بيئةً محتملةً لإعادة إنتاج شبكات التّطرّف، خصوصًا في الأجيال النّاشئة من الأطفال الذين عاشوا معظم حياتهم داخل المخيّم في أوضاعٍ استثنائيّة. كذلك تُسَجَّلُ بين الحين والآخر حوادث عنفٍ وعمليات تهريبٍ ومحاولات هروب، إضافة إلى نشاط خلايا سرّيّة داخليّة. هذا الواقع يجعل من المخيم عامل قلقٍ أمنيٍّ لا يقتصر تأثيره على الشّمال الشّرقي بل يمتدّ إلى عموم سوريا والمنطقة.

يتوقف التّعامل الفعّال مع ملف مقاتلي “داعش” في البادية والمقيمين في مخيم الهول على مدى قدرة دمشق في تحقيق توازنٍ بين ضرورات الأمن ومقتضيات سيادة القانون، وبين التّعاون مع الفاعلين المحلّيّين في الشّمال الشّرقي والشّركاء الإقليميّين والدّوليّين، وبين المعالجة الآنيّة للمخاطر المباشرة ووضع أسسٍ لمعالجةٍ طويلة الأمد تقلّل من احتمالات إعادة إنتاج الظّروف التي سمحت للتّنظيم بالظّهور في المقام الأول

أمّا من الناحية القانونية، فتبرز إشكاليّة تصنيف وإدارة أوضاع المقيمين في الهول. بين من ينظر إليهم كمشتبهٍ بانتمائهم للتنظيم أو مجرد ضحايا. لذا، يحتاج الملفّ إلى آليات فرز ٍوتحقيقٍ قضائيٍّ منظَّم. وبالنسبة للدّولة السّورية الجديدة، يشكّل إنشاء منظومةٍ قضائيّةٍ متخصّصةٍ بقضايا الإرهاب، تتعاون مع هيئاتٍ دوليّةٍ وإقليميّةٍ عند الضّرورة، مدخلًا لمعالجة هذا الملفّ بما يراعي المعايير القانونيّة والحقوقيّة، وفي الوقت نفسه يلحظ الاعتبارات الأمنيّة.

وتتصّل بهذه الإشكاليّة مسألة إعادة دمج السّوريين العائدين من المخيّمات أو المحتجزين في مراكز احتجازٍ شرق الفرات. ونجاح أيّ سياسةٍ وطنيّةٍ للتّعامل مع هذا الملفّ يعتمد على وجود برامج تأهيلٍ وإعادة إدماجٍ اجتماعيٍّ واقتصاديّ، وخصوصًا للأطفال والنّساء غير المتورطين مباشرةً في أعمال عنف، إلى جانب مسارٍ قضائيٍّ واضحٍ للمتورّطين. كما تتطلّب هذه العمليّة مستوًى من التّنسيق بين دمشق والإدارة الذّاتية، وربما مع أطرافٍ دوليّةٍ معنيّةٍ بالتّمويل والدّعم الفنّيّ لبرامج إعادة التّأهيل.

وعلى الصّعيد الدّوليّ، يشكّل مخيم الهول أيضًا ملفًّا حسّاسًّا للدّول التي يحمل بعض المقيمين فيه جنسياتها. فعددٌ من الدّول لا يزال مترددًا في استعادة مواطنيه، أو يشترط ضماناتٍ قانونيّةٍ وأمنيّةٍ معقّدة. وهنا، يمكن أنْ يكون للدّولة السّورية الجديدة دورٌ في التّفاوض أو رعاية ترتيباتٍ ثلاثيّةٍ تضمها مع الإدارة الذّاتية والدّول المعنيّة، سواءٌ لتسليم مطلوبين أو لإيجاد صيغٍ للتّعاون القضائيّ والأمنيّ.

وفي البادية السورية الممتدّة، يطرح استمرار نشاط خلايا “داعش” تحدّيًا مباشرًا لهيبة الدّولة وقدرتها على التّحكّم بالحدود والمعابر وخطوط الإمداد. ويتطّلب التّعامل مع هذا التّحدي إستراتيجيّةً طويلة الأمد تشمل: تعزيز القدرات الاستخباراتيّة، وتطوير وحداتٍ متخصّصةٍ في مكافحة التّمرّد في البيئات الصّحراويّة، وتحسين التّنسيق مع القوات العراقيّة عبر الحدود، وتبادل المعلومات مع الأطراف الدّوليّة والإقليميّة المنخرطة في محاربة التّنظيم. كما أنّ تقليص الهشاشة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في القرى والبلدات المحاذية للبادية يمكن أنْ يُسْهِمَ في تقليل قابليّة بعض الأفراد للانخراط في شبكات التّنظيم.

إقرأ على موقع 180  إيران والقرارات المصيريّة.. "الصَّباح خيرٌ من المِصباح" (2)

ومن الإشكاليّات المركزيّة أيضًا أنّ ملفّ “داعش” في البادية ومخيم الهول يتجاوز في طبيعته الحدود السّورية، سواءٌ من حيث حركة المقاتلين والسّلاح عبر الحدود مع العراق، أو من حيث تعدّد جنسيّات المقيمين في المخيم. لذلك، يصعب على الدّولة السّورية الجديدة التّعامل معه كملفٍ داخليٍّ حصريّ، بل كجزءٍ من منظومةٍ أوسع من التّعاون الإقليميّ والدّوليّ في مكافحة الإرهاب وإدارة مخلّفات التّنظيم.

وفي المحصّلة، يشكّل وجود “داعش” في البادية ومخيم الهول تحدّيًا مركّبًا أمام الدّولة السّورية الجديدة، يتداخل فيه الأمنيّ بالإنسانيّ والقانوني. وسيتوقف التّعامل الفعّال مع هذا الملف على قدرة دمشق في تحقيق توازنٍ بين ضرورات الأمن ومقتضيات سيادة القانون، وبين التّعاون مع الفاعلين المحلّيّين في الشّمال الشّرقي والشّركاء الإقليميّين والدّوليّين، وبين المعالجة الآنيّة للمخاطر المباشرة ووضع أسسٍ لمعالجةٍ طويلة الأمد تقلّل من احتمالات إعادة إنتاج الظّروف التي سمحت للتّنظيم بالظّهور في المقام الأول.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  زلزال سوريا لا يُداوى بـ"النِفاق".. الأمريكي!