أول ارهاصات الثورة هو انكسار حاجز الخوف لدى الناس. الحديث هنا عن أنظمة الاستبداد التي يرتهن وجودها بخضوع الناس لما يخشونه. وحكم الاستبداد خوف متبادل بين الحاكم والمحكوم. بين الحاكم الذي يشتد استبداده بمقدار ما يخاف شعبه، بينما يعجز هؤلاء إلاّ عن الخوف مما ينزل بهم جراء سيطرة الحاكم وأجهزته.
تنفجر الثورة، وتنتهي بالإصلاح أو بالوعد به؛ وهذا يكون في حده الأدنى سياسياً-دستورياً بعد سقوط الحاكم والفئة التي حوله، أو تغيير سلوكه بناء على معطيات جديدة. ومن الصعب أو المستحيل أن تبقى الأمور كما كانت، وفي حدها الأقصى اجتماعياً، بمعنى إزالة الطبقة المتسلطة مع الحاكم وزمرته، وتغيير أسس الملكية الخاصة. هذا صار غير مرغوب به لدى الناس بعد انتكاسة الثورة الشيوعية السوفياتية، ثم سقوطها دون أن يبالي بها أحد، إلاّ من حولها، وانتقالها الى نيوليبرالية على الطريقة الأميركية وحسب إملاءاتها.
الدارج في هذه الأيام أن تأتي الثورة بعد الإصلاح وأن يكون هدفها سياسياً بالدرجة الأولى. الهدف هو الإصلاح الذي كان يُمكن أن يحدث من دون الثورة، لو لم يكن الحاكم خائفاً من التغيير في سلوكه. في الأمر مفارقة، وهي أن يكون هدف الثورة هو الإصلاح لا “التغيير الجذري”. وما حدث بعد ثورة العرب في عام 2011 هو تشكيل لجان من أجل دستور جديد ثم إجراء انتخابات مشكوك في ديموقراطيتها.
تنتج الديموقراطية عن ممارسة السياسة وتراكم التسويات التي جوهرها إقرار الجميع بضرورة العيش معاً في إطار الدولة مهما كان نظامها. والجماهير العربية في تظاهراتهم غير المسبوقة لم يطرحوا شعار إسقاط الدولة بل “الشعب يريد إسقاط النظام”، إضافة إلى مطالب الكرامة، والعيش، والعدالة، إلخ.. لكن إسقاط النظام كان المشترك لكل البلدان العربية. وكان مطلباً ديموقراطياً في جوهره، لكن ذلك لم يكن هو ما تريده الطبقة الحاكمة التي تمثلها المنظومة الحاكمة العربية. بعض الحكام سقطوا، وأحدهم قدّم تنازلات دستورية، لكن معظم من لم يسقط كان سبيله الاستعانة بقوى دولية أو اقليمية لدعم بقاء الحاكم في السلطة. تكاثرت الجيوش الأجنبية، وتكاثرت قواعدها في المنطقة العربية؛ حتى صارت هذه مسرحاً أو “ساحة” صراع دولي. تحوّلت الثورة إلى حرب أهلية في بعض الأقطار. وما استطاع البقاء من الحكام إلا من ثبّتته القوى الأجنبية في المنطقة التي صارت كأنها مستعمرات جديدة. “عودة الاستعمار” تحدثت عنه كتب عديدة، واحد منها لصاحب هذه المقالة.
لقد سبق أن قلتُ في أمكنة عديدة أن الحُكّام المستبدين يخافون من شعبهم مهما كانت الظروف. ذلك يظهر للعيان بصورة أوضح عندما يواجه الحاكم المستبد شعبه حين تحتل الجماهير الساحات، فتخرج العلاقة مع قوى الاستعمار إلى العلن، وتنكشف تبعية الأنظمة، وفي الوقت نفسه، يزداد منسوب القمع، والإكراه، والتعذيب، والاغتيال في السجن. فالحاكم المستبد يعتبر أن في الثورة تخلياً عنه، وهو كان يستحق أكثر من ذلك ربما، لأنه مقتنع أن أفضاله على شعبه تفوق التصوّر، وأنه لم يلقَ مقابل ذلك إلا نكران الجميل؛ لذا، عليه “الأخذ بالثأر” من الناس؛ ولما كان عاجزاً عن المواجهة، لا بد من الاستعانة بالقوى الخارجية (الاستعمار)، وسواء أكانت عالمية أم إسلامية هذا الأمر مُبرّر من وجهة نظر هؤلاء الحُكّام المستبدين.
ما فوجئت به الثورة المضادة في عالمنا العربي هو أن قضية فلسطين صارت، من خلال الحرب على غزة وبقية فلسطين، قضية أممية لا من خلال العرب بل من خلال ثورة طلابية وأكاديمية في الغرب الإمبريالي. وهنا أيضاً ليس من دون قمع شديد. إذ أن أنظمة الحكم هناك ضالعة في الثورة المضادة العربية وامتداداتها الإسلامية
أن تعود الإمبريالية، التي لم تتخلَ عن هيمنتها برغم الاستقلال، بشكلها الاستعماري القديم، فهذا دليلٌ على أنّ حكم الاستبداد، من شدة خوفه، يفعل كل شيء وأي شيء، حتى بما يتناقض والأسس التي نادى بها قبل استلامه السلطة، من أجل البقاء في كرسي السلطة.
وفي حين كان مطلب الخلاص من القواعد الأجنبية أحد المسلمات لدى الناس والحُكّام في أول عقود الاستقلال، صار وجودها مطلب الحُكّام بعد الثورة. بعضهم برّر انقلابه عند استلام الحكم بهذا المطلب الوحيد، وهو إزالة القواعد الأجنبية. الآن صارت هذه ليست غربية أو شرقية وحسب، بل إسلامية من بلدان مجاورة أحياناً.
تشكلت الثورة المضادة من أنظمة الاستبداد، وأنظمة رجعية عربية، وأنظمة رجعية اسلامية تدعي الثورية، وقوى غربية، بما في ذلك إسرائيل التي تقاطرت دول عربية للتطبيع معها. نعم، تعدّدت الأسباب والموت واحد.
يقودنا كل ذلك إلى السكوت العربي المطبق حيال حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على شعب فلسطين، وإلى مجازرها في غزة وغيرها. فالشعوب العربية مكمومة الأفواه؛ مقموعة بعنف شديد جرّاء الثورة المضادة التي لا يُشك لحظة أنها تُبارك ما يجري، ومشاركة فيه بشكل أو بآخر.
ما فوجئت به الثورة المضادة في عالمنا العربي هو أن قضية فلسطين صارت، من خلال الحرب على غزة وبقية فلسطين، قضية أممية لا من خلال العرب بل من خلال ثورة طلابية وأكاديمية في الغرب الإمبريالي. وهنا أيضاً ليس من دون قمع شديد. إذ أن أنظمة الحكم هناك ضالعة في الثورة المضادة العربية وامتداداتها الإسلامية.
من سوء حظ إسرائيل أن حرب الإبادة التي تشنها متلفزة. يراها الجميع في كل أنحاء العالم. وأنها تستفز الضمير الإنساني الذي يكون عادة أكثر إحساساً وشعوراً مرهفاً لدى الطلاب وفئاتهم العمرية. كان هؤلاء هم الذين قادوا ثورة 1968 الأممية ضد الإمبريالية إبّان حرب فيتنام، وهم الذين قادوا بعد ذلك في الثمانينيات الماضية الحملة العالمية ضد الأبارتايد والتمييز العنصري في جنوب إفريقيا؛ وهذا وذاك من سمات إسرائيل التي أظهرتها للعلن عالمياً وسائل الإعلام (التي لم تُكمّم)، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي.
صار شعار “فلسطين حرة حرة” عالمياً أممياً واسع الإنتشار، بما لم تتوقعه الثورة المضادة ولا الإمبريالية الداعمة لها. صحيح أن الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية في الغرب تتفاقم بفعل السياسات النيوليبرالية، وأكثر المصابين والمتأثرين بها هم طلاب الجامعات الذين تُرهقهم أقساط التعليم، مما يجبرهم على الاستدانة ورهن عملهم بعد التخرّج لسنوات طويلة من أجل إيفاء الديون، لكن الدافع المباشر لحركتهم هو فلسطين وما يحدث لها.
هذه ليست المرة الأولى التي تتعرّض فيها غزة لحرب من هذا النوع، لكن تضافر الأسباب في الغرب والعالم هو ما جعل منها هذه المرة قضية في وجدان العالم. كتب نورمان فنكلشتاين، وهو يهودي معادٍ للصهيونية كتاباً بعنوان “غزة: بحث في استشهادها”، صدر في عام 2018 وترجمه للعربية أيمن ح. حداد، وتابع فيه بدقة تفصيلية عملية “الرصاص المصبوب” عام 2008، وعملية “عمود السحاب” عام 2012، وعملية “الجرف الصامد” عام 2014. والمعلوم أن الكثير من يهود الغرب يشاركون الآن في نشاطات الطلاب ولا سيما في جامعات أميركا.
يُذكّرنا الحاضر بالأممية الطلابية التي تشكلت عام 1968 ضد الإمبريالية الأميركية وحربها في فيتنام، سوى أن الولايات المتحدة كانت متورطة هي نفسها في القتال مع تجنيد إجباري، بينما هي الآن تقاتل من خلال الوكيل الإسرائيلي، مما يؤدي إلى اختلاف المطالب الثورية التي تطرح على الوكيل بإنهاء الحرب، والأصيل في جامعاته الخاصة لقطع صلات الاستثمار (كما فعلوا وطالبوا إزاء جنوب إفريقيا في الثمانينيات)، إضافة إلى ما يمكن أن تُسبّبه تهمتا الإرهاب واللاسامية من حرج برغم الافتراء والكذب في كل منهما. لكن من حظ الأممية الطلابية سكوت الأنظمة العربية عن تبنيها فيما يتعلّق بفلسطين “العزيزة” على قلوبهم. فهذه الأنظمة ما زالت وستبقى حليفة النظام العالمي الإمبريالي الذي يدعم إسرائيل.
مهما يكن من أمر؛ إسرائيل أداة قتل وتدمير، وتحرير فلسطين منها مرهون بتحرير العرب من المنظومة الحاكمة وحلفائها، وهذا يعتمد على تحرير العرب من أنفسهم ومن الأيديولوجيا اللاتاريخية والمعادية للعقلانية، وذلك يشمل تحرير إسرائيل من نفسها. إذ لا يعقل أن تبقى دولة دينية في هذا العصر. سيعرف العرب أن إسرائيل لا تُواجه بعمليات فدائية لا أثر لها إلا بعض الخدوش، لكن الثأر من “حماس” استدعى بنظر إسرائيل تدمير منطقة عربية فلسطينية وحرب إبادة على شعبها.
بناء الدولة العربية في كل قطر على أسس العقلانية والتقدم والإنتاج وإقامة علاقات ندية مع الغرب سوف يجعل من إسرائيل دولة لا تحتاج نفسها، وسيؤدي انتصار العرب إلى تذويب يهودها في المجال العربي، وذلك يمر عبر حل الدولة الواحدة في فلسطين لا حل الدولتين. والنضال لا كقوم ضد قوم بل ضد الإمبريالية والطغيان والاستيطان، وما يؤدي ذلك إليه من نهب وسلب وإقتطاع أراضٍ لا حق لهم بها.
سوف تتجدّد الثورة العربية، وسوف يُستجاب لمطالب الناس في الحرية والعيش الكريم والكرامة والعدالة، لا حسب تصميم وتنفيذ الأنظمة العربية وحلفائها من الإمبريالية الغربية، بما فيها إسرائيل
أعطت الدساتير العربية المواطنين العرب حقوقاً أكثر مما سبق، بنصوص أطول وأكثر كلاماً في كل بند منها، لكن الأنظمة سلبتهم منهم بالثورة المضادة. ليست المسألة في بلادنا “عسر التحوّل الديموقراطي”، كما جاء في عنوان صادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”. يُوحي هذا العنوان كأن شعوبنا هي المسؤولة عن ذلك وليس الثورة المضادة، التي سلبت الحريات، وهذه تتماهى مع الإمبريالية. وثمة كتاب لمؤلفته إليزابيث ف. تومبسون بعنوان “كيف سرق الغرب الديموقراطية من العرب”، يسرد بتفصيل غير ممل كيف أن أهل بلاد الشام أنشأوا عقب الحرب العالمية الأولى، وقبل دخول الفرنسيين، دولة دامت عامين بدستور كتبوه، وكان برقي دستور الولايات المتحدة بعد الثورة على الإنجليز، إن لم يكن أرقى منه.
سوف تتجدّد الثورة العربية، وسوف يُستجاب لمطالب الناس في الحرية والعيش الكريم والكرامة والعدالة، لا حسب تصميم وتنفيذ الأنظمة العربية وحلفائها من الإمبريالية الغربية، بما فيها إسرائيل. “لا بدّ من صنعاء وإن طال السفر”، كما قيل في الأمثال العربية القديمة.
وقد قال الشاعر أبو القاسم الشابي:
إذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ / فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
صار مصير فلسطين مربوطاً بقضية أممية إنسانية، بعد أن أن كان قضية عربية. وهذا ما يجعل العروبة نفسها قضية إنسانية أممية. للتاريخ منعرجات يصعب توقعها، لكن ربطها ببعضها أمر واجب. صار للعرب واجب مزدوج في حريتهم من أنظمتهم واستيعاب القضية الإنسانية.