المواجهة بين أميركا وفنزويلا.. مفتوحة

خلال الأسابيع القليلة الماضية، تصاعدت حدة التوتر في العلاقات بين إدارة الرئيس دونالد ترامب ورئيس فنزويلا نيكولاس مادورو، الذي يحكم البلاد منذ عام ٢٠١٣. فالإجراءات التي اتخذتها واشنطن مؤخرًا، سواء تلك المتعلقة بمصادرة شحنات نفط فنزويلية أو تشديد القيود على حركة ناقلات مرتبطة بكاراكاس، هي ببساطة محاولة أميركية لإعادة صياغة قواعد اللعبة، ليس فقط في سوق النفط، بل أيضًا فيما يتعلق بالسيادة وحدود القوة، حيث تسعى واشنطن إلى استغلال ضعف قواعد النظام الدولي لتوسيع هيمنتها في أميركا اللاتينية، وهو الأمر الذي ترجمته إدارة الرئيس الأميركي في وثيقة الأمن القومي التي صدرت منذ عدة أسابيع.

وإن كان المشهد في ظاهره يبدو وكأنه صراع تقليدي متعلق بالنفط والناقلات وشبكات التهريب، فإن الموضوع أعمق من ذلك بكثير. فالولايات المتحدة تريد قطع شريان مالي تعتبره عنصرًا أساسيًا في بقاء نظام مادورو المناوئ لها، فيما ترى فنزويلا أن ما يجري ليس «تطبيقًا للعقوبات»، بل يرتقي إلى أن يكون حصارًا بحريًا غير معلن، يضع سابقة خطيرة في التعامل مع الملاحة والتجارة الدوليتين. وفي هذه المواجهة، يتعرض الاقتصاد الفنزويلي، وهو اقتصاد يقوم على النفط بصورة شبه كاملة، لهزة كبيرة قد تؤثر أيضًا في استقرار سوق الطاقة العالمية، الذي يتأثر بدوره بأي توتر بحري، ولا سيما أن احتمالات تصاعد هذا التوتر ما زالت تلوح في الأفق!

الحقيقة أن سياسة العقوبات المطبقة على النفط الفنزويلي ليست من اختراع الإدارة الأميركية الحالية، لكنها تشكل العمود الفقري للسياسة الأميركية تجاه فنزويلا منذ عقدين من الزمان. بدأت بحظر إمداد الحكومة الفنزويلية بالسلاح، ثم أخذت تتصاعد تدريجيًا حتى أصدر الرئيس ترامب قرارًا في عام ٢٠١٧ بفرض عقوبات جديدة تمنع حكومة كاراكاس من التعامل مع الأسواق المالية في الولايات المتحدة. وما يحدث الآن ما هو إلا مواجهة جديدة بين الدولتين، ولكن بلهجة وسياسة أكثر تصعيدًا. تدرك واشنطن جيدًا أن الضغط باستخدام سلاح النفط هو أقوى أسلحتها ضد مادورو، لأنه سيكلفه منصبه وشرعيته ببساطة! ولكن، وكما هي عادة ترامب، فقد قرر أيضًا التصعيد على المستوى العسكري من خلال القوات البحرية الأميركية في منطقة الكاريبي، وأظهر ترامب إرادة واضحة بأن المواجهة هذه المرة لن تكون مجرد توتر دبلوماسي أو اقتصادي، بل قد تصل إلى حظر بحري وتجاري شامل يعزل الدولة الفنزويلية ونظامها تمامًا عن العالم!

في المقابل، يدرك الرئيس مادورو خطورة الوضع، وقد اعتبر أن تلك التصعيدات العسكرية الأميركية تمثل انتهاكًا واضحًا للسيادة الوطنية، ومن ثم فإن التحرك الأميركي يعد خارج إطار القانون الدولي. وهذا صحيح بالفعل، لكن منذ متى كان القانون الدولي مهمًا أو معتبرًا لدى الإدارات الأميركية عمومًا، وإدارة ترامب على وجه الخصوص؟ ومن ثم، فإن استخدام مادورو لهجة حادة تتحدث عن «القرصنة الدولية» لا يخيف الولايات المتحدة، بل على العكس، فهذا تمامًا هو ما يريده ترامب. الرسالة واضحة: إن أردت أن تعتبرها قرصنة دولية فليكن الأمر كذلك، ولكن ذلك لن يغير من سلوكنا تجاهك إلا إذا استجبت لطلباتنا. والحقيقة أن المطالب الأميركية من فنزويلا باهظة الثمن؛ فترامب يرى أن قيام فنزويلا بتأميم النفط منذ سبعينيات القرن الماضي هو بمثابة سرقة للأصول المالية الأميركية، ويطالب ببساطة بالتعويض. لكن ما هذا التعويض؟ لا يحدد ترامب قيمًا محددة، لكنه يدعي أن الولايات المتحدة أصبحت ذات حق أصيل في السيطرة على البترول الفنزويلي بشكل كلي.

لا يبدو أن المواجهة بين أميركا وفنزويلا تتجه نحو حل سريع. فالسيناريو الأرجح هو استمرار الضغط بصيغة تقترب من الحصار دون الاعتراف به صراحة، مع محاولة فنزويلا الحفاظ على الحد الأدنى من التصدير عبر قنوات بديلة. لكن الخطر الحقيقي يظل في التفاصيل؛ فمواجهة بحرية واحدة، أو مصادرة كبيرة إضافية لإحدى شحنات النفط، قد تنقل الأزمة من مستوى الرسائل السياسية إلى مستوى المواجهة المفتوحة. وفي عالم مضطرب أصلًا، لا يحتاج الشرر إلى كثير من الوقود كي يستعر

غير أن قراءة أعمق للموقف الأميركي تكشف أن فنزويلا ليست سوى جزء من معادلة أوسع لواشنطن لإعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية عالميًا. فبعد سنوات من الانشغال بملفات كبرى مثل الصين وروسيا وأوكرانيا والشرق الأوسط، ترى إدارة ترامب أن الوقت قد حان للانتباه إلى المصالح الأميركية في الكاريبي وأميركا اللاتينية. والحقيقة أن ترامب، بشكل أو بآخر، لا يرى أن إعادة ترتيب هذه الأولويات تعني الابتعاد عن الملفات السابقة، ولا سيما في ظل تصاعد النفوذ الصيني والروسي في أميركا اللاتينية، في دول مثل فنزويلا ونيكاراغوا وكوبا.

في هذا السياق، يشير عدد من المحللين الأميركيين إلى أن الضغط على النفط الفنزويلي لا يستهدف فقط تقليص عائدات الدولة، بل كسر منظومة الولاءات الاقتصادية والسياسية التي يقوم عليها نظام مادورو. فحرمان الحكومة من الموارد يعني إضعاف قدرتها على الحفاظ على تماسكها الداخلي وتمويل شبكات الدعم الاجتماعي والسياسي التي تعد إحدى أهم أدوات الحفاظ على شرعية النظام. غير أن هذا الرهان، الذي جُرّب في حالات أخرى مثل إيران، لم يفض دائمًا إلى النتائج التي توقعتها واشنطن، بل أدى في كثير من الأحيان إلى نتائج عكسية، أبرزها تعزيز خطاب السيادة داخليًا وإعادة ترتيب التحالفات الخارجية، وهو ما يترقبه المعنيون بالسياسات الأميركية.

إقرأ على موقع 180  البربرية الجديدة.. إنسان آليٌ وَعيهُ عَدائيٌ

اقتصاديًا، لا يمكن فصل التصعيد الحالي عن أوضاع سوق الطاقة العالمية. صحيح أن فنزويلا لم تعد لاعبًا رئيسيًا في السوق كما كانت في السابق، لكن أي اضطراب في صادراتها يظل عاملًا مؤثرًا في سوق تعاني أصلًا من تقلبات حادة. كما أن تشديد القيود على النفط الفنزويلي ينعكس مباشرة على سلوك الأسواق عبر زيادة الخصومات، ورفع تكلفة التأمين، وتردد الوسطاء. وحتى التهديد وحده، دون تنفيذ كامل، يكفي لإرباك سلاسل التوريد العالمية وخلق حالة عدم يقين مستمرة، وهو ما يعني أن هذا الحصار قد يضر دولًا وقطاعات اقتصادية أخرى بخلاف فنزويلا.

من الناحية السياسية، يوظف الطرفان الصراع لخدمة سردياتهما الداخلية. فمادورو يقدم نفسه مدافعًا عن السيادة والوطنية والكرامة في مواجهة الهيمنة الأميركية الإمبريالية، مستثمرًا هذا الخطاب لحشد التأييد الداخلي وتهميش المعارضة. وفي المقابل، تستخدم واشنطن ملف فنزويلا لإظهار الحزم في السياسة الخارجية، ولربط الأزمة بملفات أخرى مثل الهجرة والمخدرات والاتجار بالبشر، بما يمنح الخطاب الرسمي شرعية إضافية في الداخل الأميركي، خاصة في لحظة سياسية داخلية لا يعوزها الاستقطاب.

لكن ماذا عن المعارضة الفنزويلية؟

الحقيقة أن الأخيرة تجد نفسها في مأزق حقيقي؛ فهي من جهة ترفض العقوبات التي تزيد من معاناة المواطنين، ولا يمكنها التخلي تمامًا عن خطاب الإمبريالية والسيادة الوطنية، وهو الخطاب نفسه الذي يستخدمه النظام، وإلا فقدت المعارضة شرعيتها هي الأخرى. ومن جهة ثانية، لا تستطيع هذه المعارضة الدفاع عن نظام فقد كثيرًا من شرعيته منذ عقود. هذه المعضلة نعرفها جيدًا في المنطقة العربية والشرق الأوسط، حيث تؤدي التدخلات الخارجية عادة إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي الداخلي بطريقة لا تخدم بالضرورة أهداف التغيير والإصلاح، بل قد تؤجلها أو حتى تعقد مساراتها، لكن ترامب، ببساطة، لا يعنيه أمر الإصلاح والتغيير من قريب أو بعيد!

في خلفية كل ذلك، تبرز الصين بوصفها لاعبًا لا يمكن تجاهله. فجزء كبير من قدرة فنزويلا على الاستمرار في تصدير النفط خلال السنوات الأخيرة ارتبط بأسواق قادرة على تحمل المخاطرة، وعلى رأسها السوق الصينية. لذلك فإن أي تشديد أميركي على ما يعرف بـ«أسطول الظل» لا يضغط فقط على كاراكاس، بل يرفع تكلفة وصول النفط إلى هذه الأسواق، ويمس جزءًا من التنافس الأوسع بين واشنطن وبكين، ولو بصورة غير مباشرة، في ملف الطاقة وسلاسل الإمداد.

في النهاية، لا يبدو أن المواجهة بين أميركا وفنزويلا تتجه نحو حل سريع. فالسيناريو الأرجح هو استمرار الضغط بصيغة تقترب من الحصار دون الاعتراف به صراحة، مع محاولة فنزويلا الحفاظ على الحد الأدنى من التصدير عبر قنوات بديلة. لكن الخطر الحقيقي يظل في التفاصيل؛ فمواجهة بحرية واحدة، أو مصادرة كبيرة إضافية لإحدى شحنات النفط، قد تنقل الأزمة من مستوى الرسائل السياسية إلى مستوى المواجهة المفتوحة. وفي عالم مضطرب أصلًا، لا يحتاج الشرر إلى كثير من الوقود كي يستعر!

(*) بالتزامن مع “الشروق” المصرية

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لماذا يُريد نتنياهو تحويل الحرب مع لبنان إلى واقع دائم؟