إرهاصات الشرق الأوسط الجديد.. بوابات البحر الأحمر (1)

بين جبلٍ يطل على خليج عدن وسفينة تعبر نحو باب المندب، يتكوّن اليوم مشهد سياسي جديد في جنوب اليمن لا تعكسه الخرائط الرسمية. في هذا القسم نتتبّع تحوّل المجلس الانتقالي الجنوبي إلى سلطة أمر واقع، وكيف تداخلت جغرافيا عدن وسقطرى وميون مع أدوار الإمارات و"أرض الصومال" في رسم شبكة نفوذ تمتد على ضفتي البحر.

على الطريق الساحلي بين عدن والبريقة، يتوقف سائقو الشاحنات أحياناً عند نقاط مرتفعة تطل على البحر. من هناك، يمكن رؤية السفن التي تلمع أضواؤها البعيدة وهي تعبر نحو مضيق باب المندب، الخطّ الضيق الذي يصل المحيط الهندي بالبحر الأحمر. بالنسبة لكثيرين في هذه المدينة التي أنهكتها الحرب، تبدو تلك الأضواء كأنها تذكير يومي بحقيقة بسيطة، مفادها أنّ العالم يمر من هنا، شاء اليمنيون أم أبوا.

من هذه الزاوية، لا يعود الجنوب اليمني مجرد هامش جغرافي على طرف شبه الجزيرة العربية، بل يتحول إلى مسرح تُعاد فيه اليوم صياغة خرائط النفوذ في واحد من أهم الممرات البحرية في العالم. فبينما تتآكل سلطة “الحكومة الشرعية” التي تعترف بها الأمم المتحدة، وتترسخ سيطرة جماعة الحوثيين على صنعاء وشمال البلاد، يُرسّخ الجنوب واقعاً سياسياً خاصاً به؛ واقعاً تقول عنه بعض مراكز الأبحاث الدولية إنه بات يقترب من شكل “الدولة بحكم الأمر الواقع”، حتى لو رفضت العواصم الكبرى الاعتراف بذلك رسمياً.

منذ تأسيس “المجلس الانتقالي الجنوبي” عام 2017 بدعم واضح من أبو ظبي، اتخذت موازين القوى في الجنوب مساراً تصاعدياً لمصلحته. فالمجلس الذي بدأ كحركة احتجاجية رداً على تهميش الجنوبيين، يملك اليوم قوات منظّمة، وأجهزة أمنية، ووزارات بحكم الأمر الواقع في عدن، ويشارك في الوقت نفسه في “مجلس القيادة الرئاسي” الذي يفترض أنه يمثّل السلطة اليمنية ككل. ومع كل جولة قتال داخلي أو إعادة انتشار عسكرية، يوسع الانتقالي نطاق نفوذه، بداية في عدن ولحج والضالع، ثم في أجزاء من أبين وشبوة، وصولاً إلى أجزاء من حضرموت.

عدن ليست مجرد عاصمة مؤقتة، بل بوابة على بحر العرب، وخلفها مباشرة يمتد ممر يتجه نحو باب المندب، حيث تتقابل الضفتان الآسيوية والأفريقية. في قلب هذا المضيق الصغير تقع جزيرة ميون (بريم)، وفي عرض المحيط أبعد قليلاً تنتصب سقطرى، الجزيرة اليمنية التي طالما أثارت خيال الجغرافيين قبل أن تثير شهية العسكريين

في أروقة عدن، يتحدث ناشطون ومسؤولون عن خطة غير معلنة يطلق عليها بعضهم، على سبيل المزاح الجاد، اسم “عملية مستقبل واعد”. ليست عملية عسكرية محددة بقدر ما هي عنوان لطموح سياسي واضح، تتبدّى في استعادة حدود دولة الجنوب التي كانت قائمة قبل الوحدة اليمنية عام 1990، من باب المندب غرباً حتى المهرة على الحدود مع عُمان شرقاً.

حتى الآن، ما يزال وادي حضرموت والمهرة ساحتين لتوازنات حساسة بين قوات موالية للسعودية وقوى محلية وقوات قريبة من “الانتقالي”، لكن المنحى العام – كما تصفه تقارير “مجموعة الأزمات الدولية” (International Crisis Group) – يميل إلى توسع نفوذ “المجلس الانتقالي” على حساب مؤسسات الحكومة المعترف بها عربياً ودولياً.

“الوحدة لم تعد مشروعاً سياسياً بقدر ما أصبحت ذكرى”، يقول محلل سياسي يمني في عدن، طلب عدم ذكر اسمه لدواعٍ أمنية. ويضيف: “.. على الأرض، هناك ثلاث سلطات: الحوثيون في الشمال، “الانتقالي” في معظم الجنوب، وحكومة تتنقل بين فنادق العواصم. الفرق أن “الانتقالي” يُسيطر على الموانئ، وعلى جزء كبير من الثروة النفطية، وهذا يمنحه أوراقاً لا يملكها الآخرون”.

هذا التحول في ميزان القوى جنوباً لا يمكن فصله عن الجغرافيا البحرية. فعدن ليست مجرد عاصمة مؤقتة، بل بوابة على بحر العرب، وخلفها مباشرة يمتد ممر يتجه نحو باب المندب، حيث تتقابل الضفتان الآسيوية والأفريقية. في قلب هذا المضيق الصغير تقع جزيرة ميون (بريم)، وفي عرض المحيط أبعد قليلاً تنتصب سقطرى، الجزيرة اليمنية التي طالما أثارت خيال الجغرافيين قبل أن تثير شهية العسكريين.

على مدى السنوات الماضية، وثّقت صور أقمار صناعية ومصادر بحثية، بينها دراسات صادرة عن “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” (CSIS) و”تشاتهام هاوس”، وجود بنية تحتية عسكرية على ميون، رُبطت مراراً بالإمارات، وسط نفي رسمي متكرر من أبو ظبي. وفي سقطرى، رسّخت قوات محلية مدعومة إماراتياً، وقوات مقربة من “المجلس الانتقالي”، وجودها تدريجياً، فيما تحدثت تقارير غربية عن ترتيبات أمنية غير معلنة، من دون أن يترافق ذلك مع إعلان رسمي عن قواعد أجنبية دائمة. بالنسبة للخبراء الغربيين، لا تبدو هذه التحركات معزولة؛ فهي جزء من شبكة أوسع تمتد من موانئ الخليج إلى القرن الأفريقي.

على الضفة الأخرى من خليج عدن، في القرن الأفريقي، تكتمل الصورة. هناك، أعلنت “أرض الصومال” (Somaliland) انفصالها عن الصومال عام 1991، وشقّت منذ ذلك الحين مساراً خاصاً بها، انتخابات دورية، مؤسسات مستقرة نسبياً، وجيش محلي. لكنها، حتى اليوم، لا تحظى بأي اعتراف دولي واسع؛ الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومعظم الدول ما زالت تعتبرها جزءاً من الصومال. ومع ذلك، فإن ميناء بربرة الذي تطوّرهُ شركة “موانئ دبي العالمية” بات نقطة محورية في حسابات الأمن البحري والتجارة، خصوصاً بالنسبة لإثيوبيا الحبيسة بحثاً عن منفذ بحري بديل عن جيبوتي.

إقرأ على موقع 180  لبنان: إجتماع أمني برئاسة عون.. وبعض رسائله للحريري

في مطلع 2024، وقّعت أديس أبابا و”أرض الصومال” مذكرة تفاهم تتحدث عن منح إثيوبيا منفذاً إلى البحر مقابل بحث الاعتراف بالكيان الانفصالي. أثار ذلك عاصفة دبلوماسية؛ فقد حذر الاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أن أي اعتراف أحادي من شأنه أن يفتح الباب أمام موجة انفصالات جديدة في قارة تعجّ بالنزاعات الحدودية.

في خضم هذا الجدل، انتشرت في وسائل الإعلام الإقليمية صورة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يوقع على “اعتراف إسرائيلي” بما تُسمى دولة “أرض الصومال”، وربطت بين ميناء بربرة من جهة، وعدن وسقطرى وميون من جهة أخرى، في إطار “مثلث استراتيجي” قيل إنّهُ مصممٌ لحماية الملاحة البحرية وتطويق النفوذ الإيراني والتركي.

ما تشير إليه هذه الدراسات أيضاً هو شيء أكثر تعقيداً وأقل علانية: اهتمام إسرائيلي متزايد بأمن البحر الأحمر وخليج عدن، تعاون عسكري واستخباراتي متنامٍ مع الإمارات ودول خليجية أخرى، واستعداد لاستخدام البنية التحتية المينائية واللوجستية التي تديرها شركات خليجية – ومنها في القرن الأفريقي – كجزء من شبكة أوسع لحماية طرق التجارة ومراقبة تهريب السلاح.

في التحليلات العسكرية الغربية، يُقدَّم هذا النمط من الانتشار غالباً بوصفه بناء “أحزمة أمان” حول الممرات البحرية، من خلال الاعتماد على شركاء محليين بدلاً من تمركز مباشر كثيف ودائم للقوات الأجنبية. وبهذه الكيفية، تتحول كيانات محلية صغيرة نسبياً، مثل “المجلس الانتقالي” في عدن والسلطات في “أرض الصومال” من أطراف هامشية في نظر النظام الدولي القديم إلى عقد رئيسية في معادلة الأمن البحري العالمي.

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لبنان: إجتماع أمني برئاسة عون.. وبعض رسائله للحريري