عندما ينظر سعد الحريري إلى ما صنع طوال خمسة عشر عاماً، لا بد أن يتأمل جيداً. ورث أمبراطورية مالية. زعامة طائفة لبنانية وتيار سياسي لبناني ومؤسسات إجتماعية وتربوية وإعلامية. تحالفات عابرة للطوائف والمناطق. تعاطف دولي وعربي وإسلامي ندر أن ينعقد بسرعة قياسية لأحد السياسيين في العالم الثالث. إخترق قلوب ناسه وعقولهم وأحلامهم، لا سيما الشباب والشابات. تماهوا مع إسمه. عائلته. صورته. عباراته. ذقنه. رددوا شعاراته. غنوا له. هتفوا بحياته. رفعوه، أينما حلّ على راحاتهم وأكتافهم. حفروا إسمه في قلوبهم. قدموا له ولاءهم. أصواتهم.
عقدوا له نصاب المدن والقرى. نصاب بيروت، كما طرابلس وعكار وصيدا والبقاع وإقليم الخروب. من النهر الكبير شمالاً إلى تخوم مزارع شبعا جنوباً. بدا لبرهة، أنه الساحر. الآمر. الناهي. يصنع رؤساء الحكومات ويسمي الوزراء والنواب. يقرر التحالفات ويبني التفاهمات. يتجرأ على قول من يريده رئيساً للجمهورية. رئيسا للمجلس النيابي. من هم قادة الأجهزة العسكرية والأمنية. يسمي من يشاء من السفراء وموظفي الفئة الأولى. يصرف ميزانية ويضع لبنان على سكة تحقيق دولي ثم محكمة دولية. يدير محركات طائرته، فيكون جاك شيراك في إستقباله بباريس وجورج دبليو بوش في واشنطن وفلاديمير بوتين في موسكو. يطلب من المملكة العربية السعودية، فيكون له ما يريد بأمر من الديوان. موازنة للإنتخابات وأخرى لزوم بناء زعامة وصياغة تحالفات. يستطيع أن يطلب وديعة أو مساعدة أو قرضا. رأسماله إسمه الثلاثي: سعد رفيق الحريري.
هو الدم ينتج زعامة. لا دم أغلى من دم رفيق الحريري. حكاية إرث لا مثيل له في تاريخ لبنان منذ مئة سنة حتى يومنا هذا. يمكن كتابة مجلدات توثق 15 سنة من تاريخ لبنان: 2005 ـ 2020. أحداث وأسماء. حروب وتسويات. دول وشخصيات. متحركون ومتحولون وثابتون. حسن نصرالله. نبيه بري. سعد الحريري. وليد جنبلاط. ميشال عون. سمير جعجع. ستة يختصرون البلد… إلى أن حلّ موعد السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019. جاء وقت الحساب. الخسارة أصابت الجميع. لا أرباح عندما يخسر الوطن، فكيف عندما يصيب التشظي الجميع من دون إستثناء؟
لماذا قرر رئيس تيار المستقبل الطلاق مع باسيل وإنهاء شهر عسل دام ثلاث سنوات بينهما، وفي هذا التوقيت بالذات؟ إذا كان السبب خارجياً، فما هي حيثياته، سواء أكان سعودياً أم أميركياً؟
خمسة من الستة يقاتلون. لا مكان للإستسلام في قاموسهم.. لم يرفع سعد الحريري العشرة، لكنه لم يتمكن من مقاومة الإنتفاضة أكثر من 12 يوماً. حسبها بطريقة مختلفة عن زملائه في “نادي الستة”. قرر أنها اللحظة المناسبة لرمي إستقالته بوجه ميشال عون وجبران باسيل. هل هو قراره أم هي نصائح من تبقى من مستشاريه؟ وفي الحالتين، لماذا قرر رئيس تيار المستقبل الطلاق مع باسيل وإنهاء شهر عسل دام ثلاث سنوات بينهما، وفي هذا التوقيت بالذات؟ إذا كان السبب خارجياً، فما هي حيثياته، سواء أكان سعودياً أم أميركياً؟
إذا إكتفينا بخطاب الحريري في الثالث عشر من شباط/فبراير في بيت الوسط، نجد جواباً واحداً: من يتحمل مسؤولية سقوط التسوية هو “رئيس الظل” جبران باسيل.
لكن لا بأس من محاولة التدقيق أكثر، وتحديداً بالعناصر الخارجية:
أولاً، لا تعديل إنقلابياً في النظرة الأميركية للبنان. لا إرتياح لأداء رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل، لكن لا أحد منهما تجاوز الخطوط الحمراء حتى الآن.. ثمة برودة أميركية معلنة في التعامل معهما. تقدم دور البيت الأبيض في القرار الخارجي. صهر الرئيس جاريد كوشنير، ومنذ اللحظة الأولى للتسوية الرئاسية، ثم بعد فك أسر الحريري من السعودية، كان له مطلب وحيد من الحريري: حسم قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. عشرات الرسائل المتبادلة بين الرجلين. تعددت الإقتراحات والصيغ الأميركية، لكن المضمون واحد. لا بد من حسم الخلاف الحدودي البحري، لأسباب إسرائيلية أولاً وأميركية ثانياً. كثرت وعود الحريري. من إنتقال الملف من رئيس المجلس النيابي ليصبح بعهدة رئيس الحكومة شخصياً إلى آخر صيغة وافق عليها لبنان، وقبلت بها واشنطن، ولكن تل أبيب رفضتها، وإختفى من بعدها الموفدون الأميركيون (مفاوضات عسكرية لبنانية إسرائيلية بمشاركة ضباط أميركيين وخبراء من الجهات الثلاث وبإشراف الأمم المتحدة). يقول مرجع لبناني واسع الإطلاع إن ملف ترسيم الحدود أحرق أوراق الحريري أميركياً، وسيأتي يوم تتكشف فيه تفاصيل ما جرى من مراسلات بين الحريري وجاريد كوشنير، من دون أن يفصح أكثر عن هذا الأمر.
ثانياً: لا يخفي السعوديون حقيقة موقفهم من التسوية الرئاسية ومآلاتها. لذلك، يرددون أن لبنان لم يعد أبدا في دائرة إهتماماتهم ولا ضمن أولوياتهم الإقليمية. هم رحبوا بسقوط التسوية الرئاسية. لا حماسة لعودة الحريري. لا مقاربة سعودية للبنان، إلا من زاوية حزب الله.
لا أبواب سعودية أو إماراتية مفتوحة أمام الحريري ولا إنفراجات مالية، لا بالمشاريع التي تستكملها شركة “ماك” التي إستحوذت عقد صيانة جامعة الملك عبدالله ولا بالمال السياسي الذي أقفلت حنفيته
بهذا المعنى، يمكن الحديث عن وجهتي نظر، عبرت عنهما مناقشات خلية الأزمة السعودية المعنية بالملف اللبناني. أولى، قادها الأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي، وتدعو إلى إعطاء فرصة جديدة للحريري، بعد إستقالته من رئاسة الحكومة، وأن يجري البناء على مواقفه الأخيرة، وصولاً إلى الإنتخابات النيابية المقررة في ربيع العام 2022، من أجل إحداث تغيير جذري في ميزان القوى اللبناني. ينطلق هذا الرأي من ثابتة أساسية: تستطيع المملكة أن تستثمر في لبنان سياسياً، من خلال شخصيات مسيحية كسمير جعجع أو درزية كوليد جنبلاط، لكن لا بد من المحافظة على حضور سياسي وازن للمملكة في صفوف المسلمين السنة في لبنان بالدرجة الأولى.
يطرح هذا الفريق السعودي “المتساهل” عدة شروط، أولها مغادرة التسوية الرئاسية مع ميشال عون، ثانيها، إستكمال تطهير فريق المستشارين (المقصود تحديداً الإطاحة بالمستشار غطاس خوري الذي يحمّله السعوديون جزءاً من المسؤولية عن إبرام التسوية الرئاسية مع عون، بشراكته مع نادر الحريري ونهاد المشنوق)، ثالثها، إحداث تغيير في هيكلية وبنية تيار المستقبل، تشمل بالدرجة الأولى الإطاحة بالأمين العام للتيار أحمد الحريري (لمصلحة أشخاص مثل مصطفى علوش)، وهذه النقطة الأخيرة ألمح إليها الحريري، في خطابه بالذكرى الـ 15 لإستشهاد والده بقوله “قراري واضح. التغيير واعادة الهيكلة في التيار. المؤتمر العام للتيار سينعقد في الأشهر المقبلة وسينتخب قيادة جديدة، تكون شريكة فعلية بالقرار السياسي والتواصل المباشر مع الجمهور”.
أما وجهة النظر الثانية، وهي الأقرب إلى عقل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فتدعو إلى إهمال لبنان في المدى المنظور “وإتركوا شعبه يجوع حتى يأتي مستسلماً إلينا”، وتعتبر أن الإستثمار في أقصى شرق آسيا أو في المغرب العربي أكثر فائدة للمملكة من الإستثمار في لبنان. بالنسبة إلى هؤلاء “من جرب المجرب عقله مخرب”، وأن سعد الحريري “ناكر للجميل ولا يعول عليه ولا يراهن عليه”، ولو كان بمقدور هذا الفريق، لكان قد أعاد الحريري سنتين إلى الوراء. إلى “الريتز”. وبالتالي، لا أبواب سعودية أو إماراتية مفتوحة أمام الحريري ولا إنفراجات مالية، لا بالمشاريع التي تستكملها شركة “ماك” التي إستحوذت عقد صيانة جامعة الملك عبدالله ولا بالمال السياسي الذي أقفلت حنفيته. هذا الفريق يعتبر أن الخروج من التسوية الرئاسية ليس كافياً. مشكلتنا أن سعد الحريري “ينام في أحضان حسن نصرالله في بيروت، بينما نحن ندفع الدم في اليمن، كما في السعودية، بسبب صواريخ الحوثيين حلفاء حزب الله وإيران”!
في الآونة الأخيرة، تم تعميم أجواء إعلامية ـ سياسية تشي بإنفراج علاقات الحريري بالمملكة وأن زيارته إلى الإمارات، غداة الذكرى الـ 15 لإستشهاد والده، جاءت في سياق محاولة قرع أبواب المملكة من النافذة الإماراتية. الأدق أن الحريري يحاول إعادة تطبيع علاقته مع محمد بن زايد، ولي العهد الإماراتي، تمهيدا لطي صفحة خلافاتهما المالية والسياسية. إذا نجح في مهمته الإماراتية، يفترض أن يطلب من بن زايد إستخدام نفوذه وعلاقته الشخصية بولي العهد السعودي. القريبون لبنانياً من بعض دوائر القرار السعودي، يجزمون أن لا إنفراجات ولا تعويم للحريري، “ومن إخترع رفيق الحريري ثم سعد الحريري، يستطيع أن يخترع ثالثاً ورابعاً وخامساً”.
محاولة تلمس الموقفين الأميركي والسعودي تقود إلى الإستنتاج الآتي: لا عواصم دولية أو إقليمية تتمسك بشخص الحريري، كما كان الحال سابقاً، وخصوصاً عندما أصبح رئيسا للحكومة للمرة الأولى، في العام 2009. لا مقاربة أميركية وسعودية للمشهد اللبناني، إلا من ضمن نظرة هاتين العاصمتين إلى الدور الإيراني في المنطقة. تحدد واشنطن والرياض موقفهما من سلوك هذا أو ذاك لبنانياً، تبعاً لإقترابه من حزب الله أو إبتعاده عنه.
هل ثمة مقاربة خليجية جديدة للواقع السني في لبنان؟
للبحث صلة.