تنص عقود سندات اليوروبوند على إستحقاق جميع السندات فوراً بمعزل عن تاريخ الإستحقاق عند تخلّف الدولة عن سداد قيمة أي شريحة من شرائح هذه السندات، ولذلك كان رئيس الحكومة واضحاً في إعلان نيّته الدخول في عمليّة إعادة هيكلة لديون الدولة اللبنانية بشكل عام، ومع “الدائنين كافّة”. بمعنى آخر، سيشمل مسار المفاوضات حاملي سندات اليوروبوند من جميع الشرائح والإستحقاقات من دون إستثناء، وليس حاملي السندات التي تستحق خلال شهر آذار/مارس فحسب.
وفي كل الحالات، يبدو أنّ الدولة اللبنانيّة تدرك جيّداً طبيعة التداعيات الإقتصاديّة والماليّة والقانونيّة الكبيرة المفترض أن تنتج عن قرارها. فقبيل صدور إعلان رئيس الحكومة بساعات، عقد إجتماع لرؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة ووزراء المال والإقتصاد والدفاع، بالإضافة إلى حاكم مصرف لبنان المركزي ورئيس جمعيّة المصارف. وكان من الواضح أنّ هدف الدعوة إلى الإجتماع الموسّع توفير أكبر مظلّة سياسيّة للقرار المرتقب، من خلال التأكيد على “الوقوف إلى جانب الحكومة في أي خيار ستعتمده، بإستثناء دفع الديون المستحقّة”. وهكذا، أوحت صيغة الإجتماع وما نتج عنه بأن الحكومة تترّقب عاصفة على مختلف المستويات ستلي قرارها بخصوص سندات اليوروبوند، وهو ما إستدعى البحث عن هذا الغطاء للقرار، فضلا عن إلزام مصرف لبنان وجمعية المصارف بأن يكونا جزءا من القرار الوطني اللبناني المتخذ، وذلك بعدما كانت جمعية المصارف تضع نفسها طيلة الأسابيع الماضية في موقع حث الحكومة اللبنانية على دفع هذه السندات التي تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار!
سيتمكّن “أشمور” من التفاوض الآن بشكل جماعي مع سائر الدائنين الأجانب، من جميع الشرائح، وحتّى الدخول في دعوى جماعيّة معهم في وجه الدولة اللبنانيّة، وهو ما سيعني تمتّع الدائنين بقوّة ضغط أكبر في المرحلة المقبلة
مسار التفاوض الصعب
كما ذكرنا سابقاً، سيكون على الدولة اللبنانية، في المرحلة المقبلة، التفاوض مع حاملي السندات من مختلف الشرائح، للتوصّل إلى عمليّة إعادة هيكلة للدين، لأن جميع سندات اليوروبوند ستكون بحكم المستحقّة حكماً وفوراً بعد التخلّف عن سداد سندات شهر آذار/مارس. ويبدو أن صندوق “آشمور” الإستثماري كان يهدف للوصول إلى هذه المرحلة تحديداً، من خلال شراء كميّة السندات التي مكّنته من فرض “فيتو” (عبر شراء حوالي 26% من السندات التي تستحق هذا الأسبوع)، في وجه مقترح إعادة جدولتها. وهكذا، سيتمكّن “أشمور” من التفاوض الآن بشكل جماعي مع سائر الدائنين الأجانب، من جميع الشرائح، وحتّى الدخول في دعوى جماعيّة معهم في وجه الدولة اللبنانيّة، وهو ما سيعني تمتّع الدائنين بقوّة ضغط أكبر في المرحلة المقبلة.
وفي هذا السياق تحديداً، تذهب الأنظار بإتجاه المصارف اللبنانيّة التي مازالت تتمتّع بحصّة وازنة من سندات اليوروبوند لهذه السنة ولباقي السنوات، وهي كلّفت شركة “هوليهان لوكي” بأن تكون مستشاراً ماليّاً لجمعيّة المصارف اللبنانية للمساعدة في عمليّة التفاوض على إعادة هيكلة الدين. ومن المرتقب أن تلعب الجمعيّة دوراً في محاولة إقناع الدائنين الأجانب بالتفاهم مع الدولة اللبنانيّة للتوصّل إلى إتفاق على إعادة هيكلة السندات، والتريّث قدر الإمكان قبل اللجوء إلى الإجراءات القانونيّة والدعاوى التحكيميّة في وجه الدولة اللبنانيّة، خصوصاً أن المصارف اللبنانيّة تدرك أن وضعها التفاوضي في وجه الدولة سيكون أضعف عند الوصول إلى مرحلة الإجراءات القانونيّة. وتفيد المعطيات المتوفّرة حاليّاً بأنّ المصارف اللبنانيّة بدأت أساساً بالتواصل مع الدائنين الأجانب للتنسيق خلال المرحلة المقبلة، ضمن إطار مجموعة تمثّل حملة سندات اليوروبوند.
وهكذا سيكون أمام الدائنين الأجانب خيارين؛ أوّلهما، الإكتفاء بالإنخراط في مسار تفاوضي مع المصارف اللبنانيّة ضمن مجموعة التنسيق التي ستمثّل كل حملة السندات، في وجه الدولة اللبنانيّة للتفاهم على عمليّة إعادة جدولة شاملة لسندات اليوروبوند، على أن ينتقل الدائنون الأجانب إلى الضغط القانوني في مراحل لاحقة في حال فشل المفاوضات. وفي المقابل، يمكن أن يختار الدائنون الأجانب رفع دعاوى أمام المحاكم الأميركيّة، أو دعاوى تحكيم إستثماري أمام “المركز الدولي لتسوية منازعات الإستثمار”، بالتوازي مع عمليّة التفاوض التي تجري من خلال مجموعة التنسيق، وذلك بهدف تكثيف الضغط على الدولة اللبنانية في مرحلة المفاوضات على إعادة الجدولة.
حتّى الآن، وبإستثناء ما تسرّب عن التحضير لإطلاق مجموعة التنسيق خلال الأسبوعين المقبلين، ما زالت نوايا الدائنين الأجانب غامضة وبشكل مقلق، خصوصاً وأنها قد تستبطن نوايا سياسية تزيد من وطأة الأبعاد التجارية القانونية البحتة. لكنّ الأكيد هو أن هؤلاء الدائنين هم من الصناديق الإستثماريّة التي تتقن التعامل مع هذه الحالات من النواحي القانونيّة، والتي تملك الخبرة للتعاطي مع عمليّات التفاوض في هذا النوع من الظروف. وبالتالي، سيكون أمام الحكومة تحدّي كبير على هذا المستوى، خصوصاً أن العوامل المتعلّقة بدرجة إنسجام الأقطاب المحليين مازالت غير واضحة، بالرغم من مشهديّة الإجتماع الذي سبق إجتماع الحكومة نهاء الإعلان عن تعليق سداد السندات.
تحديات ماليّة ونقديّة
أولى النتائج التي ستتمخّض عن قرار عدم السداد ستكون تخفيض تصنيف لبنان الإئتماني إلى درجة التعثّر، وبما أنّ موجودات المصارف اللبنانيّة مرتبطة إلى حد كبير بسندات الخزينة وسندات اليوروبوند، فمن الطبيعي أن يتدهور تصنيف المصارف الإئتماني أيضاً. بالنسبة إلى الدولة اللبنانيّة، سيعني الأمر توقّف قدرتها على الإقتراض من الأسواق في المرحلة المقبلة، لكنّ هذه المسألة قائمة أساساً منذ فترة مع عدم إقدام وزارة الماليّة على طرح سندات يوروبوند جديدة للإكتتاب، بسبب عدم القدرة على تسويقها لإرتفاع مخاطرها. لكنّ تدهور التصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانيّة سيعني تلقائيّاً تزايد الضغوط عليها من خلال تخفيض أو إلغاء سقوف تسهيلاتها لدى المصارف المراسلة، أو مطالبتها بتوفير المزيد من الضمانات مقابل هذه التسهيلات.
وسواء أرادت المصارف اللبنانية، في هذه الحالة، تخفيض أرصدتها المستعملة من تسهيلاتها أو توفير المزيد من الضمانات، سيكون عليها توفير السيولة الكافية لذلك من حساباتها، وهو ما سيزيد من الضغوط التمويليّة على القطاع المصرفي. وفي كل الحالات، من المفترض أن تتأثّر أيضاً في هذه الحالة قدرة المصارف على فتح الإعتمادات المستنديّة في الخارج، أو إجراء الحوالات مستخدمةً حسابات إئتمانيّة لدى المصارف المراسلة، وكل ذلك سيترك أثره على قدرة القطاع المصرفي على تمويل عمليّات الإستيراد ولو للبضائع الحيويّة الأساسية.
إذا قرر لبنان التسليم بوصاية صندوق النقد، أو الخضوع للشروط التي قد تُفرض من غيره من الجهات الدوليّة الداعمة، من أجل تأمين العملة الصعبة على المدى القصير أو توفير شروط إعادة الهيكلة من قبل الدائنين، فستكون البلاد أمام إنفجار إجتماعي كبير
تدهور التصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانيّة سيضيف من ضغوط كبار المودعين في البنوك اللبنانية والذين يملكون القدرة على إستخدام الأدوات القانونيّة المناسبة في الدول الأجنبيّة، وبالأخص الولايات المتحدة حيث تملك هذه المصارف حسابات ماليّة وإستثماريّة. فهذه الفئة (كبار المودعين)، وبعد تدهور التصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانيّة، ستملك حافزاً أكبر لمحاولة إسترداد ودائعها عبر الضغط بالوسائل القانونيّة خوفاً على ودائعها، مع العلم أن العديد من المصارف إنصاعت خلال الأشهر الماضية لهذا النوع من الضغوط لتلافي الدخول في مواجهات قضائيّة في محاكم الولايات المتحدة. وعلى أي حال، من المفترض أن تسرّع الحكومة خلال الأيام المقبلة في إقرار مشروع القانون الذي يشرّع عمليّة “الكابيتال كونترول”، ومن ثم إحالته للمجلس النيابي، لتوفير الغطاء القانوني لهذه العمليّة، من ناحية، ولتنظيمها وفق معايير واضحة، من ناحية أخرى.
مسألة التصنيف الإئتماني للمصارف ستترك أثرها أيضاً على الوضع النقدي، وبالأخص من ناحية الضغط على سعر صرف الليرة في السوق الموازية. فحالة الخوف الذي سيتركه تخفيض التصنيف الإئتماني في نفوس المودعين سرعان ما ستُترجم بعمليّات سحب للودائع المقوّمة بالدولار بالليرة اللبنانيّة، ولو وفق سعر الصرف الرسمي، ومن الطبيعي أن تتحوّل الكتلة النقديّة المسحوبة بالليرة بدورها إلى طلب على الدولار في السوق الموازية. ومع إرتفاع سعر الصرف، ستكون الأسعار في الأسواق عرضة للمزيد من الإرتفاع بالنسبة نفسها. ولا يبدو حتّى الآن أن تعميم مصرف لبنان الأخير قد نجح في ضبط سعر الصرف لدى الصرّافين وفقاً للهوامش التي حددها.
شروط التمويل وإعادة الهيكلة
بمعزل عن كل هذه التداعيات، سيكون على الحكومة في المرحلة المقبلة أن تجد جواباً على سؤال أساسي: كيف سيقوم لبنان بتأمين العملة الصعبة الضروريّة لتمويل الإستيراد؟ حتّى الآن، كانت كل الأجوبة تمر بشكل أو بآخر من خلال صندوق النقد الدولي، لكنّ مسألة “الصندوق” باتت موضوعاً شائكاً مع إلزام حزب الله نفسه بمواقف عالية النبرة نحو الصندوق وأية وصاية منه تتخطّى “المشورة التقنيّة”، وهو ما يعني أن طبيعة المعالجات المتعلّقة بهذه النقطة لن تكون محل إجماع لبناني في المرحلة المقبلة، أو أقله سيضع حزب الله نفسه خارج هذا الإجماع، ما يؤدي إلى إضعافه تلقائياً، بسبب طبيعة الموقع الذي يحتله الحزب في التركيبة اللبنانية، إلا إذا أعاد النظر بموقفه، تبعاً للتطورات الآتية.
لكنّ لبنان إذا قرر إستبعاد فكرة وصاية الصندوق على خطّة الحكومة، فسيكون أمام المزيد من الإشكاليّات المتعلّقة بالوضع المالي. فالدائنون الذين سيتّجهون إلى مفاوضة الحكومة في المرحلة المقبلة سيسألون قبل أي شيء عن قدرة الدولة على تأمين مصادر تمويل مؤقّتة كفيلة بفتح الباب للخروج من المأزق الراهن، ومن المستبعد أن ينخرط صندوق النقد في تمويل أي قرض لا يقترن ببرنامج واضح يتضمّن “الإصلاحات” التي يفرضها عادةً. ومن المعروف أن وصاية صندوق النقد تمثّل ضمانة للدائنين في حالات التعثّر، خصوصاً أن توصياته تذهب عادةً بإتجاه ضمان إستعادة الدولة لملاءتها الإئتمانيّة، ولو على حساب الأولويّات الإجتماعيّة والمعيشيّة للمواطنين.
أمّا إذا قرر لبنان التسليم بوصاية صندوق النقد، أو الخضوع للشروط التي قد تُفرض من غيره من الجهات الدوليّة الداعمة، من أجل تأمين العملة الصعبة على المدى القصير أو توفير شروط إعادة الهيكلة من قبل الدائنين، فستكون البلاد أمام إنفجار إجتماعي كبير، إذ أن جميع المؤشّرات المتوفّرة اليوم باتت تدل على وجود إحتقان غير مسبوق ناتج عن تدهور الظروف المعيشيّة للغالبيّة الساحقة من اللبنانيّين، وهو ما يعني أن أية زيادات ضريبيّة أو تقليص في شبكات الأمان الإجتماعي لن تمر مرور الكرام في الشارع المحتقن أصلاً.
وهكذا، سيكون لبنان أمام خيارات أحلاها مرّ على مستوى معالجة مشاكله التمويليّة، بين صندوق النقد وشروطه التفجيريّة، أو إستبعاد الصندوق ومشاكل شح العملة الصعبة. كما سيكون أمام خيارات أخرى أحلاها مرّ على مستوى إعادة هيكلة الدين، بين الذهاب إلى المحاكم الأميركيّة أو مركز التحكيم التابع للبنك الدولي، أو الذهاب إلى حلول متفق عليها مع الدائنين، وخصوصاً الأجانب، لكنّ بعد تحقيق شروط تضمن إستعادة الدولة قدرتها على السداد، ولو على حساب الأمن الإجتماعي.