لنذهب أولاً إلى الشكل. ترأس رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أول إجتماع من نوعه في القصر الجمهوري، لفريق الثامن من آذار/مارس، بغياب مكون أساسي هو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. غيابٌ عوّضه، لا بل طغى على اللقاء كله، حضور سمير جعجع. رئيس حزب القوات يشارك في لقاء لفريق “الممانعة”، وفي المقابل، يصبح فرنجية جزءاً من صورة فريق الرابع عشر من آذار/مارس الذي قاطع “اللقاء”، أي سعد الحريري ووليد جنبلاط وسامي الجميل.
في الشكل، هذا أول نعي رسمي علني متبادل للإنقسام السياسي العامودي الذي حكم وتحكّم بالمشهد اللبناني منذ خمسة عشر عاماً حتى يومنا هذا. إنتهى زمن 8 و14 آذار/مارس، وحلّ زمن جديد. لنقل إنه زمن 6 أيار/مايو 2020. الإصطفافات تتغير، مثلاً، هل نبيه بري أقرب إلى وليد جنبلاط وسعد الحريري وسليمان فرنجية، أم إلى حزب الله وميشال عون؟
هذه النهايات والبدايات ليست وليدة لحظة أو صدفة، بل نتاج تراكم عمره سنوات، وكان يكفي أن يأتي موسم 17 تشرين الأول/أكتوبر حتى يكون كفيلاً بإنهاء بعض الأساطير. وللمناسبة، يتقن سمير جعجع لعبة صياغة الأسطورة. يعيدنا إلى كتاب رولان بارت “أسطوريات”. في شرحه لبعض الصور والرسوم، يقول بارت إنه وبينما كان يقص شعره عند حلاق رجالي، جاءه الأخير بعدد من صحيفة “باري ماتش” تزيّن صفحته الأولى صورة جندي زنجي يرتدي ثياباً عسكرية فرنسية، وهو يؤدي التحية برأس مرفوع وعينين متوثبتين مثبتتين على علم بلاده الأحمر والأبيض والأزرق. وراح الكاتب الفرنسي بعد ذلك، يحلّل الدلالات، واحدة تلو الأخرى. عن فرنسا والتنوع والأعراق والوطنية والجيش والألوان.
بدا جعجع اليوم مثل ذلك الجندي. هو الآتي من فضاء معراب إلى بعبدا، بصفته معارضاً للعهد، ولكنه أحرص من رئيس الجمهورية نفسه، على المقام الماروني الدستوري الأول في البلد. مقام يبقى مُتأملاً، من وجهة نظر رئيس القوات اللبنانية، أن يؤول إليه. كل الرموز ـ الدلالات متوفرة في القصر ـ المؤسسة، بما فيها التضحية القواتية بالجلوس في قاعة تضم طاولة وحيدة هي “طاولة 8 آذار/مارس”. عندما يكون نبيه بري حريصاً على مقام رئاسة الجمهورية وحاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش وكلها مارونية، هل يمكن لسمير جعجع أن ينزل تحت هذا السقف؟ الجواب حتماً.. لا.
في المضمون، يأتي جعجع إلى بعبدا، وفي ذهنه صورة عميقة. صورته عند جمهوره أولا. عند المسيحيين. صورة رجل الدولة. اللحظة الإقتصادية والمالية تستدعي من الجميع أن يتحملوا مسؤولياتهم. هذه هي ذريعة تلبية الدعوة. هذه اللحظة تستوجب معالجات، ومن غير الحكومة يفترض أن يشرع بذلك؟ فلتكن لها فرصة، ولكنها ليست مفتوحة. بدا متساهلاً مع الحكومة أكثر من بعض مكوناتها، بمن فيهم جبران باسيل. النقد الذي تعرضت له ورقة الحكومة من شركاء في صياغة كل بند من بنودها، أكبر من تلك التي قدمها جعجع نفسه!
وماذا يمكن أن يغري الجمهور، ولا سيما الحراك المسيحي، أكثر من خطاب القوات الداعي إلى إجراء إنتخابات نيابية مبكرة؟
بهذا المعنى، قال جعجع ما يعتقد أنه يجب عليه قوله من القصر الجمهوري، وأضاء على الخطة المالية نفسها، مصوباً على ملفين يصيب من خلالهما التيار الوطني الحر وحزب الله، من دون أن يسمي أحداً منهما. ملفا الكهرباء والجمارك (ضمناً المعابر الحدودية البرية والجوية والبحرية). هما عملياً المطلبان الدوليان الأساسيان، سواء عند صندوق النقد أو عند كل المانحين والمؤسسات الدولية والعواصم الغربية.
الصورة نفسها تتحدث أيضاً. لدى جعجع من الهوامش ما لا يتوافر عند غيره من القادة اللبنانيين. لا يمكن لأي مكون في 8 آذار/ مارس أن يتجرأ على فعل ما فعلته القوات اللبنانية. يسري ذلك على مكونات 14 آذار/مارس، ولو أن وليد جنبلاط يمكن أن يضع جعجع، بهذا المعنى، في “جيبه”!
الحريري: العداوة السياسية مع جبران باسيل يمكن أن تكون مربحة وواضحة وندية. قيمة الأخير أنه يلعب فوق الطاولة وليس تحتها. أما سمير جعجع فهو “متل الحية، من تحت لتحت. يريدنا أن نتبنى ترشيحه رئاسياً، حتى يحدد موقفه من العلاقة معنا”
يأتي جعجع إلى بعبدا، وهو عملياً في حالة قطيعة سياسية كاملة مع رئيس تيار المستقبل سعد الحريري. تراكمت الأخطاء والخطايا والعوامل النفسية والشخصية والسياسية، فأنتجت واقعاً مأزوماً ومعقداً في العلاقة بين الطرفين. يجد المدقق مضبطة سياسية عند الحريري، تبدأ أقله من لحظة تبني معراب خيار ترشيح ميشال عون لأجل إسقاط ترشيح سليمان فرنجية وتبنيه أميركياً وفرنسياً وسعودياً وحريرياً. سقط الترشيح، وربح جعجع، ليس وصول عون إلى رئاسة الجمهورية، بل صياغة قواعد يعتقد أنها كما أوصلت “الجنرال”، يمكنها أن توصله مستقبلاً إلى القصر الجمهوري (قاعدة الماروني الأقوى). لم يكن جعجع يعرف أن هذا التوقيت الرئاسي سيحرق ميشال عون. هو متيقن أن الإنفجار الإقتصادي والمالي والإجتماعي سيحصل لكن ليس قبل العام 2022. فاجأ 17 تشرين الجميع. لم تجد القوات حاجة لإستخدام عضلاتها. التسونامي نفسه الذي أتى بميشال عون إلى بعبدا سيطوي مشروع ـ “التوريث”. لكأن تفاهم معراب كان تفاهماً جهنمياً، سواء بذكاء من صاغه أو بقلة درايته بأن الأمور ستصل إلى هذه النقطة بالذات.
لا تنتهي القصة مع الحريري هنا. لم يكد يمضي على التسوية الرئاسية إلا حوالي السنة، لكن التراكم الذي جعل الديوان الملكي يتخذ قراراً بإحتجاز سعد الحريري، في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، لم يكن وليد لحظة. المتبرعون اللبنانيون بالتحريض على الحريري سعودياً، لو أرادوا التحريض على حزب الله، لما وفروا تلك الصياغات والأسباب الموجبة التي كان يمكن أن تجعل محمد بن سلمان يستنسخ تجربة تعامل معمر القذافي مع الإمام السيد موسى الصدر في ليبيا.
زاد الطين بلة أن تجربة القوات، في حكومة ما بعد إنتخابات العام 2018، لم تكن متناغمة مع المؤشرات الحريرية نفسها، بمعزل عن الصح أو الغلط. جاء 17 ت1/أكتوبر، فكانت القوات أول من ينزل من مركب الحكومة، قبل غرقه. “المونة” الحريرية على جنبلاط بالبقاء في المركب، كانت أكبر. ترك ذلك أثراً كبيراً في بيت الوسط. بدأ البحث عن بديل للحريري، قبل أن تؤول تجربة ثلاثة مرشحين (محمد الصفدي وبهيج طبارة وسمير الخطيب) إلى العودة إلى الحريري نفسه. المفاجأة أتت من معراب مجدداً. لن تجيّر أصوات نوابها للحريري. كانت تلك الذريعة الميثاقية، سبباً يكاد يكون وحيداً لإعتذار الحريري من “الخليلين”، قبل أن يقطفها حسان دياب، ويندم رئيس تيار المستقبل لاحقاً.
هذا المسار العام يتضمن تعرجات كثيرة، تكيل فيها القوات إتهامات كثيرة للحريري، خصوصا في ملف التعيينات المسيحية. ملف أداره الثنائي سعد ـ جبران، من دون الحد الأدنى الذي نصّ عليه تفاهم معراب (مناصفة)، وكل ذلك، ساهم في تكبير جردة الحساب السعودية المفتوحة حتى يومنا هذا.
يدرك جعجع أن كل ما رُمي في الإعلام عن تشكيل جبهة معارضة، بعد عودة الحريري من باريس، هو عبارة عن فقاعات صابونية. لا القوات بوارد هكذا جبهة، ولا الحريري ولا جنبلاط. ما يسميه البعض “الحياد الإيجابي” للقوات في هذه المرحلة، هو رهان على الوقت والشارع. هما أهم من أية جبهة سياسية معارضة، فكيف إذا كانت على شاكلة كل من جنبلاط والحريري سياسياً؟
يكاد الحريري “يبق البحصة”. هو نادم، على الأرجح، على خروج قائد “القوات” من السجن في العام 2005. في دردشة جرت مؤخراً بينه وبين أحد الصحافيين، في بيت الوسط، أوحى الحريري أن الضرورات تبيح المحظورات. بالسياسة، إعادة فتح الخطوط بينه وبين رئيس الجمهورية وجبران باسيل واردة في أية لحظة، وليس خافياً أن هناك من يعمل على هذا الخط. بالنسبة إلى رئيس تيار المستقبل، فإن العداوة السياسية مع جبران باسيل يمكن أن تكون مربحة وواضحة وندية. قيمة الأخير أنه يلعب فوق الطاولة وليس تحتها. أما سمير جعجع فهو “متل الحية، من تحت لتحت. يريدنا أن نتبنى ترشيحه رئاسياً، حتى يحدد موقفه من العلاقة معنا”.
بالنسبة إلى القوات، تختلف الحسابات. ثمة إستشعار جنبلاطي وحريري بالخوف من فتح الملفات. لا دخان بلا نار. هذه القاعدة لا تسري على القوات. لن نقف موقف المتفرج المتلذذ بصراعات أهل الفساد، لكننا لن نكون ملكيين أكثر من الملوك أنفسهم. هناك حفلة بيع وشراء. الحريري يهاجم حزب الله، وفي اليوم التالي، يستقبل على مأدبة الإفطار الحاج حسين الخليل. ماذا لو قررت القوات أن تفتح أبواب الحوار؟ سيتم تكفيرها. قلنا لهم بالحرف الواحد أية معركة خارج التركيز على حزب الله وسلاحه ودوره لا قيمة لها. هذه هي رسالة معراب إلى جنبلاط والحريري عبر فضائية “العربية”.
الكلام القواتي موجه لكل من الحريري وجنبلاط. تريدان جبهة معارضة، فلتكن الأولوية لمواجهة حزب الله وليس العهد أو جبران باسيل. هذه هي رسالة سمير جعجع من بعبدا.. قبل أن يخرج ويعبر عن “فوبيا” التباعد الإجتماعي في زمن الكورونا. اين التباعد؟ أين التباعد.. سأل الصحافيين وهو يبتعد عنهم، وغادر القصر عائداً إلى معراب.