الإسلام السني المعتل بالحداثة والأصولية (4)

في محاضرة بالأردن، وصف الباحث في شؤون الحركات والجماعات الإسلامية الدكتور رضوان السيد "الإسلام السني" بأنّه "مريض". وهذه ليست المرة الأولى التي يوصف الإسلام بهذه الصفة. سبق للكاتب التونسي - الفرنسي الراحل عبد الوهاب المؤدب أن قال "إذا كان التعصب هو مرض الكاثوليكية، وإذا كانت النازية هي مرض ألمانيا، فإن الأصولية هي مرض الإسلام".

أن يصف المُفكر والمُؤرخ رضوان السيد الإسلام السني بـ”المريض” فحينها يكون للكلام وقع خاص. والصواب يقتضي الوقوف عنده ليس فقط لوزن الرجل وأهميته، بل لأنه هو من أطلق مؤخراً سجالاً في “أحوال أهل السُنة” ومآلاتهم السياسية في النظام اللبناني. ورضوان السيد صاحب أكبر مكتبة شخصية في بيروت والسُنّي “الأزهري”، أو ابن الأزهر والخبير في الشؤون الإسلامية والذي يجلس في السياسة على يمين الرئيس فؤاد السنيورة، وكان ينتمي الى “صقور” تيار المستقبل قبل “انشقاقه” أو ابعاده عام 2017 عنهم بسبب التسوية الرئاسية التي أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية وأعادت سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة.

توصيف السيد الإسلام السني بـ”المريض” يعني أنه يتتبع تطوّر ما يطلق عليه “السمتية الدينية (السَمتُ: حُسن النحو في مذهب الدين)”، التي اخترعتها الحركات الإسلامية بوصفها عودة إلى الكتاب والسنة. وهي في الواقع مرتبطة بالحداثة وردود الفعل عليها والظروف المعاصرة لا بالتقاليد والتراث الإسلامي.

والإسلام السنّي، بحسب رضوان السيد، هو إسلامٌ مريض بسبب تأثيرات الحداثة التي نالت من كل الأديان، لكن الفرق أنّ الأديان الأخرى، كما يشرح السيد، لها دول قوية تحتويها وتوظفها بما يخدم هذه السياسات والمؤسسات السياسية، أو في الحدّ الأدنى توقفها عند حدّها، وهو ما يحصل في الدول الغربية وتمارسه أحزاب الأغلبية، فجميع هؤلاء حاولوا استخدام النفوذ الديني لخدمة أهداف سياسية.

المرض داخل الإسلام السني ناجم إذاً، عن عصر الحداثة أولاً، وعن الصحوات الدينية التي أحدثتها الحداثة بوصفها رد فعل ثانياً، بعد فشل الدولة الوطنية العربية المعاصرة. فالصيغة التي فشلت أولاً تلك التي تشكلت خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأخذت تمتلك استقلالها عن الاستعمار بعد الحرب الثانية. لكنها لم تعمّر طويلاً.

بعد انهيار السلطنة العثمانية وإعلان مصطفى أتاتورك تركيا جمهورية علمانية، أصاب الذعر بعض المسلمين. آنذاك، دعا الأزهر مجموعة من رجال الدين في العام 1926، إلى عقد مؤتمر في القاهرة لبحث هذه القضية. انتهى المؤتمر بقرارات تفيد أن منصب الخلافة ضروري للمسلمين، كرمز لوحدتهم. لكن، حتى يكون هذا المنصب فعالاً، لا بد للخليفة أن يجمع بين السلطتين الدينية والمدنية. وهذا أمر لم يكن يتوافر لأي حاكم من حكام المسلمين في ذلك الوقت.

تصدى رجال الدين لمشروع علي عبد الرازق الليبرالي المصري والشيخ الازهري، الذي أصدر كتاب “الإسلام وأصول الحكم”. مشروع حارب مفهوم الخلافة، ودعا إلى فصل مفهوم القضاء عن الشريعة، واعتباره ضمن المنظومة السياسية أيضاً.

ولم يكتف عبد الرازق بهذا فحسب، فقد أقر بأن الخلافة ما هي إلا اجتهاد ارتبط بحدث محدد، وهو وفاة الرسول محمد، فكانت ضرورية آنذاك للحفاظ على الإسلام والدولة التي أقامها الرسول، ولكنها لم تكن فرضاً. وسحب عبد الرازق كتابه من التداول بعد مواجهة رجال الدين، والأمر نفسه سيحصل مع العلامة عبدالله العلايلي في كتابه “أين الخطأ” في اواخر سبعينيات القرن العشرين. وقد اعتبر الباحث والمؤرخ الدكتور وجيه كوثراني أن آراء العلايلي التجديدية في مجال الفقه الإسلامي لم تحظ بالاهتمام الكافي ولم تشع كما شاعت اجتهاداته اللغوية لأسباب متعددة ومن مواقع مختلفة “من موقع التقليديين والمحافظين الذين سخطوا على الشيخ وحاصروا فكره الفقهي وحاربوه. وربما من موقع الحداثيين الذين لم ينتبهوا في غضون الستينيات والسبعينيات، إلى أن الحداثة الأوروبية في مسارها التاريخي بدأت بإصلاح ديني وتطوير في العقليات والذهنيات والمناهج. غاب عنهم هذا الهم الأخير وأغفلوا من حاول التجديد في مجال الفقه. واهتموا بمجالاتهم واختصاصاتهم الخاصة وحسبوا أن الرجعية الدينية تتراجع وحدها بتقدمهم وحدهم”.

فشل المشروع الليبرالي العربي في اواخر العشرينيات من القرن الماضي، وكان الاستعمار الفرنسي والانكليزي قد حط في بلاد المشرق بعد اتفاق سايكس بيكو، ليحل منطق “الغالب والمغلوب” والتفرنج والتراث، والحداثة والأصالة. وجاءت حرب تقسيم فلسطين العام 1948، بعد قرار اممي دولي، لتضعف العالم العربي وتمهد الطريق للانقلابات العسكرية والاتجاهات “الاشتراكية” والتوتاليتارية لتستولي على السلطة في أكثر من 10 دول عربية وتتمتع بشعبية هائلة وجماهير متراصة تهتف للقائد الأوحد والأبدي. لكن تبيّن أن شعاراتها لم تكن أكثر من “رغوة صابون” بحسب رضوان السيد. وضعفت تلك الأنظمة بصورة كبيرة بعد هزيمة الـ1967، لكنها لم تسقط لأسباب تتعلّق بشروط الحرب الباردة حينها وديناميكيتها. ما أبقى الأنظمة العربية. لكن حوّل وظائفها للعمل إما لحساب الولايات المتحدة الأميركية أو الاتحاد السوفياتي. وبدأ يبرز البعث في سوريا والعراق.

في الأثناء، “كانت المشكلات تتراكم وتكبر وتتدحرج حتى بدأت تظهر عبر انفجار تمرّدات هنا وهناك، على صيغة حركات إسلامية احيائية واخوانية”، على ما يقول رضوان السيد نفسه. كان أنور السادات في مصر يدعم الحركات الاسلامية لمواجهة الحركات اليسارية. والسلفية التقليدية في السعودية والخليج انفجرت منها سلفية جديدة لا علاقة لها سياسياً بالإرث الحنبلي المعروف، لأنّ الحنابلة السلفيين يقولون بطاعة الملك عبد العزيز آل سعود، وهو الأمر الذي انتهى في السبعينيات تحت وطأة السمتية الدينية المتشددة، التي لم تجد لها نفوذاً بعد وفاة الملك فيصل، فصاروا يتطلعون إلى سلطة جديدة، وجاءت أفغانستان لتمثّل مفتاحاً لذلك، وساعدهم في ذلك سياسات دولية وإقليمية تدفع في توظيف هذه الحركات الإسلامية في مواجهة الاتحاد السوفياتي هناك.

إقرأ على موقع 180  حرب الرئيسين.. على مااااااااذا؟

في أفغانستان، التقت السمتيات الإخوانية والجهادية والسلفية، ونجم عنها “القاعدة” وما تفرّع عنها، وهو ما يعتبر “انشقاقاً داخل الإسلام السني” بالمعنى الديني، بحسب توصيف السيد.

والمرض هو نفسه يجعل الكثيرين من الطائفة السنية، يعتبرون رضوان السيد “ضمير السنة” بعدما كتب مراجعة ينتقد فيها سياسة سعد الحريري. وقبل أن يصيب الطائفة السنية مرض التاريخ والحاضر، وقعت في ورطة التحولات. يقول الشاعر أنسي الحاج “كان السنّة، حاملي لواء العروبة منذ الاستقلال عن تركيا. حلّت دمشق لديهم محلّ الباب العالي. كانت سوريا قلعة العروبة خاصّة أنّها كانت بقايا الدولة الأمويّة. لم يكن في سوريا طائفيّة ظاهرة، ولكنّ السلطة كانت في قبضة السنّة. ومن عاصمة الخلافة الأمويّة تحوّلت دمشق إلى عاصمة الملك العلوي”.

من هناك تبدأ نقطة التحولات، ومن هنا يبدأ السؤال: هل السنة “أمة” أو “طائفة كبرى” في الشرق الاوسط أم هم اقلية مثل غيرهم؟

كان سنّة لبنان يعتبرون الشام وطنهم الأصلي الذي سُلخوا عنه. وأخذوا تدريجيّاً، هم وسواهم، يكتشفون أنّ العُرى تغيّرت. فعدا سيطرة العلويين على الحكم في سوريا تحت قناع العلمنة، وبدء صعود المارد الشيعي في لبنان مع قدوم السيد موسى الصدر وتوليه زمام الطائفة قبل اختفائه عام 1978. كان نجاح الثورة الإيرانية الخمينية في نهاية السبعينيات دافعاً أكبر لزيادة شهوة الإسلاميين السُنة للسلطة ومحاكاة النموذج الإيراني في أواخر سبعينيات القرن العشرين، ومحاولة الوصول إلى إقامة دولة سنية موازية للدولة الإيرانية.

كان الحكام العرب ومعهم طبعاً أجهزتهم الاستخباراتية يرصدون بقلق هذه التطورات داخل بنى الإسلام السياسي السني، فيما كانت المؤسسات الدينية الرسمية عاجزة تماماً عن ملاحقة هذه التطورات. في المحصلة، أصبح الإسلاميون السنة يرنون إلى إقامة نظام الشريعة في مواجهة نظام ولاية الفقيه. وصار ولي الأمر في مواجهة ولي الفقيه.

تبع الثورة الخمينية في إيران اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981، وذلك على مسافة سنتين من توقيعه اتفاقية كامب ديفيد التي توّجت إنكفاء الدور المصري في العالم العربي ومنه لبنان. تم إغتيال “الرئيس المؤمن” على يد اسلاميّ متشدد. هذا الإسلامي هو بالتعبير الحرفي: إخواني من تنظيم الأخوان المسلمين ومشروع الحاكمية الذي صاغه سيد قطب. ومع صعود الحركة الخمينية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الحرب العراقية ـ الإيرانية تحت أقنعة كثيرة: طائفية وقومية، وسينكأ فيها صدام حسين، بدعم خليجي مفتوح، تصدعات التاريخ ويطلق عليها: حرب القادسية. ترافق ذلك مع تشجيع لعبة الأمم وأفكار هنري كيسنجر الذي كان يريدها حرباً طويلةً بلا خاسر، وفي النهاية لم تكن إلا حرباً لبيع السلاح والتجديد لشرخ كانت له بعض الجذور في التاريخ ولا نزال نحصد تداعياته حتى يومنا هذا.

بعد حروب لبنان المتعددة والمتنوعة. ثم تحالف سوريا حافظ الأسد مع إيران الخميني ضد عراق صدام حسين، بدأ سُنة لبنان يتلمسون صعود قوة شيعية ترتبط بتحالف شديد الأواصر وعضوي مع سوريا وإيران. لقد دخلت عوامل كثيرة على خط الصعود السريع للشيعة في لبنان. أهمها، وقد يكون أوحدها، الحروب العسكرية ضد المارونية السياسية وإسقاطها، ثم توجيه ضربة استثنائية الى قوات المارينز على شاطىء بيروت وأخرى إلى القوات المتعددة الجنسيات. كان هذا يحصل بالتوازي مع حرب استنزاف يومية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، توجت بالتحرير في العام 2000. من يستذكر في تلك اللحظة، مشهد دخول الدبابات التي غنمها المقاومون إلى طرابلس وكيف نزلت العاصمة الثانية بشيبها وشبابها، برجالها ونسائها، للترحيب بالمقاومين ورميهم بالأرز والورود ورفع صور حسن نصرالله. ماذا حصل حتى إنقلب المشهد والمزاج؟

الحلقة الأولى: السنة.. مرض الأمة ومظلومية الطائفة https://180post.com/archives/10288

الحلقة الثانية: مظلومية السنة.. مشقة الزعامة https://180post.com/archives/10368

الحلقة الثالثة: المظلومية السُنية: إرباك وارتباك https://180post.com/archives/10439

الحلقة الخامسة والأخيرة: طائفة العروبة.. يائسة من العرب

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  السويد تنتقم من بطرس الأكبر.. وفنلندا من ستالين