في الزمن الناصري، أُجبر الزعيم البيروتي صائب سلام على الجلوس في منزله. سيُجبر في زمن إقليمي آخر على الإقامة في سويسرا. هو الزمن السوري الذي أحال معظم الزعامات السنية على التقاعد السياسي المبكر في مطلع تسعينيات القرن الماضي. لماذا؟ لأن اللواء إنعقد فقط للرئيس الراحل رفيق الحريري. استثناء وحيد حصل في حقبة ما بعد الطائف، وتعبيره كان في حلول الرئيس سليم الحص مكانه. وصول الحص إلى رئاسة الحكومة في العام 1998، لم يكن ـ بالنسبة لكثيرين في العاصمة ـ تعبيراً عن الوجدان السني، ولو أن الرجل له تاريخه الوطني الناصع والمشرف، بل كان تتمة لوصول قائد الجيش العماد إميل لحود إلى سدة الرئاسة الأولى. ذلك سيكلّف الحص كثيراً في انتخابات العام 2000، فقد خسر بإزاء موجة سُنية عارمة فضّلت سيدة أكاديمية هي الدكتورة غنوة جلول على من حاز ـ وما يزال ـ لقب “ضمير لبنان” بلا منافسة مع أحد، سوى مع عميد الكتلة الوطنية الراحل ريمون إدّه.
يوم أعفى الحريري الأب نفسه من رئاسة الحكومة، لعدم قدرته على التعايش مع إميل لحود، مَنَعَ على السُنة الإحباط. صحيح أنه أشهر سلاح “المظلومية”، لكنه جعله سلاحاً هجومياً، سياسياً وإعلامياً، وبكل ما أُوُتي من وسائل وأدوات محلية، مدعوماً بـ”مدد” سوري، كان يجسدّه، بشكل خاص، كلٌ من عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، فكان أن أكتسح مُعلناً زعامته الخالصة، بعدما أخرج من لوائحه “الودائع السورية”. كان انتصاره من النوع الصادم لكل من عارضه وخاصمه. حينذاك، بدا الرجل بكامل قوته. قوة ستزيد من توجس خصومه من مشروعه السياسي “المُعقد” وإمتداده الإقليمي، ومن علاقاته الدولية الضخمة والتي بقيت عصية على الفهم اللبناني العام. هذه العلاقات ستكون محط “غيرة” ومثار “استفسار” عند الجميع. وهي ذاتها ستحمي شروطه بالعودة إلى الحكم والحكومة، لكنها ستفشل في حمايته من مقتلةٍ مهولةٍ ستضع لبنان كله في مهب الريح، وليس السُنة وحدهم.
كان القتل ضارياً. من النوع الوحشي. ضراوته أسقطت كل تقنيات أجهزة الحماية. لم يكن الاغتيال بدائياً على الإطلاق. من قتله كان يعرف طبيعة نظام الحماية. وكان يعرف أكثر عن معنى القتل ونتائجه سياسياً. بدت المقتلة من النوع الهوليوودي. تُشبه كثيراً الغزوة الهوليوودية لتنظيم القاعدة في 11 ايلول/سبتمبر من العام 2001 إذ ضربت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، والتي كان الحريري أول من استنكرها واستشعر خطرها. يومها، تبلغ بالأمر على طريق عودته من سوريا، بعد لقاء جمعه بالرئيس بشار الأسد، وكان في منطقة ضهر البيدر. فأصدر من موكبه بيان الإدانة الشديد ضد الفاعلين، معلناً التضامن مع الولايات المتحدة، إدارةً وشعباً. يعرف الحريري بالحدس واليقين معاني الغضبة عند “السُنة”. فهو ومعه اللبنانيون كانوا بدأوا اختبار الإرهاب “المُتسنن” منتصف ليل العام 1999 ـ 2000 في ما عُرف باسم “أحداث الضنية”.
مصطفى ناصر: طلب مني الحريري أن أُعدَّ مقابلة لقناة “سي إن إن” مع أسامة بن لادن. فهمت اللعبة وما يقصده، وانتظرت حتى غادر برنت ساتلر وسألته: رفيق، شو بدك بهالموضوع؟ لا علاقة لنا بالقاعدة ولا بابن لادن. ماذا تقصد؟ فأجابني (الحريري): “يا مصطفى لازم الإعلام يظهّر نموذج بن لادن، في مقابل نموذجي”
يروي الكاتب السعودي طارق زيدان في كتابه بعنوان “الجورنالجي وكاتم الأسرار”، (عن الراحلين محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر) أن رفيق الحريري كان حريصاً على إظهار النموذج المعاكس للتطرف الإسلامي، والذي احتلّ الطليعة فيه زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن. وقد دفعه حرصه إلى أن يكون السبّاق في وصف زعيم القاعدة بـ”الإرهابي”، وأعلن موقفه هذا من منزله في مدينة جدة، وأمام الوكالات العالمية، فكان بذلك المسؤول العربي الأول الذي يطلق هذا الكلام.
وينقل زيدان عن مصطفى ناصر قوله له: “كان رفيق لا يحب نموذج بن لادن، ولا نموذج عدنان خاشقجي، بل كانت لديه حساسية شديدة منهما. وكان يقول إن لدى السعودية نماذج أفضل، كنموذجه هو تحديداً. ومنها أنه في يوم من الأيام وفي قريطم، ناداني، ومعه مراسل شبكة تلفزيون “سي إن إن” (في بيروت) برنت سادلر. وطلب مني أن أُعدَّ له مقابلة مع أسامة بن لادن. فهمت اللعبة وما يقصده، وانتظرت حتى غادر برنت وسألته: رفيق، شو بدك بهالموضوع؟ لا علاقة لنا بالقاعدة ولا بابن لادن. ماذا تقصد؟ فأجابني (الحريري): “يا مصطفى لازم الإعلام يظهّر نموذج بن لادن، في مقابل نموذجي”.
هذا هو عقل رفيق الحريري. بن لادن النموذج السعودي للإرهاب وهو النموذج السعودي واللبناني والعربي للإعتدال. جاءت غزوة “القاعدة” الأميركية بمثابة تتويج لـ”مظلومية سنية” استُخدمت في البداية ضد الاتحاد السوفياتي والشيوعية “الملحدة”، وعندما أدت وظيفتها في أفغانستان، رُميت في أحضان أنظمة الاستخبارات الإقليمية والدولية. في المقابل، دشّن إغتيال رفيق الحريري، مساراً جديداً، وربما غير مسبوق، في “مظلومية السنة” في لبنان، ولو أن ثمة من تمسك بخطاب مختلف، كماً ونوعاً في التركيبة اللبنانية. تمسكٌ مصدره رئاسة السلطة التنفيذية (رئاسة الحكومة) التي أعطاها إتفاق الطائف الكثير من صلاحيات الرئاسة الأولى في الجمهورية الأولى.
سيرة “المظلومية السنية” نتاج مسار طويل من الأحداث. هي تؤرخ ذاتها منذ إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982 بوصفها “جيش المسلمين”، على ما أسماها المفتي المقتول اغتيالاً أيضاً الشيخ حسن خالد. ومنذ سيطرت حركة أمل والحزب التقدمي الإشتراكي على بيروت، غداة إنتفاضة السادس من شباط/فبراير 1984. ومنذ محاصرة طرابلس وإخراج ياسر عرفات منها وإخضاعها لاحقاً لإمرة القوات السورية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. تواريخ كثيرة لسيرة “المظلومية السنية” في لبنان. لكن أهمها ما يتعلق بالحريري الأب والحريري الإبن. الأول، بالنسبة إلى عموم اللبنانيين والسنة مظلوم. الثاني، بالنسبة الى السُنة تحديداً هو ظالم ومظلوم. ظالم للطائفة بما قدمه من تنازلات للآخرين وتحديداً إلى حزب الله والتيار الوطني الحر. ومظلوم لأنه ما استنجد بالطائفة، وهذه تُحسب للرجل لا عليه. لكن في لبنان بلد الرغبات الجامحة إلى الاصطدام، فان قلة قليلة ستُقدر للرجل تعففه عن السقوط في آتون الشحن الطائفي والمذهبي، حتى يومنا هذا، ولو أن بعض محيطه و”حالته”، إستخدم هذا السلاح، لا بالغ وما يزال بإشهاره بوجه الآخرين!
كل ذلك، جعل لهذه “المظلومية” طبيعة مُرتبكة. وطبيعة مُربٍكة. ارتباكها مرده إلى تاريخها في لبنان الذي يُحيي، هذه السنة، مئويته الأولى. وإلى علاقتها مع غيرها من “المظلوميات اللبنانية” وهي كثيرة بكثرة المذاهب. فقد أقامت الطائفة السُنية مديداً في مربع نشدان الوحدة العربية. لم تعترف بنهائية الكيان اللبناني خطياً إلا بعد توقيع اتفاق الطائف بالسعودية. في الاتفاق ذاته، قايضت لبنانيتها بتوقيع مسيحي خطي مُقابل يُقر ويعترف بعروبة لبنان. لقد تخلل هذه المئوية الكثير من الإضطرابات.
أما إرباكها فيعود، إلى ضياعها في تعيين مُسبب وأسباب خسارتها أدوارها ومواقعها. وفي هذا ضاعت وأضاعت. ذلك أن “المظلومية السنية” راحت تتقلب ضد قرينتها المسيحية، وأحياناً ضد مثيلتها “الشيعية”، إلى أن ألهمها الله لمخاصمة “شيعة حزب الله” و”موارنة ميشال عون”. وخلال ذلك، ردّت القهقرة الى بنيتها الاجتماعية والسياسية. وخلال ذلك وفي اثنائه، لم يخلُ الأمر من اشتباكات مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط يوم غادرها الى الوسطية. ومع القائد الماروني المسيحي سمير جعجع، يوم طالبها بضمانات لا تحوزها.
كل هذا، لا يعني بحال من الأحوال أن السُنة شياطين هذه الجمهورية. وأن الآخرين ملائكته وقديسوه. بل شاركهم الجميع في رغبة الذهاب نحو أبواب الجحيم
على امتداد عقود مديدة، حاول السُنة جعل لبنان من طراز “ناصري” أو “بعثي”، وكلاهما من طبيعة شمولية. وهذا ما لا يحتمله البلد الصغير المتورم بهويات فرعية. ولطالما اُعتُبِرَ خطأً تاريخياً وفائضاً جُغرافياً. وهو قام على منطق قبول الاختلاف. اختلاف الثقافات شرط قبولها لبعضها البعض. عكس ذلك كان يعني الاضطراب. في الأساس، قلما عرف هذا الوطن الاستقرار. فترات السلم فيه إما باردة أو قصيرة. تاريخ التوترات فيه وعليه أطول من سنوات الاستقرار. كل هذا، لا يعني بحال من الأحوال أن السُنة شياطين هذه الجمهورية. وأن الآخرين ملائكته وقديسوه. بل شاركهم الجميع في رغبة الذهاب نحو أبواب الجحيم. جميعهم غالبته الرغبة باعلاء الهوية الفرعية على الهوية الوطنية. ومن ادعى هويةً لبنانيةً كان يريدها باطار أقلوي يخاف المحيط الإسلامي، على ما كان حال المارونية السياسية التي لم توفر شيئاً في استنفار العصبيات الأهلية.
منذ الاستقلال عام 1943 وعلى امتداد عقود طويلة ومضطربة وحتى سقوط العاصمة بيروت تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 كان السُنة أساساً صلباً في ما حصل. فمنذ الاستقلال حتى أوائل الثمانينات كاسروا المسيحيين على موقع لبنان ومدى ارتباطه بالقضايا العربية. لقد حمّلوا لبنان ما لا طاقة على احتماله في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فكان اتفاق القاهرة الذي شرع الوجود الفلسطيني المسلح الذي ابتلع الدولة وصار أقوى منها. قبل ذلك كانت ثورة العام 1958 وحلف بغداد.
الآن، يحارً السُنة في لبنان كيف يوجهون مظلوميتهم. ولحيرتهم الكثير مما يفسرها. لكنه لا يُبررها. التفسير يفتح الباب على الاجتهاد. أما التبرير، فيمنح صكوك براءة للأفعال. وجهة هذه المظلومية ما استقرت على اتجاه معين. ذلك ان توليفتها كانت مصادرها عدة. كلما فشلت استدارت عائدة إلى البدايات. مؤخراً صارت كل قضية تمس “شيئاً” من الطائفة تنبعث وراءه مباشرة “المظلومية السنية”. كل الطوائف في لبنان على مثال بعضها البعض. تعمل ليل نهار لتحفيز العصبية. كلها ترفض النقد. تأبى المساءلة ولو من داخلها. من يتجرأ ويفعل يكون قد خرج على “أهل البيت”. والخروج على “الأهل” في الشرق هو “العار” الذي لا يغسله إلا الدم.
شعور السُنة أنهم الأكثرية في لبنان وبأن حقوقهم في النظام السياسي وعليه أفقدهم صفتهم كـ”أهل أمة” وكـ”أهل مدد”. صاروا مثل الطوائف الأخرى. يناكفون الطوائف انطلاقاً من غلبة عددية. يعتبرون هذه الغلبة سبباً ويقيناً لسلطة سياسية في النظام. يتجاهلون أن الغلبة في لبنان تكون سبباً دائماً للانفجارات الكبرى. تجارب المارونية السياسية تقول هذا. تجربة السنية السياسية تقوله وتؤكده أيضاً. وحتماً فان الغلبة الشيعية الراهنة ذاهبة إلى مصائر من سبقها من الطوائف. قد يكون أمامها بعض الوقت. لكنه على الأرجح ليس مفتوحاً.
قلّما أن بلغ الانقسام الشيعي ـ السني في الإقليم ما بلغه حالياً. لكن تطورات كثيرة اجتماعية وسياسية أفضت إلى ما أفضت إليه الأمور. بعض هذه التغييرات قالها بوضوح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطاب العام 2000 اثر تحرير الجنوب اللبناني من المحتل الإسرائيلي. ثم قال ما هو أعمق وأبعد، بعد حرب تموز/يوليو 2006. بالنسبة إلى الجمهور السني، ضُبطَ حسن نصرالله بالجُرم المشهود. جُرم سرقة راية المقاومة ضد إسرائيل. راية حملها قبله الزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر. صورة “الفدائي الجديد”، بإلتباساته المحلية والمذهبية والإقليمية، جعلت السنة يخرجون من قضية فلسطين. صار العداء لإيران يتقدم عندهم على ما عداه. لا يحضر في قاموسهم إلا “العدو الفارسي” و”الولي الفقيه”، أما فلسطين والمقاومة، فصارت عنواناً ثانياً وربما عاشراً.
وأكثر ما بعث المظلومية السنية، كان الانفجار الكبير في سوريا في العام 2011. في البدء، بثّ هذا الانفجار الأمل، عند هؤلاء، في اسقاط “نظام علوي” أقلوي “حَكَمَ وتحكّمَ مديداً بالغالبية السنية”، وبالتالي إضعاف حزب الله حد تحجيمه كون دمشق رئة حزب الله ومستودع ذخيرته وممره الإستراتيجي ومنصته ذات الشرفات الكثيرة التي تطل على فلسطين وتركيا والعالم العربي. لكن هذا “الأمل” بإزاحة “المرتكز” سرعان ما راح يتبدد لأسباب كثيرة. ففي سوريا، تصارعت الدول العربية السُنية مع بعضها. ولم يبق إسلام سياسي سُني إرهابي مسلح في العالم إلا وحضر حيناً بدعوى قتال حلف الأقليات الممتد من حارة حريك (ومعها غلبة مسيحية ومارونية تحديداً) إلى دمشق فطهران ثم روسيا. وأحياناً بدعوى “الإسلام القويم”. هكذا صارت المقتلة الأشد وطأة تنزل بالغالبية السُنية دون سواها. فوقعت تركيا بالاستنزاف. وسقطت السعودية بحرب اليمن. كان طبيعياً انبعاث “المظلومية السُنية” وخطابها في لبنان. ذلك أن أهل السُنة من اللبنانيين لطالما اعتبروا أنفسهم إمتداداً للأمتين العربية والإسلامية. وهاتان الأُمتان سقطت منهما أفغانستان والعراق بعد تاريخ مديدٍ من تراجع دور مصر وصعود إسلام “إخواني” تعبّر عنه تركيا أولاً، ثم قطر أو العكس صحيح!.
الحلقة الأولى: السنة.. مرض الأمة ومظلومية الطائفة https://180post.com/archives/10288
الحلقة الثانية: مظلومية السنة.. مشقة الزعامة https://180post.com/archives/10368
الحلقة الرابعة: السُنة المُعتلة بالحداثة والأصولية