جاء تحرير جنوب لبنان عام 2000 كقطعٍ مفاجئ لسرديات التسليم بالعصر الأميركي الإسرائيلي، والتي تنوعت في مداها المصري ما بين الركون للقُطرية الانعزالية التي بدأت في أواخر عهد أنور السادات، وما بين الالتزام بدور وظيفي في النصف الأول من عهد حسني مبارك كوسيط في “عملية السلام”.
هذا المدى صوّر – ولا يزال بدرجة أو بأخرى – اضطلاع مصر بدورها الطبيعي في محيطها الجغرافي والاستراتيجي كمغامرة تصل أحياناً إلى حد المقامرة، خاصة إذا ما تجاوزت السقف الأميركي الذي حصر الدور المصري إبان النصف الأول من عهد مبارك في حدود تسويق السلام مع إسرائيل كمسار وحيد لتقبلها والتكيف معها، ومن ثم اعتيادها، وكذلك لاستقرار شكل وتراتبية وكالة المصالح الأميركية في المنطقة العربية.
في ذلك التوقيت، كان الاستقرار هو عنوان المرحلة في كل شيء تقريباً في مصر، داخلياً وخارجياً، فسقف الطموح والدور الوظيفي لنظام مبارك كان يركن إلى الاستقرار كهدف أسمى حتى لو كان يعني ذلك الوصول إلى حد الركود والرتابة والتكلس، في الداخل والخارج.
هكذا، أتى متغير بحجم هزيمة إسرائيل وانسحابها من جنوب لبنان في بداية الألفية الجديدة كحجر ألقي في مياه “الاستقرار” الراكدة والآسنة التي كان نظام مبارك يقدم نفسه في الداخل والخارج على أنه المسوق والراعي الإقليمي لها، وفي القلب منها تسوية النزاع مع إسرائيل عن طريق “عملية السلام”، فأتى تحرير الجنوب اللبناني بمثابة ضربة لسردية الاستقرار والسلام التي شكلت في الإجمال العنوان العريض لأكثر من نصف سنين حكم مبارك.
ما تحقق في 25 أيار/مايو 2000 على يد تنظيم محلي يتكون من آلاف الأفراد، وبإمكانيات لا توازي – وقتها – جزءاً يسيراً مما تمتلكه إسرائيل، كسر تلك السردية التي حرص مبارك وأقرانه من الحكام العرب الموالين لواشنطن على ترسيخها كيقين أوحد على مدار أكثر من عقدين، وجعلها في موضع شك وتساؤل؛ ليس لخبرة المصريين ومعرفتهم على مختلف مشاربهم الثقافية ومواقعهم الاجتماعية والسياسية بإنجاز “حزب الله” الذي لم تتجاوز أخباره وقتها الشريط الإخباري والصفحات الداخلية في وسائل الإعلام الحكومية، ولكن لتفكك الصورة الوهمية التي راكمها نظام مبارك حول إسرائيل وقوتها وواقعية السلام معها كـ”خيار وحيد واستراتيجي” وبالتالي، عبثية ولامعقولية تحدّيها، وانسحاب هذا التساؤل والتشكيك على مختلف السرديات في الداخل والخارج وعلى مختلف المستويات، والتي كانت بمثابة مُسلّمات ميّزت عهد مبارك عن ما قبله وما بعده.
ما تحقق في 25 أيار/مايو 2000 كسر السردية التي حرص مبارك وأقرانه من الحكام العرب الموالين لواشنطن على ترسيخها كيقين أوحد على مدار أكثر من عقدين
لم يتوقف ذلك فقط على إعادة تثمين المقاومة أمام جبروت وتجبر واشنطن وربيبتها تل أبيب في المنطقة كبديل عن التسليم المعنون “بعملية السلام”، بل امتد إلى خروج فكرة المقاومة من حيز المحتمل نظرياً من روافد أيديولوجية، سواء أكانت يسارية أم قومية أم إسلامية، إلى براح الواقع والممكن عملياً وعلى مستويات داخلية عابرة للأيدولوجيات تدور حول فكرة المقاومة بشكل مجرد، حتى وإن كان محفزها حدث خارجي، أي إيجاد ثنائية بديلة عن ثنائية التسليم والهزيمة لأكثر من عقدين حينها، بالإضافة إلى عدم حصرية التفكير في خيار المقاومة على أنه شأن خارجي يتم تداوله ونقاشه فقط في حلقات وأطر منعزلة ومغتربة أو مدجنة، بل خروجها لأول مرة منذ سنوات طويلة إلى فضاء الفعل الشعبي الذي ما لبث إلى أن تطور بعدها بعام واحد في تظاهرات دعم الانتفاضة الفلسطينية في القاهرة، والتي تقاطعت فيها الأحداث الخارجية كمحفز وفرصة للحديث عن أزمات الداخل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي يعتبرها الكثيرون لحظة ميلاد لعملية تراكم طويلة لحراك شعبي بلغ ذروته في كانون الثاني/يناير عام 2011.
ولكن قبل القفز إلى نقطة الذروة العام 2011 وما تلاها من تغيرات كبرى في المنطقة، فإن استقبال هذا المتغير تعزز على مستويات شعبية وشبه رسمية بانتصار تموز/يوليو عام 2006، الذي أتى ليؤكد أن ما حدث في 25 أيار/مايو 2000 ليس استثناء لمرة واحدة، ولكنه عملية مستمرة آخذه في النمو، وتفرض معادلات إقليمية جديدة تناطح النفوذ الأميركي وقاعدته الرئيسية في إسرائيل ووكلاءه الإقليميين الذين سارعوا بعد أقل من عامين (من التحرير) إلى طرح “المبادرة العربية للسلام” (2002)، وذلك بالتوازي مع تغيرات في بنية تكنولوجيا الاتصالات جعلت وسائل الإعلام ليست حكراً على الحكومات والأنظمة… ومن ثم إيجاد فرصة وهامش لتعزيز السردية المقابلة على مستوى السياسات الخارجية والإقليمية في مرحلة ما بعد 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 وغزو العراق عام 2003.
ما سبق تحول إلى حالة من الكباش الداخلي في مصر، أصبحت المقاومة في لبنان وفي المنطقة ككل جزءاً منها؛ على سبيل المثال، حين كان مبارك يصف حزب الله بـ”البتاع دا اللي راح حط إيده في بق الأسد”.. والإعلام الرسمي يسخف ويقلل من أهمية انتصار تموز(يوليو)، كانت هوامش المعارضة في مصر سياسية كانت أم إعلامية تذخر بتمجيد انتصارات المقاومة اللبنانية سواء في فاعليات جماعية مثل التظاهرات والمؤتمرات أو ضمن منابر إعلامية معارضة تجمع أطيافاً يسارية وإسلامية وقومية توافقت بشكل عابر للايدلوجيات ومتجاوز لخلافاتهم الكلاسيكية على تثمين انتصار عام 2006، وقبله تحرير الجنوب 2000، كجزء أساسي من مشهد مقاومة الهيمنة الأميركية في المنطقة، وكبديل عن حالة التسليم والاستسلام التي سادت رسمياً وشعبياً خاصة بعد احتلال العراق.
مجابهة السابق واحتواؤه كانا أمراً يسيراً على نظام قمعي وأمني كنظام مبارك سواء بشكل مباشر، من خلال فرض الالتزام بخطاب الدولة ومؤسساتها تجاه حدث أو شأن بعينه، أو عبر فتح مجال وهامش لسيادة خطاب يقوض نمو فكرة المقاومة وبذرتها المجردة بعيداً حتى عن المتغيرات الخارجية، سواء بتحديد خطاب رسمي تجاه المتغيرات الخارجية وتصنيفها بين المفيد والمضر، أو بضبط خطاب الإعلام تجاه هذه المتغيرات وجعلها ذات أولوية متأخرة. ولكن المتغير الأهم، وعلى مستويات شعبية ونخبوية، كان في إذكاء الخطاب الطائفي ضد المقاومة كفكرة جعلت في مرحلة ما عبارات عبثية مثل “الشيعة أخطر من اليهود” وغيرها من مكونات التدين الظاهري السلفي الممول خليجياً والمنتشر في مصر وقتها، بمثابة ردود جاهزة ومعلبة لوأد أية فرصة لتجذر التعامل الحقيقي مع سردية المقاومة كبديل عن الاستسلام للهيمنة الأميركية، وفي نفس الوقت، دون تسطيحها إلى مستويات المكايدة والكباش بين النظام والمعارضة.
هذا الأمر ما لبث أن تطور في نهاية العقد الأول من الألفية الحالية إلى خطاب سياسي لا فرق بين نظام ومعارضة في تبنيه إلا في الألفاظ والمصطلحات ودرجة العداء، ففي حين كان نظام مبارك ورموزه السياسية والإعلامية والثقافية متماهين مع الخطاب الأميركي-الإسرائيلي المعاد صياغته عبر محور “الاعتدال”، بشقيه السياسي والدعائي، وما يتضمنه من تسفيه وتسطيح لإنجازات وفكرة المقاومة ككل، بل والتصعيد لمستويات غير مسبوقة تتمثل في قضية “خلية حزب الله” عام 2009، كانت جماعة “الإخوان المسلمين”، الفصيل المعارض الرئيسي، تمر بتغيرات داخلية بلغت ذروتها مع انتخابات مكتب الإرشاد في العام نفسه، والذي عزز الصوت السلفي القطبي وطائفيته داخل قيادة الجماعة، في مقابل خفوت فكرة مقاومة الهيمنة الأميركية إلى المنافسة على وكالتها كجزء من محور سياسي جديد يضم أنقرة والدوحة و”الإخوان” في أكثر من دولة على رأسها مصر.
ما سبق كانت ذروته في التغيرات الدراماتيكية الكبرى التي حدثت في العام 2011، فنتج عن حالة السيولة التي خلفتها الانتفاضات التي شهدتها عدة دول عربية على رأسها مصر تبلورٌ لمعايير جديدة لتحديد الموقف من المقاومة على أساس تعاطيها مع المتغيرات والانتفاضات في مختلف البلدان، والتي كانت سوريا بمثابة الخيط الأخير الذي قطع بين المحور السابق ذكره وبين محور المقاومة، والذي نتج عنه لأول مرة وحدة مواقف رسمية وشعبية بناء على موقف المقاومة ومحورها من الأزمة السورية وتدخل حزب الله فيها خلال العام 2012، والتي انتقلت بعدها المقاومة في لبنان في نظر شباب “الربيع العربي” من مصاف حركة مقاومة لها شعبية عابرة للحدود كانوا من المعجبين بها إلى “تنظيم سلطوي داعم للديكتاتوريات” وغيرها من التوصيفات الاستقطابية الحادة التي خلطت السياسي بالطائفي من دون تفرقة، واستمرت هكذا في السنوات التالية حتى بعد الإطاحة بحكم “الإخوان” في العام 2013، لتتراوح خلال السنوات الأخيرة ما بين منظور طائفي ضيق محمّل بإخفاقات “الربيع العربي”، وبين خطاب رسمي لا يخرج عن اصطفاف الحلفاء الإقليميين الذين تخلصوا من السرديات الدعائية الطائفية منتهجين سردية أكثر شمولية هي “الإرهاب” ضمن إطار التماهي مع الادعاءات الإسرائيلية والاميركية التي تساوي بين “داعش” و”المقاومة”!
بمعزل عن تعقيدات المشهد المحلي والإقليمي ومتغيراته المتعلقة بالمقاومة وشعبيتها خارج لبنان، فإن الحد الفاصل هنا هو الأساس الذي اكتسبت من خلاله المقاومة هذه الشعبية التي تآكلت خلال السنوات القليلة الماضية بدواعٍ عديدة تتجاوز ما ذُكر أعلاه.
هذا الأساس هو المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، ليس فقط لاستعادة رصيد متآكل، ولكن كانحياز لفكرة المقاومة بشكل مجرد، وخاصة إذا كان هذا الفعل العسكري موجهاً ضد الكيان الصهيوني، وهو وحده الضمانة التي تجعل من الصعب على المصريين الانحياز إلى إسرائيل في أية حرب مقبلة، برغم التعقيد الاقليمي الذي جرى توظيفه، ضمن ثنائية الطائفية والإرهاب، لإبعاد الشارع المصري عن المقاومة.