مع الجد المؤسس للمملكة العربية السعودية عبد العزيز آل سعود والأولاد الملوك من بعده، كانت السياسة الخارجية السعودية عبارة عن مجاملات ولياقات. مملكة أو شبه قارة تسير من دون خطط ممنهجة لأن صانعي السياسات هناك كانوا أقرب إلى مدرسة الأخلاق السياسية (political ethics) من أي شيء آخر، ما جعل المملكة شريكاً أساسياً في تسوية العديد من النزاعات، من لبنان إلى كوسوفو على سبيل المثال لا الحصر.
ولطالما حاولت السعودية أن تواكب المتغيرات الإقليمية والدولية من دون الوقوع في أفخاخها، ما جعل سياستها الخارجية ذات قابلية عالية للتكيف والتأقلم ولكن من دون تبلور سياسة خارجية سعودية واضحة المعالم. والأهم أن المملكة ركّزت على إحترام خصوصيات الدول وتوازناتها الدقيقة. ويُسجل أن المملكة كانت عقلانية في خصوماتها كما في صداقاتها. أما اليوم، فالوضع أصبح مختلفاً، لا بل معقداً وغير واضح، برغم البروباغاندا الهائلة التي تعمل لمصلحة المملكة على مدار الساعة.
حتماً، هناك ورشة تغييرات داخلية في المملكة يضعها البعض في خانة “الثورة”، فيما ينظر إليها البعض الآخر على أنها لا تتعدى حدود “الماكياج” الذي يحاول إخفاء مشاكل مجتمعية كثيرة تتمحور حول تقسيم الثروة والعقد الاجتماعي. يجري كل ذلك تحت شعار التحديث، وخطة 2030، أو من خلال الرياضة واستقطاب أسماء كبار اللاعبين العالميين في كرة القدم وغيرها من الرياضات، وأيضاً من خلال ورشة فنية وثقافية وترفيهية مترامية الأطراف لكنها لا تحجب التحديات التي تواجه أمن السعودية والمنطقة ككل. فالسعودية تعتمد الآن تجربة قطر وإلى حد ما دبي أو الإمارات، ولكنها ليست مدركة أنها ليست مضطرة لفعل ذلك، بأسلوب الدول الصغرى الغنية الباحثة عن مقعد ما إلى جانب الدول الكبرى أو دورٍ ما يوازي دور “الكبار”!
إن دولة بحجم المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تكون قوية إذا كان إقتصادها قوياً ودورها الإقليمي ضعيفاً. فاقتصاد المملكة لطالما كان قوياً، ولكن قوتها الأساسية كانت نابعة من قدرتها على لعب أدوار في الساحات الإقليمية والدولية، وهذا ما ينطبق على تركيا في زمن رجب طيب أردوغان: جيش قوي، أدوار إقليمية ودولية، وإقتصاد كان قوياً قبل أن يبدأ بالتهاوي في السنوات الأخيرة.
من هنا، يصح الإستنتاج أنه إذا كانت المملكة جدية في سياسة “تصفير الأزمات”، على صنّاع القرار فيها الأخذ بالاعتبار آراء الشعوب قبل الحكام وتغيير منهج إدارة الصراعات، فلا تصفير للأزمات على حساب الشعوب.
إن دولة بحجم السعودية لا يمكن أن تكون قوية إذا كان إقتصادها قوياً ودورها الإقليمي ضعيفاً. فاقتصاد المملكة لطالما كان قوياً، ولكن قوتها الأساسية كانت نابعة من قدرتها على لعب أدوار في الساحات الإقليمية والدولية، وهذا ما ينطبق على تركيا في زمن رجب طيب أردوغان: جيش قوي، أدوار إقليمية ودولية، وإقتصاد كان قوياً قبل أن يبدأ بالتهاوي في السنوات الأخيرة
إن سياسة “تصفير الأزمات” يستحيل انجازها كما يأمل صنّاع القرار السعودي، ذلك أن حجم التعقيدات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ومؤشرات البطالة والفقر والتعليم وعدم بناء الدول الديمقراطية الليبرالية العادلة، والعديد من الضغوط الداخلية والخارجية جعلت العدد الأكبر من الدول العربية تواجه تحديات وجودية أو في خضم صراعات داخلية أو خارجية مفتوحة، وما حصل موخراً في السودان خير دليل على ذلك.
ولنأخذ نموذج إعادة سوريا إلى الحضن العربي. هذا ليس تصفيراً للأزمات، بل عبارة عن تحقين للأزمات. ربّ قائل إن النظام السوري استطاع أن يصمد بعد 12 سنة من الأزمة السورية، لكن على حساب ماذا؟ كتلة مليونية من القتلى والجرحى والمفقودين. ثلث الشعب السوري مهجر خارج بلده وثلثه الآخر مهجر داخل بلده. دمار البنى التحتية، فضلاً عن دمار مدن وقرى بأكملها، ناهيك عن شرخ نفسي كبير.
هنا يتبدى السؤال: هل عودة سوريا إلى الحضن العربي تقتضي عدم المساءلة وعدم المحاسبة وكأن شيئاً لم يكن؟ هل عودة سوريا إلى الجامعة العربية تعني اقفال الطريق أمام إعادة نظر جدية في الدستور السوري وهل يمكن إعادة بناء سوريا من دون عقد إجتماعي جديد ومصالحة حقيقية تضع الإصبع على جرح أزمة وطنية تاريخية لا يمكن تجاوزها بحفلة تبويس لحى؟
إن أي تجاوز لهذه الأسئلة يفضي إلى قتل المقتول مرتين وتهجير المهجر مرتين وتعذيب المعتقل مرتين. إن سياسة تصفير النزاعات من دون محاسبة أو إيجاد حلول جذرية من شأنها أن تفتح الباب أمام هدنة بسيطة مؤقتة ولكنها ستبقي النار تحت الرماد وستكون سياسة تصفير النزاعات شعلة معارك لا تنتهي وربما تكون أكثر دموية.
في السياق نفسه، لا يُمكن للمملكة العربية السعودية الخروج من لبنان إلا على جثة إتفاق الطائف. وبغض النظر عن “الغنج” السعودي، إلا أن الواقعية السياسية ستطيح عاجلاً أم آجلاً بالمسلمات السعودية في لبنان. والدليل على ذلك، هو التعاطي مع حزب الله الذي كان من المحرمات قبل الاتفاق الإيراني ـ السعودي بينما يمكن أن يصبح في المستقبل القريب من البديهيات!
وتأخذنا إرتجالية السياسة الخارجية السعودية إلى وضع الإتفاق السعودي ـ الإيراني في ميزان الربح والخسارة، ليتبين لنا أن السعودية هي الخاسر الأكبر في الاتفاق. لقد أنقذت المملكة إيران من أزمة داخلية كادت أن تُهدّد النظام، ولن يكون غريباً أن نشهد ضخ مليارات الدولارات الخليجية في الإقتصاد الإيراني الذي يواجه صعوبات بنيوية. زدْ على ذلك أن المملكة استسلمت فعلياً للحوثيين في اليمن، مقابل تجميد إطلاق الصواريخ والمُسيرات على الرياض وغيرها من المدن السعودية.. والمؤسف أن لا مفاوضات سياسية ـ أمنية جدية بين أطراف النزاع في العديد من دول المنطقة للبدء برسم خريطة حل لهذه الصراعات.
إذا كانت المملكة جادة في إحلال السلام وتصفير النزاعات، المطلوب منها تحديد جذور الصراع ونزع فتيل الإنفجار. على المملكة العمل على وقف سياسة شراء العدو واسكاته. إذا كانت السعودية غير قادرة على وقف إطلاق الصواريخ ووقف تهريب الكبتاغون إلا من خلال شراء الدول لن يكون من السهل عليها تصفير النزاعات لأن أعداء المملكة بالأمس هم اليوم “قُطّاع طرق” المنطقة.
صحيح أن لا عواطف في السياسة بل تغليب للغة المصالح، لكن على السعودية أن تصون من دافعوا عن مصالحها بالحديد والنار من لبنان الى سوريا واليمن من العام 2005 إلى يومنا هذا. هؤلاء تحملوا الاغتيالات والتصفيات والدمار من أجل أن تبقى السعودية قوة إقليمية لا من أجل تصفير النزاعات على حسابهم.
في الخلاصة، تسعى المملكة العربية السعودية الجديدة إلى إعادة التموضع في خضم تحولات اقليمية ودولية، وهذا أمر بديهي، لكن الأكثر بداهة هو أن ترسم سياسية خارجية استراتيجية قائمة على تحقيق أهدافها وطموحاتها ومكانتها بين الأمم. لننتظر ونرَ. المهمة السعودية قد تكون صعبة لا بل.. مستحيلة.