قراءة روسية في التحوّلات الليبية: تركيا تفوز بالماراثون

نجحت تركيا في قلب المشهد الليبي رأساً على عقب. هذا ما يقرّ به الجميع، صراحةً أو ضمناً، في العواصم المعنية بهذا الملف. منذ بداية العام الحالي، اتخذت ليبيا نهجاً هجومياً في الميدان الليبي، أفضى في نهاية المطاف إلى الحاق هزيمة مرّة بالمشير خليفة حفتر، وبطبيعة الحال برعاته الاقليميين والدوليين. في مقال نشرته صحيفة "فزغلياد" الروسية، يضيء كيفورك ميرزايان على المقاربة التي اعتمدها رجب طيب أردوغان في ليبيا، وحسابات الربح والخسارة على المستوى الدولي.

حتى وقت قريب، كان خليفة حفتر على بعد خطوة أو اثنتين من النصر النهائي. ساعده العرب وفرنسا وروسيا، وحتى الولايات المتحدة. ومع ذلك، كان من الضروري أن تتدخل تركيا في الصراع الليبي، فكيف حققت تركيا مثل هذه النجاحات؟ وما الذي يريده رجب طيب أردوغان من ليبيا؟

بدايةً، لا بد من الإشارة إلى إنه من الصعب وصف ليبيا بأنها “دولة”. هي في الواقع عبارة عن حيز جغرافي يحكمه العديد من العشائر والفصائل والعصابات والميليشيات التي تدخل في تحالفات ظرفية مع بعضها البعض، وإن كان الصراع الأهلي يبدو من الناحية الشكلية بين جماعتين كبيرتين: “حكومة الوفاق الوطني” الإسلامية بقيادة فايز السراج التي نالت اعتراف معظم دول العالم  من ناحية، والبرلمان الليبي و”الجيش الوطني الليبي” بقيادة المشير خليفة حفتر من ناحية أخرى، وهما يحظيان بدعم قوى دولية وإقليمية وازنة مثل روسيا وفرنسا والسعودية ومصر والإمارات.

حتى وقت قريب، بدا أن إسلاميي القوات العسكرية التابعة لـ”حكومة الوفاق الوطني” على وشك الهزيمة العسكرية. لم يفرض خليفة حفتر نفسه قائداً لجيش ليبي جاهز للقتال فحسب، بل تلقى دعماً من لاعبين خارجيين جدّيين.

حصل حفتر على مساعدة عسكرية تقنية من روسيا (التي كانت تأمل في الحصول على موطئ قدم في ليبيا وتوقيع عدد من العقود لاستعادة  نفوذها في البلاد، بجانب امتلاكها لعلاقات شخصية جيدة مع حفتر بشكل عام)؛ كما تلقى دعماً من مصر، التي يخشى قادتها العسكريون من الجحيم المتمثل في سيطرة الإسلاميين الليبيين على حدودها الغربية، وبالتالي تحويل الجزء الشرقي من ليبيا إلى رأس جسر للإسلاميين المصريين؛ جاءت المساعدة العسكرية التقنية أيضاً من فرنسا التي نظرت إلى حفتر باعتباره أداة لجذب الفضاء الليبي إلى دائرة نفوذها، وكذلك من ايطاليا، ولو ببطء، لاكتساب نفوذ جديد في مستعمرتها السابقة.

علاوة على ما سبق، تمّ تمويل “حفلة” المشير حفتر بالكامل من قبل شخصيات مرموقة في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. بالنسبة إلى النخب هناك، فإنّ جماعة “الإخوان المسلمين” هي عدوّ خطير يمثل تهديداً وجودياً على الملكيات الوهابية في الشرق الأوسط. لقد فعلت الإمارات والسعودية كل ما هو ممكن لتنظيف مفاصل السلطة في مصر من “الإخوان”، وشرعتا إثر ذلك في التعامل مع ليبيا بنفس المنطق.

نتيجة لدعم هؤلاء الأصدقاء المؤثرين، سيطرت قوات حفتر على كل الأراضي الشرقية في ليبيا، ومعظم حقول النفط ومرافق البنية التحتية للموانئ، وانتقلت إلى مهاجمة العاصمة طرابلس، لتبدو حكومة السراج تصارع الوقت قبل سقوطها.

لكن الأمر لم يتم بهذه البساطة، فقد جاءت المساعدة من تركيا، وهي لم تكن سياسية فحسب، بل أيضاً عسكرية، فمنذ بداية العام  الحالي، زادت تركيا بشكل كبير عدد مستشاريها العسكريين في القوات المسلحة التابعة للسراج، كما قامت بنقل طائرات من دون طيار إلى ليبيا، بجانب مقاتلين سوريين جذبتهم لمساعدتها.

بعد السيطرة على السماء، ألحقت القوات التركية والمؤيدة لها سلسلة من الهزائم بقوات حفتر، وجذبت عدداً من الميليشيات المحلية، وأجبرت قوات المشير على الابتعاد عن العاصمة.

يمكن تفسير خلفيات هذ التحرك التركي ببساطة: أولاً، لدى أنقرة مصالح عديدة في ليبيا؛ ثانياً، من أجل الدفاع عن هذه المصالح، لا يواجه رجب طيب أردوغان أية قيود سياسية أو أخلاقية.

علاوة على ما سبق، يمكن استحضار عامل الاحتياطيات الهيدروكربونية في ليبيا (عشرات المليارات من البراميل)، التي ليس من السهل استخراجها فحسب، بل من السهل أيضاً بيعها للجوار الأوروبي. وبما أن الاتحاد الأوروبي قد اعتمد مبدأ تنويع إمدادات الطاقة (لتحريرها من الاعتماد المطلق على “غازبروم”)، فإن منتجي شمال إفريقيا – بما في ذلك ليبيا – يمثلون أحد البدائل الحقيقية القليلة للغاز الروسي لأوروبا.

كذلك، فإن ليبيا تُعَد بوابة أفريقيا، ما يجعلها نقطة انطلاق للمحاولات التركية لطرد الفرنسيين من الدول الإسلامية في الجزء الغربي من القارة السوداء، كما أن سيطرة أردوغان على الفضاء الليبي سيمكنه من السيطرة على الاتجاه الثاني (بعد تركيا نفسها) لتدفق الهجرة إلى أوروبا، وهي أداة لطالما استخدمها لصالحه.

على سبيل المثال، تعهدت تركيا لمالطا بـ”إغلاق البوابات” ومنع تدفق المهاجرين الأفارقة إلى الجزيرة. وبناءً على ذلك، حجبت الحكومة المالطية التمويل للعملية “ايريني” التي كان الغرض منها القيام بدوريات بحرية لدعم الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا – أو بمعنى آخر اعتراض الأسلحة التركية المرسلة إلى السراج، باعتبار أن حفتر يتلقى معظم سلاحه عبر الحدود المصرية-الليبية.

أخيراً ، ليبيا هي جزء مما تطلق عليه تركيا تسمية “درع البحر الأبيض المتوسط”. لقد أبرمت أنقرة وحكومة السراج مذكرة بشأن المناطق البحرية والجرف القاري في شرق البحر الأبيض المتوسط. إذا نظرتَ إلى الخريطة، بناءً على بنود المذكرة الموقعة، يتضح أن الجرف القاري التركي والجرف القاري الليبي يندمجان بالشكل الذي يفصل الأجزاء القبرصية والمصرية والإسرائيلية واللبنانية والسورية عن بقية أنحاء البحر الأبيض المتوسط.

إقرأ على موقع 180  ذروة المأساة الروسية.. بريغوجين!

بهذا المعنى، فإنّ أردوغان لا يفرض سيطرته على رقعة كبيرة من المياه فحسب، بل يخلق أيضاً “درع البحر الأبيض المتوسط” سيئ السمعة، والذي يقوّض أية مشاريع لبناء خط أنابيب تحت الماء من حقول النفط والغاز البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​إلى أوروبا.

من الواضح أن اليونانيين والقبارصة والإسرائيليين وباقي الأطراف المعنية لا يعترفون بهذا التقسيم، ولكن أنقرة واثقة من أنها تستطيع فرض احترامه في حال وجود حكومة فايز السراج الموالية لها في طرابلس، أو حتى حكومة أخرى تحترم الاتفاقيات المتعلقة بالحدود البحرية.

ما سبق يعني أنه لتحقيق كل هذه الأهداف، لا تحتاج تركيا إلى النصر العسكري الكامل للسراج على جيش حفتر. يكفي أنقرة الحصول على موافقة حلفاء حفتر ورعاته الخارجيين على انسحاب المشير من المشهد بناء على تسوية معينة.

لكن النقطة الرئيسة، وفقا لبعض الخبراء، تكمن في العقبة التي تحول دون التوصل إلى حل وسط بين اللاعبين الليبيين (وبالتالي الرعاة الخارجيين).

ترى انقرة أن اي اتفاق للحل السياسي في ليبيا لا بد أن يحفظ لها نفوذاً كافياً لحماية مصالحها في البلاد

وزارة الخارجية التركية تتهم بالفعل المشير بأنه يريد فرض “ديكتاتورية عسكرية” وسيطرة كاملة على البلاد، حيث لن يكون هناك مكان لأنقرة، ولهذا فإنها ترى أنّ أيّ اتفاق ليبي لا بد أن يحفظ لها نفوذاً كافياً لحماية مصالحها في البلاد.

حتى الآن، نجحت تركيا في تنفيذ سياستها، فالعديد من وسائل الإعلام يتحدث بالفعل عن عدم رضا تجاه عناد حفتر في دوائر السلطة في القاهرة وموسكو، ويبدو أن ثمة إقراراً أوروبياً وأميركياً بأنّ تركيا أصبحت القوة المهيمنة في ليبيا.

كيف تمكنت تركيا من ذلك؟ يكمن السر في أن ماراثون السياسة التركية تجاه ليبيا هو أكثر تماسكاً وأسرع وأكثر وقاحة.

صحيح أن حفتر لديه العديد من الرعاة المؤثرين، ولكن، كما هي الحال في حكايات ايفان كريلوف، لا يوجد اتفاق في ما بينهم. تدعم واشنطن وموسكو “الجيش الوطني الليبي” لكن كليهما يلعب ضد الآخر، إلى الحد الذي يجعل الأميركيين معارضين بشدّة للمساعدة العسكرية التي يمكن يوفّرها الروس لحفتر، ومن أحدث فصول ذلك اتهام الولايات المتحدة لروسيا بإرسال طائرات المقاتلة لمساعدة المشير الليبي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن رعاة حفتر، وبرغم قوتهم، غير حاسمين. كلهم ساعدوه، ولكن أياً منهم لم ينخرط في عملية عسكرية مباشرة في ليبيا. بعضهم يخشى رد فعل محلياً (مصر)، وبعضهم لا جيش لديه في ليبيا (الإمارات العربية المتحدة)، وبعضهم الآخر خائف من التورط في المستنقع الليبي (فرنسا).

في المقابل، لم تكن تركيا خائفة، وكما يلاحظ الخبراء الغربيون، فقد استخدمت “السيناريو السوري” على الطريقة الروسية في ليبيا: طلبت حكومة سراج المعترف بها دولياً من أردوغان المساعدة رسمياً وتلقتها. والآن سيكون من الأصعب على الدول الأخرى إرسال قوات لمساعدة حفتر، لأنه سيكون عليها أن تقاتل ليس ضد الميليشيات الليبية، بل ضد الجنود الأتراك.

كذلك، تتصرف تركيا بصرامة شديدة في ليبيا.. وصولًا إلى التهديد بحرب شاملة، وقد هددت بالفعل من أن أي هجوم على “المصالح التركية” ستكون له عواقب وخيمة للغاية على المشير.

رعاة حفتر، وبرغم قوتهم، غير حاسمين. كلهم ساعدوه، ولكن أياً منهم لم ينخرط في عملية عسكرية مباشرة في ليبيا

من الخاسر؟

الانتصارات التركية في ليبيا هي بالطبع هزيمة للّاعبين الآخرين. لكن الخاسر الرئيسي ليس روسيا: أولاً، لأن موسكو وزّعت البيض بشكل صحيح فهي تدعم حفتر وتعمل مع سراج في آنٍ معاً؛ ثانياً، ليبيا ليست مجالًا مهماً لروسيا مقارنة بمناطق أخرى، ويمكنها بالتالي استبدالها في إطار المساومة مع أردوغان (على سبيل المثال  للحصول على تنازلات من الأخير في سوريا).

في المقابل، فإن الرئيس التركي نفسه، وعلى الرغم من امتعاضه من دعم روسيا لحفتر، يحترم مصالح موسكو، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة بين الجيران الذين تربطه بهم علاقات عمل إلى حد ما.

الخاسر الرئيسي هو أوروبا. إن سلبية الاتحاد الأوروبي وعدم قدرته على اتخاذ خطوات حقيقية لمواجهة اردوغان يجعلان العالم القديم أكثر عرضة للابتزاز التركي من بوابة المهاجرين والنفط والغاز. لم يدرك القادة الأوروبيون أنه في الوقت الذي كانوا يحاربون فيه “التهديد الروسي”، نشأ عدو حقيقي على مقربة منهم، الأمر الذي يهدد المصالح الأوروبية والاستقرار داخل أوروبا.

 والسؤال هو هل سيكون الاتحاد الأوروبي قادراً على فهم كل ذلك في الوقت المناسب؟ والأهم، هل سيكون قادراً على اعتماد مقاربة جدية للوضع الليبي؟

لم يتمكن الأوروبيون من مقاومة التوسع التركي في ليبيا اليوم، فسيتعين عليهم فعل ذلك غداً في إيطاليا أو ألمانيا.

عن صحيفة “فزغلياد” – ترجمة: وسام متى

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "أحجية" المتوسط.. هل تعطّل اليونان طموحات أردوغان؟