يومياتُ مواطنٍ في غزة.. موتٌ مؤجلٌ بين جوع وطابور وصاروخ

قرّرتُ أن أكتب شيئاً من يومياتي في غزة. يومياتٌ يختلط فيها الموت بالحياة. موتٌ صار وجبة يومية.. وحياةٌ نكابد المستحيل حتى نبقى واقفين على أقدامنا لكن ليس بأي ثمن. وسط هذه المشهدية السوريالية تصبح الكتابة سلاحنا للبقاء.. سلاحنا لكي يصل صوتنا إلى العالم بأسره.

(1)

الموت المعلق بين دراجة ومركز إيواء

كنتُ قد ذهبتُ إلى مركز الإيواء القريب من منزلي لأقوم بتحديث بياناتي حيث قد عدنا من جنوب القطاع إلى مدينة غزة بعد ابرام اتفاق التهدئة.

ركبتُ دراجتي الهوائية وقدتها في الشارع الذي تم تجريفه من قبل الدبابات الإسرائيلية والذي تنتشر فيه بسطات للباعة المتجولين والمشاة الذين يمشون على الطريق الذي بات يفتقد لأرصفة لم يبق لها أثر في المدينة.

وصلتُ إلى المدرسة (مركز الإيواء)، لأجد عدداً من الرجال الواقفين في طابور طويل ومجموعة من النساء في طابور آخر، وجميعهم يقفون أمام الشباك المغلق، ينتظرون موظفي “الأونروا” الذين لم يصل أحد منهم إلى المركز حتى الآن.

ربطتُ دراجتي الهوائية ووقفت أنتظر مع الرجال الواقفين في الطابور الطويل. قرابة الساعة وأنا أستمع إلى الأحاديث المختلفة بين الرجال وأصوات الباعة تملأ المكان وصوت الطائرة المُسيّرة التي تطن فوق رؤوسنا وأيضاً هدير الطيران الحربي؛ يطيرُ بين فينة وأخرى في سماء المدينة.

وبعد حوالي الساعة ونصف الساعة من الانتظار، ها قد أتى الباص الذي يُقلُ موظفي “الأونروا” الذين نزلوا ودخلوا المركز حيث من المتوقع أن يبدأ عملهم بعد دقائق من وصولهم. وهنا انتظم الجميع في أماكنهم استعداداً للتحرك نحو الموظف ما أن يفتح الشباك ويبدأ بالاستفسار وتحديث البيانات المطلوبة.. إلخ.

انتظرنا أن يفتح الشباك لأكثر من نصف ساعة ولكنه بقي موصداً. ذهب أحد الواقفين لكي يستفسر عن سبب التأخير. وبعد ربع ساعة تقريباً عاد ليبلغنا أن الانترنت مفصول عن المركز.. ولهذا السبب لم يفتح الشباك.

الشمس انتصفت في السماء وارتفعت درجة الحرارة فوق رؤوسنا. انتظرت نصف ساعة إضافية علّهم يُصلحون الخلل في الانترنت، لكن دون جدوى. وهنا قررتُ العودة للبيت. ذهبتُ حيث ركنتُ دراجتي الهوائية وركبتها وما أن وصلتُ إلى قرب البيت حتى سمعتُ صوت انفجار كبير ناجم عن اطلاق صاروخ من الطيران الحربي، وبعد أن استمعتُ إلى الأخبار عرفتُ أن المكان المستهدف يقع بالقرب من مركز الإيواء حيث كنت هناك قبل دقائق. وهنا تساءلتُ ماذا لو كنت ما أزال هناك؟

محمد حمدان

مدينة غزة 11/4/2025

(2)

لا خبز في المدينة

منذ اعلان المخابز في مدينة غزة وفي جميع أنحاء القطاع عن توقف عملها بسبب نفاذ مخزون الطحين لديها والذي كانت تتسلمه من برنامج الغذاء العالمي؛

ولأنه لم يتم ادخال كميات جديدة من الطحين والوقود بسبب اغلاق المعابر منذ الثاني من آذار/مارس 2025، فإن أزمة الجوع بدأت تتفاقم بين الأهالي. الكل هنا يعتمد على المساعدات الغذائية من المنظمات الإنسانية التي تعمل في قطاع غزة منذ بداية الحرب.

أغلقت المخابز أبوابها في ثاني أيام عيد الفطر المبارك.. ماذا سنفعل الآن؟ كان لدينا مخزون من الطحين عبارة عن 25 كيلوغرام استلمناه كمساعدة غذائية في جنوب القطاع قبل عودتنا إلى مدينة غزة.

ممتازٌ جداً. لدينا طحين. لكن أين سنقوم بخبزه؟

في البيت لدينا فرن يعمل على الغاز.. ولأن الغاز لم يعد متوفراً أيضاً، يتوجب علينا اشعال الفرن بالحطب لصنع الخبز، لكن أين سنضع الفرن ونقوم بإشعال النار؟ طبعاً ليس من الممكن فعل ذلك في داخل الشقة. لذا، قُمنا بإنزال الفرن إلى أسفل العمارة. هناك توجد محلات تجارية أحرقها جيش الاحتلال الإسرائيلي وما زالت آثار الحريق واضحة على الجدران. هذا المكان أصبح السكان يستخدمونه لإشعال النار وصنع الطعام بعد نفاذ غاز الطهي من البيوت.

وما أن بدأ ابني صبحي (16 سنة) بإشعال النار في الفرن استعداداً لصنع الخبز حتى أتى بعض الجيران وسألوه إذا كان باستطاعته أن يخبز لهم مقابل أجر مادي؟ هذا الأجر سيشتري فيه الحطب ويتبقى معه القليل لقاء عمله طيلة ساعات النهار.

منذ ذلك الحين صار كل سكان العمارة يخبزون خبزهم عند ابني صبحي.. طبعاً نحن لا نخبز كل يوم.. لأن الطحين عندنا لن يكفي لمدة طويلة وعلينا أن نحافظ عليه لأكبر قدر ممكن من الوقت في انتظار فتح المعابر وإدخال المساعدات والبضائع إلى القطاع.

بقينا على هذا الحال نخبز كل يومين أو ثلاثة أيام، لكن الطحين قد نفذ من عندنا. وصرنا نشتري بعض خبز الصاج لوجبة الفطور.. أما على الغذاء فنطبخ الأرز أو المعكرونة سادة.

في يوم من الأيام، ذهبتُ لأشتري ثلاثة كيلوغرامات من الطحين. الطحين الذي اشتريتهُ له رائحة كريهة بسبب السوس الذي بدأ ينتشر فيه بفعل ارتفاع درجات الحرارة.

وعندما عدت إلى البيت. زوجتي وبناتي قلن لي إن هذا الطحين سيّءٌ وله رائحة السوس ولن نأكله إذا تم خبزه.. ستأكله أنت وحدك.

إقرأ على موقع 180  المباحثات الأمريكية الإيرانية.. ما هي قصة "صفقة البحر الأحمر"؟

ذهبت في اليوم التالي لاستبداله بطحين جيد وليس له رائحة السوس.. لكن كان يجب عليَّ أن أدفع مبلغاً إضافياً حيث الطحين الجيد أغلى من الطحين السيء بطبيعة الحال والأحوال، وكلاهما غالٍ بالمقارنة مع “موسم” الأيام العادية.. لكننا لسنا في أيام عادية.. فنحن نعيش في زمن الحرب.. وفي الحرب كل شيء بشع وسيء إلى جانب القتل والنزوح والدمار وكلُ ما يحدث لنا.. يحدثُ ولا نستطيع أن نفعل شيئاً، سوى أن نحاول البقاء على قيد الحياة.. وبقدر معقول من الحفاظ على كرامتنا.

محمد حمدان – غزة

23/4/2025

(3)

شاطئ الموت 

أسكن في شقة على الطابق السادس في بناية تقع في الجهة الغربية من مدينة غزة. وهذا يمنحني ميزة رؤية البحر والأفق البعيد وراء البحر. أقف عند النافذة وأنظر إلى الشارع أسفل مني وأر اقب المارة، رجالاً ونساءً وأطفالاً وباعةً متجولين. يعبرون الشارع ذهاباً وإياباً والشارع لا يكاد يفرغ من المارة، فالمنطقة بكل جنباتها وشوارعها تكتظ بخيم النازحين الآتين من الأحياء الشرقية للمدينة. أنظر إليهم وأقول في نفسي من المحتمل ألا يعود هؤلاء إلى بيوتهم أو خيامهم. ربما يسقطُ صاروخٌ على بناية يعبرون من تحتها أو يصيب سيارة تمر بالقرب منهم فيصابوا بشظايا ويُقتلون. هذا ما يحدث منذ بداية الحرب. يتواجد الناس في مكان ما ويسقط صاروخ بالقرب منهم فيصابُ عددٌ كبيرٌ منهم ويُقتلون.

أعود وأنظر ناحية الغرب حيث البحر والأفق البعيد. أتأمل زرقته وأسرح في أفكاري. هناك وراء الأفق وعلى الشاطئ الآخر، أناسٌ يمشون أيضاً في أحد الشوارع، رجالاً ونساءً وأطفالاً وباعةً متجولين. وحولهم الكثير من البنايات الجميلة المتراصة والأرصفة الجميلة وإشارات السير الضوئية والسيارات والدراجات.. ولكن الفارق الوحيد أنه لا احتمال أن يسقط صاروخ على بناية أو يصيب إحدى السيارات العابرة. هؤلاء الناس وراء الأفق؛ على الشاطئ الآخر يعيشون بأمن وسلام. وعلى الرغم أن البحر نفسه صديقنا وصديقهم، إلا أنهم يعيشون على شاطئ السلام ونحن نعيش على شاطئ الموت!

محمد حمدان – غزة

10/5/2025

(4)

طبخة على نار هادئة

اليوم الخامس والسبعون للمجاعة في قطاع غزة. الطعام نفذ من بيتنا كلياً. بحثنا أنا وأفراد أسرتي عن شيء نأكله فلم نجد ما يسد جوعنا هذا الصباح. شعر أطفالي بالجوع الشديد عند الظهر فقرّرتُ أن أذهب إلى إحدى البسطات لعلني أجدُ شيئاً من المواد الغذائية المتبقية حتى يسد أطفالي رمق جوعهم.. ولحسن حظي عدتُ بالقليل من الفاصوليا والأرز التي كلفتني مبلغاً باهظاً وهذا كان آخر ما تبقى في منزلنا من سيولة نقدية حيث المصارف تُغلق أبوابها منذ بداية الحرب على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023.

فرح أطفالي بعودتي ببعض الطعام وبدأت والدتهم بإعداد الوجبة لتناولها، ولكن للأسف كان الحطب الذي نستخدمه للطهو قد نفذ من البيت أيضاً.

بدأت طفلتي ميرنا البالغة من العمر عشر سنوات بالبكاء والتذمر من الأحوال السيئة التي وصلنا إليها وراحت تطلب الطعام بشكل عاجل وبعد أن عجزنا عن إيجاد أي قطعة خشب لإشعال النار استبدلنا الحطب بقطع من الملابس والأقمشة البالية التي بحوزتنا في المنزل ووضعناها في الموقد اليدوي الذي صنعناه وأشعلنا فيه قطع القماش على شرفة المطبخ في شقتنا التي تقع في الطابق السادس كما يفعل غالبية سكان البناية.

فوراً، انتشر الدخان الأسود برائحته الكريهة في أرجاء الشقة وشعرنا بالضيق الشديد من الدخان وبرغم ذلك جلسنا بجوار الموقد نشرف على اعداد الوجبة التي استغرق طهوها ما يقارب الخمس ساعات. استنفذنا خلالها كل قطع القماش والملابس القديمة لإنضاج هذه الوجبة “التاريخية”.

حصلنا على وجبة طعام من الفاصوليا والأرز بنكهة الدخان الأسود بعد أن تضورنا جوعاً طوال النهار.

شعرنا جميعاً بالامتنان والشكر لله على شعورنا بالشبع وتلاقت نظراتنا جميعاً ونحنُ ننظف المائدة وسؤال حائر يدور في أذهاننا كيف سنتدبرُ أمرنا غداً لو أننا نجونا من الإبادة الجماعية.

محمد حمدان – غزة

18/5/2025

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "فاغنر"... من حماية منشآت النفط السورية إلى "استثمارها"؟