صياغة جديدة لسوريا.. هذه رؤية ترامب للشرق الأوسط

يقول باتريك سيل في مقدمة كتابه "الصراع على سوريا" في الفترة ما بين 1945 و1958، إن "سوريا هي مرآة للمصالح المتنافسة على المستوى الدولي، مما يجعلها جديرة بعناية خاصة، والحقيقة أن شؤون سوريا الداخلية تبدو وكأنها فاقدة المعنى تقريباً ما لم تُعزَ إلى القرينة الأوسع، وهي جاراتها العربيات أولاً، والقوى الأخرى ذات المصالح ثانياً".

الحدث الأكبر، الذي كان له وقعه على الساحة السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر الماضي، كان قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ عام 1979، والانفتاح على التعامل مع الرئيس الانتقالي أحمد الشرع واستقباله على هامش زيارته للرياض في 14 أيار/مايو الجاري، بتزكية من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

بذلك، انحاز ترامب إلى السعودية وتركيا؛ اللاعبان القويّان في سوريا الآن، وتجاهل طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدم رفع العقوبات عن سوريا في الوقت الحاضر، بسبب عدم وثوق الحكومة الإسرائيلية بالسلطات الجديدة في دمشق، أو لأن إسرائيل تريد الحصول على أثمان أكبر من الشرع.

ترحيل المقاتلين الأجانب

وإذا كان ترامب قد قرّر تجاهل نتنياهو، فإنه لم يتجاهل إسرائيل. ذلك، أن من بين شروط الانفتاح الأميركي على دمشق، أن تنضم سوريا إلى “اتفاقات أبراهام”. الشرع، أكد مراراً في مقابلات مع وسائل الأجنبية أنه يريد علاقات سلمية مع دول الجوار بما في ذلك إسرائيل. والنائبان الجمهوريان كوري ميلز ومارلين ستوتزمان، وهما من الإنجيليين المقربين من ترامب، التقيا الشرع في دمشق في 19 نيسان/أبريل الماضي، ونقلا عنه أن سوريا راغبة في الانضمام إلى “اتفاقات ابراهام”.

النقلة الكبرى في السياسة الأميركية إزاء سوريا، ليست منفصلة عن رؤية استراتيجية أوسع لترامب، يندرج ضمنها الحوار غير المباشر مع طهران للتوصل إلى اتفاق نووي جديد. وهذا ما جعل ترامب يتجاوز نتنياهو في قرار رفع العقوبات عن سوريا، وكذلك يتجاوز بعض أعضاء إدارته المتحفظين على التعاون مع الشرع

وترعى تركيا، تحت أنظار أميركية طبعاً، في أذربيجان لقاءات سورية-إسرائيلية لبناء الثقة بين الجانبين. وهذه اللقاءات أثمرت حصول إسرائيل على 2500 وثيقة من الأرشيف السوري الخاص بالجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي أعدم في منتصف ستينيات القرن الماضي. ولا تزال إسرائيل تتحرى عن مكان دفن كوهين لاستعادة جثته. وهي كانت استعادت جثة جندي إسرائيلي في وقت سابق من الشهر الجاري، قتل في معركة السلطان يعقوب في البقاع اللبناني عام 1982، ولا تزال تبحث عن جثة جندي آخر قتل في المعركة ذاتها.

وإذا كان التمهيد لانضمام سوريا إلى “اتفاقات أبراهام”، يُعتبر شرطاً أساسياً من شروط الانفتاح الأميركي على الحكم الجديد في سوريا، فإن ثمة شروطاً أخرى لا تقل أهمية في نظر إدارة ترامب. ومنها طرد الفصائل الفلسطينية المحسوبة على إيران من الأراضي السورية. ولقي هذا الشرط استجابة سريعة من السلطات الجديدة. ولم يتبقَ من وجود فعلي للفصائل الفلسطينية، إلا حركة “فتح”.

أما الشرط المتعلق بترحيل عشرات آلاف المقاتلين الأجانب من سوريا، فإنه الأكثر إحراجاً للشرع، ويثير كثيراً من اللغط. هؤلاء كان لهم الفضل في إيصاله إلى الحكم في دمشق. لكن المجازر التي ارتكبت في الساحل السوري ضد الأقلية العلوية، ومن بعد في الأحياء ذات الغالبية الدرزية قرب دمشق، سلّطت الضوء على أن العدالة الانتقالية التي يتحدث عنها النظام الجديد، تحوّلت أفعالاً انتقامية وثأرية تحت لافتة عريضة باسم مطاردة “فلول النظام السابق”.

ومهما كانت رغبة أميركا وأوروبا شديدة في تمكين النظام الجديد وتناسي الماضي “الجهادي” للشرع في مقابل تأمين المصالح الغربية ونقل سوريا من “المحور” الروسي-الإيراني إلى الحضن العربي التركي الغربي، فإن المقاتلين الأجانب بأجندتهم العالمية، تبقى قضيتهم عصية على الحل، ولغماً يمكن أن ينفجر في وجه الجميع.

اللغم الكردي

ولئن قرّرت إدارة ترامب منح أحمد الشرع “فرصة”، فإنها تعمل على تذليل العقبة الكردية من أمام حكمه. وهي تحض الأحزاب الكردية السورية على استئناف الحوار مع دمشق للتوصل إلى تفاهمات على تطبيق اتفاق العاشر من آذار/مارس 2025 الذي نصّ على “دمج” المقاتلين الأكراد بالجيش السوري الناشىء بحلول نهاية العام الجاري.

التحول الأميركي والموقف التركي، يجعلان الشرع في موقع أقوى في المفاوضات مع “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)، التي لا تصب المستجدات الإقليمية في مصلحتها، وبينها قرار “حزب العمال الكردستاني” التركي بزعامة عبدالله أوجلان بحلّ نفسه وإلقاء سلاحه. ويحضر هنا قرار وزارة الدفاع السورية الذي صدر الأسبوع الماضي ويُعطي مهلة عشرة أيام للفصائل المسلحة التي لم تُسلّم أسلحتها بعد، كي تفعل ذلك. هل يشمل القرار “قسد”؟ المناوشات قرب سد تشرين في الأيام الأخيرة تشي بسيطرة التشنج على المواقف.

والعلاقة مع الأكراد، تتزامن مع إلحاح أردوغان على ترامب لسحب ما تبقى من القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، بما يضعف الموقف العسكري لـ”قسد” ويُعزّز موقع دمشق، التي تطالب بوضع السجون التي تؤوي 12 ألف معتقل من “داعش” في الحسكة والرقة، تحت إشرافها.

إقرأ على موقع 180  يديعوت أحرونوت: هجوم التنف "رسالة إيرانية إلى إسرائيل"

ومطالب أردوغان تتجاوز ذلك، إلى سعي حثيث منه لتشكيل تحالف إقليمي ضد “داعش” يضم تركيا وسوريا والعراق والأردن، ليخلف التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وفي سبيل ذلك، لم يجد الرئيس التركي الساعي إلى استعادة “بلاد الشام”، غضاضة في إبرام “تفاهمات” مع إسرائيل على اقتسام النفوذ في سوريا. ووفق وسائل الإعلام الإسرائيلية، سلّم أردوغان بمطلب الدولة العبرية الداعي إلى جعل الجنوب السوري منطقة منزوعة السلاح في مقابل تعزيز النفوذ التركي في شمال سوريا ووسطها، مع تنسيق متواصل للحؤول دون حصول صدام عسكري بين الجانبين، على غرار التنسيق الحاصل بين روسيا وإسرائيل.

ترحيل عشرات آلاف المقاتلين الأجانب من سوريا، هو الشرط الأكثر إحراجاً للشرع. هؤلاء كان لهم الفضل في إيصاله إلى الحكم في دمشق. لكن المجازر التي ارتكبت في الساحل السوري ضد الأقلية العلوية، ومن بعد في الأحياء ذات الغالبية الدرزية قرب دمشق، سلّطت الضوء على أن العدالة الانتقالية التي يتحدث عنها النظام الجديد، تحوّلت أفعالاً انتقامية وثأرية تحت لافتة عريضة باسم مطاردة “فلول النظام السابق”

وعلى ذكر روسيا، لم يكن بلا دلالة، الهجوم الذي شنّته فصائل رديفة للسلطات الجديدة على قاعدة حميميم الروسية الجوية في اللاذقية قبل أيام مما أسفر عن مقتل جنديين روسيين، في أول حادث من نوعه منذ سقوط بشار الأسد واعتماد النظام الجديد نهجاً مهادناً لروسيا.

هل يلجأ ترامب إلى ممارسة ضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا، كي يتجاوب مع مساعيه للقبول بوقف فوري للنار في أوكرانيا؟ ربما.

سوريا أرض صراعات

الاتحاد الأوروبي الذي رفع بدوره العقوبات عن سوريا، كان أكثر صراحة في الطلب من الشرع طرد القوات الروسية من سوريا، في سياق تحجيم النفوذ الروسي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، رداً على رفض الكرملين وقف النار في أوكرانيا، وعلى توسيع نفوذه في منطقة الساحل جنوب الصحراء في أفريقيا، على حساب النفوذ الفرنسي.

ويبقى أن النقلة الكبرى في السياسة الأميركية إزاء سوريا، ليست منفصلة عن رؤية استراتيجية أوسع لترامب، يندرج ضمنها الحوار غير المباشر مع طهران للتوصل إلى اتفاق نووي جديد. وهذا ما جعل ترامب يتجاوز نتنياهو في قرار رفع العقوبات عن سوريا، وكذلك يتجاوز بعض أعضاء إدارته المتحفظين على التعاون مع الشرع. ومن بين هؤلاء رئيس قسم مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض سيباستيان غوركا وجويل رايبورن الذي رشّحه ترامب لرئاسة دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية. قال غوركا لمجلة “بوليتيكو” الأميركية الأسبوع الماضي: “هناك حقيقة دائمة: من النادر أن يتحول الجهاديون إلى الاعتدال بعد انتصارهم”. أما رايبورن فأعرب عن تشككه بدعم العالم للشرع، لكنه تعهد تطبيق سياسات ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو في سوريا.

وفي محصلة هذه العجالة، تبقى سوريا أرض صراعات. صراعات الفائز فيها يفوز بالشرق الأوسط بأسره.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  رقصة حرب أميركية.. فوق حطام "موسكفا"