“أحجية” المتوسط.. هل تعطّل اليونان طموحات أردوغان؟
Greek Foreign Minister Nikos Dendias meets his Italian counterpart Luigi Di Maio at the Foreign Ministry in Athens, Greece, June 9, 2020. REUTERS/Costas Baltas

Avatar18011/06/2020
بات واضحاً أن البحر الأبيض المتوسط قد تحوّل إلى بؤرة مركزية للصراعات الدولية، من بوابة امدادات الطاقة، التي تحوّلت بدورها، منذ فترة ليست ببعيدة، إلى المحرّك الرئيسي للسياسات العابرة للقارات.

بالأمس، دخلت اليونان بقوة على خط الصراعات على خرائط البحر المتوسط، والتي تتجه إلى أن تصبح أقرب إلى “أحجية” معقدة من النواحي القانونية والسياسية، في ظل تنازع المصالح الحاد بين تركيا وجوارها المتوسطي.

وفي خطوة أولية، تعكس رغبتها في مزاحمة الطموحات التركية على حقول الغاز، بادرت اليونان إلى توقيع اتفاقية لترسيم حدودها البحرية مع إيطاليا، موجهة بذلك رسالة مباشرة إلى تركيا بشأن النفوذ الدبلوماسي اليوناني.

صحيح أن الاتفاقية الجديدة، التي وقعها وزيرا الخارجية اليوناني نيكوس دندياس والإيطالي لويجي دي مايو، لا تنطوي على أي تنازع مباشر مع تركيا، إلا أن دلالاتها السياسية كبيرة، خصوصاً أن الكلمات المتبادلة بين الوزيرين بدت رسائل مباشرة موجهة إلى الجار التركي اللدود، أكثر من أيّ شيء آخر.

فحوى تلك الرسائل جاء على لسان دندياس حين شدد على أن “تعيين المناطق البحرية يتم من خلال اتفاقيات صالحة، وليس عبر اتفاقيات غير صالحة مثل تلك التي وقعتها تركيا و(رئيس حكومة الوفاق الوطني) فايز السراج، أو بخرائط مقدمة من جانب واحد إلى الأمم المتحدة”، وهو ما كرره دي مايو، وإن بعبارات دبلوماسية مخففة، حين اعتبر أن الاتفاق “نموذج لعلاقات حسن الجوار”، مشيراً إلى أنه يتوافق تماماً مع القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.

وبعبارات أكثر صراحةً، أشار رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى أن الاتفاقية اليونانية- الإيطالية دليل فعلي على العلاقات الثنائية الجيدة بين الجارتين، مشدداً على أنّ هدفها الأكثر عملية هو وضع حد لطموحات تركيا لبدء التنقيب عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط، وخاصة في المياه اليونانية.

من المنظور اليوناني، فإن توقيع المنطقة الاقتصادية الخالصة مع دول الجوار، ستكون له تداعيات هائلة على خطط تركيا للسيطرة على النفط والغاز في المياه اليونانية، ما يعوق جهود أنقرة من أجل الهيمنة الكاملة على شرق المتوسط.

هذه الهيمنة تبدت بشكل واضح في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، حين وقعت تركيا اتفاقا بحريا مع حكومة “الإخوان المسلمين” في ليبيا، وذلك كخطوة أولية لاستثمار الحقول الغنية بالنفط والغاز في هذه الرقعة من البحر المتوسط، من دون الاعتراف بوجود جزر يونانية في المنطقة الاقتصادية الخالصة.

تشكل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار مادة للدفاع عن رؤية أثينا لكيفية تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة، ولكنها تلقى تجاهلاً تاماً من قبل أنقرة، التي ترفض الاعتراف بأن الجزر يمكن أن تشكل منطقة اقتصادية خالصة أو أرفف قارية، وهو السبب الرئيسي وراء كون تركيا واحدة من 15 دولة لم توقع أو تصادق على الاتفاقية الأممية.

من هنا، تأتي الاتفاقية بين اليونان وايطاليا في سياق حراك متعدد الاتجاهات، قد يفضي إلى توقيع اتفاقيات مماثلة لترسيم الحدود البحرية مع دول الجوار اليوناني، وستكون تركيا معنية بها بشكل مباشر، بما ينذر بتصعيد كبير للموقف في شرق المتوسط، خصوصاً ان التوتر على خط أثينا-أنقرة بدأ يتخذ شكل حرب كلامية، تتضمن تهديدات باستخدام القوة العسكرية.

ومن شأن تحديد المنطقة الاقتصادية اليونانية مع مصر، أن يشكل التحدي الأكبر لتركيا، فقد حلت اليونان وإيطاليا مسألة حدودهما في المنطقة الاقتصادية الخالصة باستخدام القانون الدولي، ومن المتوقع أن تستخدم اليونان ومصر اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار للغاية نفسها.

بناء على ذلك، من شأن اتفاقية ترسيم حدود المناطق البحرية بين أثينا والقاهرة أن تزيل أي مظهر من مظاهر الشرعية النابعة من الاتفاقية التي أبرمتها تركيا مع حكومة فايز السراج، وتغيّر بشكل كبير قواعد اللعبة في شرق البحر الأبيض المتوسط، بما يجعل الخطابات النارية لرجب طيب أردوغان حول الطموحات التركية في حقول الغاز أقرب إلى تهديدات فارغة.

الاتفاقية البحرية بين اليونان وايطاليا رسالة مباشرة إلى تركيا بشأن النفوذ الدبلوماسي اليوناني

ولهذا الغرض سيزور وزير خارجية اليونان نيكوس دندياس القاهرة، في الثامن عشر من حزيران/يونيو الحالي، لتسريع إجراءات ابرام الاتفاقية المنتظرة.

وبرغم التعقيدات التقنية التي تواجهها الاتفاقية المصرية-اليونانية المنتظرة، إلا أن التوصل اليها قد يكون أسهل مما يتوقعه كثيرون، أخذاً في الحسبان المتغيرات السياسية التي تشهدها منطقة شرق المتوسط، وبخاصة الاندفاعة التركية الأخيرة في ليبيا.

علاوة على ما سبق، فإنّ اليونان بتوقيعها الاتفاقية الحدودية، تسهم في تأسيس قواعد جديدة للّعبة الشرق متوسطية، من خلال ادخال إيطاليا كلاعب مباشر فيها، مع العلم بأنّ روما احتلت بالفعل موقعاً متقدماً خلال الفترة الماضية، من خلال انخراطها في خط أنابيب “إيستميد”، بجانب كل من اليونان وقبرص وإسرائيل، وهو عنوان إضافي لتزاحم جيوسياسي حاد بين روسيا والولايات المتحدة، وبينهما الدول التي تدور في فلك النزاعات الكبرى بين القوتين العظميين.

إقرأ على موقع 180  عنصرية أميركا.. حتى في "كورونا"

ومن شأن الانخراط الإيطالي المباشر في سياسات الطاقة أن يستتبع انخراطاً مباشراً في الصراعات المتوسطية، على النحو الذي يعزز موقف اليونان أوروبياً، بالنظر إلى أن إيطاليا، التي فضلت خلال السنوات الماضية البقاء على هامش الصراعات، لا تزال تشكل ثقلاً كبيراً في الاتحاد الأوروبي، المستفيد الأول من “ايستميد”، بالنظر إلى أن هذا المشروع يحرر الأوروبيين من احتكار روسيا لامدادات الغاز.

الاتحاد الأوروبي أظهر بالفعل دعماً لليونان ، حيث أعرب جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي، عن إدانته لأعمال تركيا الاستفزازية، قائلاً “نحن على اتصال وثيق مع زملائنا ووزراء خارجية اليونان وقبرص… وندعو تركيا إلى التوقف عن الحفر في المناطق التي توجد فيها المنطقة الاقتصادية الخالصة أو المياه الإقليمية” اليونانية والقبرصية.

كل ما سبق، يفسر رد الفعل الغاضب في وسائل الإعلام التركية إزاء الاتفاق اليوناني – الايطالي، ولا سيما تلك تسيطر عليها الدولة بشكل مباشر، والتي ركزت على الآثار المترتبة عليه، في ما يخص الطموحات الاستراتيجية لتركيا.

على سبيل المثال، اعتبرت صحيفة “خبر” أن “الخطوة تمثل تصعيداً للتوتر في شرق المتوسط من قبل إيطاليا واليونان”، فيما اعتبرت صحيفة “ميليت” أن “اليونان من خلال هذا الاتفاق تسعى للحصول على دعم دولي”، خصوصاً بعد الاندفاعة التركية المستجدة، والتي كان أحدث فصولها إعلان وزير الطاقة فاتح دونمز أن سفينة حفر تابعة لشركة النفط التركية ستبدأ عمليات التنقيب على مقربة من جزيرة كريت اليونانية في غضون ثلاثة إلى أربعة أشهر.

الإعلان التركي قوبل بموجة من ردود الفعل الغاضبة في أثينا، حيث قال المتحدث باسم الحكومة اليونانية ستيليوس بيتاس “نحن لسنا خائفين، ومستعدون لأي احتمال”، فيما شدد وزير الدفاع نيكوس باناجيوتوبولوس على أن بلاده “لا تريد الذهاب إلى الحرب، لكنها ستفعل كل ما يلزم للدفاع عن حقوقها السيادية إلى أقصى حد ممكن”، في حين شدد رئيس الأركان الجنرال كونستانتينوس فلوروس على أن “القوات المسلحة اليونانية مستعدة للوفاء بواجبها والقيام بمهمتها، من إفروس إلى كاستيلوريزو، متى لزم الأمر”.

يبقى السؤال ما إذا كانت تركيا ستخاطر بحرب مع اليونان إذا ما بدأت بالفعل عمليات التنقيب عن النفط والغاز في المياه البحرية اليونانية في الأشهر المقبلة…

من المحتمل ألا يحدث ذلك لأن تركيا ليس لديها أي داعم في الاتحاد الأوروبي، ولكن تراجعها لن يكون بالسهل على رجب طيب اردوغان، لا سيما إذا  ما فُسر على أنه هزيمة لمشروع الهيمنة التركية على شرق البحر الأبيض المتوسط.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  تمرد أوروبي على ميركل "الروسية".. وبوتين يستعين بديغول