

كانَ ابنُ خلدونَ، قبل سبعةِ قرونٍ، يصِفُ أولياءَ السلطةِ العربَ بـِ”أنَّهم أبعدُ أهلِ الأرضِ عنِ السياسة” بما هي رؤيةٌ عمليَّةٌ تقومُ على رُكنيْن: المعرفةِ والأخلاق. هذانِ الرُكنانِ سقطا عند الحكَّام العرب منذ زمنٍ بعيد ولا سيَّما بعد إحراقِ كتبِ ابنِ رشد (القرن الثاني عشر) وسقوط بغداد في أيدي المُغول (عام 1258م مثلما تكرَّرَ سقوطـُها في أيدي المُغولِ الأميركيين والغربيين في 2003). إنَّهم ببساطةٍ حكَّامٌ يَعبُدونَ السلطةَ والمالَ قبلَ ربِّهم إنْ عبدُوهُ. حُكّامٌ يَتخلَّوْنَ عنِ الكرامةِ القوميةِ والوطنيةِ، ويَتعاوَنونَ على أُمَّتِهِمْ معَ أعدائها بانقيادٍ وصفَهُ المفكِّرُ الجزائري في القرن الماضي، مالك بن نبي بـِ”القابليّة للاستعمار” منتهِجاً بذلك رأيَ المفكِّرِ الفرنسي إتيان دو لا بويسي في القرن السادس عشر عندما تحدَّثَ عنِ “العبوديّةِ الطوْعيةِ” ومخاطرِها على الشعوب.
هذهِ الصورةُ كارثيّةٌ حقَّاً. خُطورتُها أنَّها مستمرّةٌ منذ ثمانيةِ قرونٍ على الأقلِّ. ولو كانَ “المَواتُ” الذي نراهُ مَحصورَاً بالحُكَّام ِالعربِ وحْدَهُمْ لكانتِ المُصيبةُ أهونَ وقابلةً لتجاوُزِها في مدىً قريب. أمَّا أنْ يصلَ “المواتُ” إلى معظمِ النخبِ والمُواطنينَ العربِ فتِلكَ هي المُصيبةُ الكبرى. [كان “دو لا بُويسي” عندما يُهاجمُ النظامَ الملكيَّ يلومُ الناسَ لأنهم سكتُوا فأعطوْهُ السلطة المطلقة].
نعرفُ أنَّ الشعوبَ تعودُ إلى الانتفاضِ مهما يَطُلِ السُباتُ، لكنَّنا في صراعٍ وجوديٍّ – لا سياسيٍّ فحسْبُ – معَ الاستعمار الغربي الأميركي الحديث، والرأسماليةِ الإمبراطورية، والصهيونيةِ التي باتَتْ في بعضِ وجوهِها عربيةً أيضاً مثلما هي غربيّة أصلاً، ما يَعني أنَّ الوقتَ يكتسبَ أبعاداً إستراتيجيَّةً فكُلَّما تأخَّرتِ النُخبُ العربيةُ في التحرُّك، وكلَّما تأخَّرتْ شعوبُنا اِزددْنا خسارةً في الجغرافيا والتاريخ والهويّة، وعندئذٍ سنحتاجُ إلى عشراتِ السنواتِ للنهوض، وربَّما يكونُ الأمرُ بعد فَواتِ الأوان.
ألمْ يقلِ الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب مرِّةً إنَّه يقودُ العالم في عصرٍ لا قيمةَ فيه سوى للمالِ وللحصول على الثروات بأيِّ وسيلةٍ كانتْ؟ ألمْ يفعلْ ذلك عندما جمعَ أكثرَ من 4 تريليونات دولار من دول الخليج فيما كان أهلُ غزَّة يموتون تحت الحصار والنار والعطش والجوع بقرارٍ إسرائيلي وبموافقةٍ أميركية؟
المقارنةُ الفاضحةُ برزتْ في الأيامِ القليلةِ المُنصرِمة: غزَّة المذبوحةُ من الوريدِ إلى الوريدِ، وبمشاركةِ مالٍ عربيٍّ أخذَهُ ترامب وعزَّزَ بهِ ترسانةَ كيانِ الاحتلالِ الإسرائيلي –غَزَّةُ هذه– كانت تراقِبُ شارعيْنِ: شارِعاً عربيّاً غارقاً في السُباتِ الغامضِ باستثناءِ اليمن وبعضِ التحرُّكاتِ في مصر. وشارعاً أوروبيّاً خرجَ فيه الآلافُ في عددٍ منَ العواصمِ والمدنِ الأوروبية يُندِّدونَ بجرائمِ الإبادةِ الجماعيةِ التي يرتكبُها الصهاينة.
هؤلاءِ المتظاهرونَ الأوروبيونَ كانُوا في تلك اللحظاتِ عرَباً أكثرَ منَّا. أمَّا الأهمُّ فهو بروزِ وعيِهم بالعلاقةِ بين الرأسماليةِ الأوروبيةِ والأميركية، والجريمةِ المنظَّمةِ بقيادةِ كثيرٍ منْ دوَلِهم. هذا الوعيُ الضاغطُ دفعَ دولاً مثلَ فرنسا وبريطانيا وألمانيا (في أوروبَّا) وكندا (في أميركا الشمالية) إلى محاولةِ امتصاصِ النقمة الشعبية من خلال إصدارِ مواقفَ تنتقدُ الكيانَ الإسرائيلي. هذه الدولُ حاولتْ أنْ تلتفَّ تكتيكياً على نُخَبٍ يساريةٍ وديموقراطيةٍ حرَّكتِ الشارعَ من منظورِ أنَّ قضيةَ فلسطينَ ليستْ قضيةً أمميَّةً فحسْبُ، بل باتت قضيةً محليَّةً أيضاً فالرأسماليُّ الاستعماريُّ الذي يَحمي الكيانَ الغاصبَ اليوم هو نفسه الذي سيكمِلُ غداً طريقَهُ في استغلالِ المواطنِ الأوروبيِّ طبقياً وسياسيَّاً. وسيُمارسُ بعدَ هدوءِ العاصفةِ قمعاً نوعيَّاً جديداً للحريات بقوة البوليس، وبقوة التقنيّاتِ الجديدة للمراقبة والملاحقة عبر الذكاء الاصطناعي.
أينَ الشارعُ العربي من وعيِ الحقيقةِ بأنَّ ما تتعرَّضُ له غزَّة سيتعرَّض له العربُ جميعاً بأشكالٍ مختلفة؟
عليْنا أنْ نعترِفَ بأنَّ الشارعَ العربيَّ وقعَ حتَّى الآنَ في القصورِ التاريخي. السببُ الجوهريُّ هو أنَّ النخبَ العربيةَ تباطأتْ فلم تتحرَّكْ. [هناك أسبابٌ أخرى لا مجال لها هنا]. مَن ِالمقصودُ بالنخبِ؟ إنَّهم أولئكَ الذينَ امتلكوا وعياً معرفيَّاً وطبقيَّاً شعبياً بمعنى القضيةِ الفلسطينيةِ اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً في حياة العربِ والعالم، لكنَّهم لم يبادروا حتَّى اللحظةِ إلى تطويرِ برامجِهم السياسيةِ والثقافيةِ والإعلاميةِ كي يتمكَّنوا من استنهاضِ أنفُسِهِم واستنهاض الشارع العربي في مواجهةِ السلطاتِ المسمَّاةِ “رسميَّةً” والاستعمار الزاحفِ بالآلياتِ الأميركيةِ والإسرائيليةِ والغربية الأوروبيّة نحو الوطن العربي ونحو كلِّ الشرق. هذه النُخبُ مسؤولةٌ قبلَ الشارعِ ومعه. وفي طليعتِها قوى اليسار العربي، والقوى القوميّة التي لم تغرَقْ في لعبةِ السلطةِ، والقوى الديموقراطية الوطنية الحقيقية غيرِ المنخدِعةِ بالأكذوبة الغربيةِ التي تمزجُ الحضارةَ بالمدنيَّةِ التِقنيةِ الغربيةِ بعيداً عنِ القيم الأخلاقية والإنسانية. ألمْ يقلِ الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب مرِّةً إنَّه يقودُ العالم في عصرٍ لا قيمةَ فيه سوى للمالِ وللحصول على الثروات بأيِّ وسيلةٍ كانتْ؟ ألمْ يفعلْ ذلك عندما جمعَ أكثرَ من 4 تريليونات دولار من دول الخليج فيما كان أهلُ غزَّة يموتون تحت الحصار والنار والعطش والجوع بقرارٍ إسرائيلي وبموافقةٍ أميركية؟
إذا استمرَّ هذا التباطؤُ في تحرُّكِ النخب والشارع في بلاد العرب، فإنَّ المواتَ العربي سيُؤدِّي إلى زوالِنا واسترهانِنا بعد إعادة عصر ملوك الطوائف بأبشعَ مما كانت؛ وذلك في ظلِّ تقاطعٍ خطيرٍ بين “أبناءِ تيميّة” الجدد والاستعمار المتجدِّد.