أمريكا في مرحلة عصيبة

إجتمعت ظروف في الآونة الأخيرة دفعتني لأتمنى وقوع أكثر من مستحيل تفادياً لكارثة تقترب. الكارثة هي أن تجري الإنتخابات الرئاسية الأمريكية في موعدها ويفوز الرئيس دونالد ترمب بولاية ثانية. المستحيلات التي أتمنى وقوعها تبدأ بأن يرفض الرئيس ترشيح الحزب الجمهوري له رئيساً لولاية ثانية، وتنتهي بأن تعترف المؤسسات الدستورية الأمريكية بحقي أنا المواطن المصري وملايين غيري من كافة الجنسيات أن نصوّت في هذه الإنتخابات، كما يصوّت المواطنون الأمريكيون بعد أن نالنا من نتائج أفعال ترمب ما ناله مواطنون أمريكيون كثر.

توقفت مرات عديدة مندهشاً من موقف الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ وعديد الجمهوريين في مجلس النواب من كثير من تصرفات الرئيس ترمب. يسكتون حتى صار كذب الرئيس محل سخرية أطفال المدارس والمتدربين من المراهقين على لعبتي كرة القدم والبيسبول في كل أنحاء أمريكا. أي جيل هذا الذي ينشأ الآن في أمريكا ويستعد ليرث السياسة والمبادئ ويدير المؤسسات الدستورية. جيل نشأ مع رئيس يكذب ولا يخفي عنصريته وبخاصة مع الملونين والمسلمين.

إستطاع ترمب خلال السنوات الأربع التي قضاها رئيساً أن يفرض على قاعدته في الهيئة التشريعية القبول العملي بأن يكون شعار الرئاسة الأمريكية في عهده “أنا وقاعدتي أولاً” وليس أمريكا أولاً. لم تكن أمريكا إعتباره الأول عندما طلب من الرئيس الأوكراني حديث العهد بوظيفته التدخل لإجراء تحقيق يمس سمعة السناتور بايدن، المرشح المحتمل لمنافسته بعد سنوات أربع على منصب الرئاسة. لم تكن أمريكا في إعتباره عندما هدّد مساعديه في البيت الأبيض والحكومة بالفصل والملاحقة إن ساعدوا المحقق موللر المكلف بتقرير عن أخطاء وتجاوزات الرئيس خلال العامين الأوليين من الحكم.

أذكر أثناء الحملة الإنتخابية التي جاءت بدونالد ترامب مرشحاً أنني وآخرين لم نهتم الإهتمام الواجب في أوجه قصور ترمب. مال الظن عندنا إلى فكرة بين أفكار كثيرة إستطاعت الثقافة الأمريكية أن تحقننا بها أيديولوجياً وإقتصادياً عبر عقود كانت أمريكا خلالها المتحدث الأول والأعظم في عالم السياسة، وقتها كنا نقاوم وكانت أقوى. إعتقدنا متأثرين بهذه الفكرة أن منظومة القيم الأمريكية سوف تجبر الرئيس المنتخب على الإصطفاف بكل الإحترام وراء هذه المنظومة. لم ننتبه بالقدر الواجب إلى أن منظومة القيم الأمريكية قد أصابها من التوعك والتآكل في العقود الأخيرة ما أصاب منظومات وربما مؤسسات أمريكية أخرى. نعرف مثلاً أن من قيم هذه المنظومة، وكان الظن أنها ثابتة ولا تمس، مبدأ حرية التجارة.

أظن أن ترمب يعرف، أن الفيروس لن يترك أمريكا على حال كانت عليه عندما بدأ يشن حربه عليها. لن يترك مؤسسة قائمة أو عقيدة راسخة أو نخبة سياسية تتحكم بعد أن إنكشف عجزها وتقصيرها

ومن القيم أيضا التي إفترضنا خطأ إستحالة أو صعوبة المساس بها، مبدأ قدسية الحريات الشخصية، وبخاصة الحقوق والحريات السياسية. ومن القيم كذلك التي كثيراً ما تبناها مفكرو وشباب العالم النامي ضمن حلم بناء دولة مكتملة الأركان مبدأ إحترام المؤسسات الدستورية، مثل القضاء والسلطة التشريعية والقانون ودستور البلاد. أعود فأكرر أن الظن راح بنا إلى إنها مبادئ لن تمس.

كان ظناً خائباً لأسباب ثلاثة على الأقل..

أولاً، وقع المساس بكل القيم تقريباً ولم يصدر عن الجوانب المسئولة عن حماية عقيدة الأمة ودستورها ومؤسساتها إجراء قوي يمنع الرئيس عن الإستمرار في المساس بمقدسات النظام السياسي الأمريكي. تمادى الرئيس، فتأثرت بالسالب علاقات أمريكا بأقرب حلفائها في أوروبا. تراجعت مكانة “المعسكر الغربي”. نحن المحللون تجاوزنا الحدود، ورحنا نسأل عن مصير الحضارة الغربية في ضوء إستمرار إنطفاء أضوائها ضوءاً بعد ضوء. نسأل أيضاً عن مصيرها مع تعدد إحتمالات صعود قيم غير غربية، وقيم قد لا تنسب نفسها لتراث الرجل الأبيض فتفاخر بتراثها المختلف. تخلّفت التجارة الدولية وتأثر الاقتصاد العالمي وتعرضت الرأسمالية بتحديثاتها المبتكرة لحملات إنتقاد شنّها مفكرون كبار محسوبون على هذه العقيدة.

ثانياً، شنّت الطبيعة حرباً لا هوادة فيها، كشفت عن أشياء لم يتوقعها بشر في مواقع الحكم أو خارجه. المثير في الأمر، بين أمور كثيرة لا تقل إثارة، أن الولايات المتحدة نفسها تعرضت لدرجة قصوى من الخسائر البشرية والمادية وكذلك السياسية. لا يخفى أن الرئيس ترمب، عملاً بشعار أنا أولاً، يتحمل قسطاً كبيراً من المسئولية. أراد أن يكافح الفيروس المهاجم وعينه على تشرين الثاني/نوفمبر القادم شهر إنتخابات التجديد وليس على شعبه المهدد أو على الفيروس العنيد. ما نعرفه عن ترمب يجعلنا نعتقد أنه لن يدع كارثة، ولو بهذا الحجم تشغله، فتحرمه من أن يعود رئيساً للجمهورية. نعرف أيضاً، وأظن أن ترمب يعرف، أن الفيروس لن يترك أمريكا على حال كانت عليه عندما بدأ يشن حربه عليها. لن يترك مؤسسة قائمة أو عقيدة راسخة أو نخبة سياسية تتحكم بعد أن إنكشف عجزها وتقصيرها.

أتخيل أن ترمب بحكم شخصيته ودعم جماعات مصالح بعينها، لن يكتفي بالأجزاء. قد يجد فرصة العمر سانحة فيمس الدستور في كلياته. يمكن لهذا أن يحدث إذا نشبت في البلاد فوضى بسبب الصراع العنصري أو نشوب حرب أيديولوجية تحت عناوين اليمين واليسار

ثالثاً، ليس غائباً عن دونالد ترمب أن مثله الأعلى بين حكام العالم يوشك أن يحقق اليوم أعز أحلامه، الذي هو حلم معظم حكام العالم في الشرق كما في الغرب. هناك في موسكو يحتفل الرئيس فلاديمير بوتين ساعة كتابة هذه السطور بحصوله على أصوات غالبية الناخبين الروس الذين صوّتوا ليبقى بوتين رئيساً لدورتين إضافيتين. هاتان الدورتان يضمنان للرئيس الروسي أن يحتفظ بمنصب الرئاسة حتى نهاية العمر تقريباً، وإذا طال العمر وإمتد إلى ما بعد الدورتين، فلن يكون صعباً تعديل مادة في الدستور، فيصبح من واجب السيد فلاديمير أن يشرف على الدولة من موقع شرفي. موقع فوق المؤسسات. إتضح أن تحقيق الحلم ليس أمراً مستحيلاً. قد يكون أمراً صعباً لو أنه يحدث في وضع لم يمس الدستور فيه إلا نادراً أو في وضع أحاطه المؤسسون بضمانات وحصانة رادعة. المؤكد أن الدستور الأمريكي بمعناه الواسع جرى المساس به في أكثر من موقع وممارسة خلال عهد الرئيس ترمب وبشكل لم يحدث من قبل. الأهم أن الرئيس إستطاع أن يهز قدسية المؤسسة الدستورية الأمريكية. بمعنى آخر جعلها أكثر قابلية للمساس بأجزاء متفرقة فيها. أتخيل أن ترمب بحكم شخصيته ودعم جماعات مصالح بعينها، لن يكتفي بالأجزاء. قد يجد فرصة العمر سانحة فيمس الدستور في كلياته. يمكن لهذا أن يحدث إذا نشبت في البلاد فوضى بسبب الصراع العنصري أو نشوب حرب أيديولوجية تحت عناوين اليمين واليسار، وفي حال إزدادت المطالبة بإعادة كتابة تاريخ الولايات المتحدة لصالح العبيد أو لصالح جنرالات الكونفدرالية وتجار الرقيق.

إقرأ على موقع 180  عودة لُولا.. وصعود اليسار اللاتيني مُجدداً

أتابع ترمب وبوتين. ما يفعلانه يذكرني بكتاب تقرر علينا ونحن طلبة. كتبه شابان بدآ يتألقان بين علماء السياسة هما زبنيو برجنسكي وصمويل هنتجتون. حاول الشابان المجتهدان أن يثبتا في الكتاب إستحالة أن يتطور النظامان السوفيتي والأمريكي في إتجاه التطابق أو التشابه. أعتقد أن جهة ما في موسكو وجهة أخرى في واشنطن صارتا تفكران بغير قصد كما كان يفكر مؤلفا الكتاب قبل خمسين عاماً أو أكثر. هما أيضاً يرفضان أن يتطور النظامان إلى إعتناق أيديولوجية واحدة وتطبيق سلوكيات متشابهة. في رأيي الشخصي تزداد الممارسات المتشابهة عدداً وعمقاً.

***

ليس من قبيل المبالغة وليس بدافع إثارة القلق والفزع أن أستمر في التعبير عن إقتناعي بأن أمريكا ستكون في خطر ومعها الغرب لو أديرت الإنتخابات القادمة بشكل سيء.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كورونا والتضحية بالإقصاد العالمي لمصلحة من؟