أخر هذه التطورات تمثل في تفويض البرلمان الليبي للقاهرة باتخاذ ما يلزم من التدابير العسكرية، بما في ذلك التدخل المباشر لـ”حماية الأمن القومي للبلدين”، وذلك بعد ساعات من فشل وساطة روسية جديدة للحيلولة دون تسارع وتيرة التصعيد إلى حد اللاعودة وحتمية وقوع المحظور المتمثل في صدام مباشر بحري أو بري قد يرجئ إمكانية التوصل إلى تهدئة سياسية على المدى المنظور، والأهم يجعل الوسيط نفسه ينجر إلى تورط أكبر في أزمة مزمنة مثل الأزمة الليبية، التي قد تتحول إلى مصدر استنزاف سياسي وعسكري لن يقف عند ثنائية القاهرة-أنقرة، بل سيشمل معظم دول المتوسط، بما لذلك من تداعيات على مختلف الاتجاهات التي قد تطال مستقبل حلف “الناتو” إذا ما نشب نزاع عسكري بين اعضائه، وتحديداً بين باريس وأنقرة.
يأتي هذا التفويض ضمن سلسلة ردود أفعال متسارعة الوتيرة لم تقف عند التصريحات الرسمية والتلاسن الإعلامي بين البلدين؛ فخلال أقل من أسبوعين تدحرجت كرة النار من مجرد التلويح باستخدام القوة العسكرية إلى تنفيذ غارات “مجهولة” على قاعدة الوطية التابعة لمليشيات طرابلس في أقصى غرب ليبيا، نتج عنها تدمير منظومات الدفاع الجوي التركي التي نُشرت حديثاً هناك كجزء من استراتيجية التصعيد التركي.
وعلى مستوى سياسي، فإن دخول مجلس نواب طبرق كفاعل محلي يكسر ثنائية حفتر-السراج، ويطرح التساؤل حول شرعية استمرار حكومة الأخير، أي تفكيك مشروعية التدخل التركي هناك في المدى المنظور. كذلك فإن المبادرة السياسية الوحيدة المطروحة بشأن حل سياسي للوضع في ليبيا هي مبادرة القاهرة، التي لاقت استحساناً من معظم القوى الدولية والاوربية بصفتها مربع انطلاق لتسوية سياسية طويلة المدى، والاهم أنها تكشف زيف وادعاء البروباغندا التركية عن ثنائية طرابلس-بنغازي، وتضع مأسسة دولة في ليبيا كأولوية بعد أكثر من تسع سنوات من فوضى الاقتتال الأهلي الذي ما لبث أن تطور إلى حرب بالوكالة، ومن ثم صراع إقليمي ودولي تهدف أنقرة إلى جعله أشبه بسنوات الحرب في سوريا.
اختبار استراتيجية “الخط الأحمر”
التصعيد التركي الأخير أتى كرد على غارات الوطية قبيل نحو أسبوعين، واتخذ شكل تصريحات رسمية تركية تستهدف الخط الأحمر الذي رسمته القاهرة الشهر الماضي، وهو المنطقة الفاصلة بين مدينة سرت شمال شرق ليبيا وقاعدة الجفرة الجوية جنوباً، والتي اعتبرتها أنقرة حتى قبل غارة الوطية “هدفاً استراتيجيا”، والتصعيد والحشد بغية بدء عملية عسكرية تستهدف المدينة الاستراتيجية، وذلك حتى مع اختلال التوازن لصالح القاهرة وقوات حفتر – الذي لا يغيّره دعم انقرة المفتوح لمليشيات حكومة الوفاق.
التصعيد التركي شمل أيضا الإعلان عن نية القوات التركية إجراء مناورة حربية في غرب ليبيا، سرعان ما أعلن عن إلغائها، بعد إقدام القاهرة في اليوم التالي على إجراء مناورة حربية شاملة في غرب البلاد، سُميت “حسم 2020″، وشعارها “جيش مصر يحمي ولا يهدد”، وذلك اتساقاً مع استراتيجية القاهرة وحلفائها التي تتخذ موقع رد الفعل كموقف ثابت أمام التصعيد التركي منذ أواخر العام الماضي.
تَصدر القاهرة مؤخراً لفرض أولوياتها في ما يتعلق بالشأن الليبي يعكس تفهم حلفائها الإقليميين والدوليين للخطورة التي يشكلها توسع نفوذ أنقرة في ليبيا إلى حد جلب ميليشياتها الإرهابية من سوريا وكذلك جيشها على مقربة من حدود مصر التي تبلغ أكثر من 1200 كيلومتر، وما ينتج عن ذلك من مضاعفة للمخاطر الأمنية وتهديد لأمن مصر القومي بشكل أكبر حتى من مجرد تكرار العمليات الإرهابية في العمق المصري مثلما حدث في السنوات القليلة الماضية.
خط أحمر فرنسي أيضاً
ما سبق ينسحب كذلك على ما يتخطى أولويات مصر الأمنية القُطرية، ليصل إلى قضية الأمن الإقليميي، لا سيما في شرق المتوسط وشمال أفريقيا، ذلك أنّ إعادة انتاج الأزمة السورية على الأراضي الليبية لا يشكل خطراً على مصر فحسب، بل يهدد أمن ومصالح دول شمال افريقيا وجنوب الصحراء، ويعطي دفعة إنعاش للتنظيمات الإرهابية لتحوّل هذه المنطقة – وتحديداً ليبيا – إلى بؤرة إرهابية جديدة تحظى بداعم إقليمي بحجم تركيا.
هنا نجد أن الزاوية التي تطرح منها القاهرة رؤيتها تجاه الملف الليبي بتعقيداته وتشباكته تتقاطع بنسب مختلفة مع كافة الأطراف المعنية بالصراع في ليبيا وبخاصة القوى الأوربية، وعلى رأسها فرنسا، والتي بدورها بدأت في التفهم العملي لاستراتيجية القاهرة في عدم المبادرة بالتصعيد واكتفائها بالتدرج في رد الفعل وبشكل دقيق يهدف للحيلولة دون تجذر موطئ القدم التركي بشكل دائم في ليبيا، وهو ما ترجمته غارة الوطية في رسم خط أحمر أخر مفاده عدم السماح بوجود ارتكاز عسكري تركي دائم هناك.
وبالتوازي مع التناغم المصري-الفرنسي، فإن ثمة محاولات تجري لتحديد موقف روسيا واستبيان قدرتها على إدارة توازن مبني على الثقة بين كل هذه الأطراف سواء بشكل ميداني أو سياسي، وهو الأمر المشكوك فيه حتى كتابة هذه السطور؛ فوساطة موسكو الطارئة أتت كبديهية لامتصاص رد الفعل التركي -حتى وإن أخفقت في ذلك- بعد الغارة الجوية “المجهولة” للحيلولة دون استغلال القوى الأوروبية وعلى رأسها فرنسا للعجز الروسي لتوسيع دورها في ليبيا، والذي من شأنه تعطيل طموح روسيا وانسحاب ذلك على أكثر من ملف، لا سيما مستقبل خطوط الغاز إلى أوروبا، ومع تفويت باريس بتعاطيها المستجد مع القاهرة وأبوظبي فخ الصدام المباشر مع أنقرة والتداعيات السلبية لذلك، والتي يقف حدها الأدنى عند انشقاق غير مسبوق في حلف الناتو.
وبالتوازي مع ما سبق، فإن التصعيد الأخير لا يمكن حصره في ثنائية القاهرة-أنقرة، مثلما لا يمكن حصر الأزمة الليبية في ثنائية حفتر-السراج، حيث أن الدوافع الاوروبية في كواليس هذا التصعيد الأخير باتت تتمثل في رسم خط أحمر إضافي للتحرك التركي هناك، مفاده أن لا قواعد عسكرية ولا تمركز عسكري تركي طويل الأمد في ليبيا، بالإضافة إلى قطع الطريق على تحويل ليبيا كمكب لنفايات مسلحي إدلب، وهي الأولوية المشتركة الجديدة ليس فقط لكل من القاهرة وباريس، ولكن أيضاً للقوى الأوربية الكبرى، بمن فيهم المتماهين مع أنقرة، وتحديداً روما، التي باتت فاعلية تغريدها خارج السرب الأوروبي بدافع مصالحها في غاز المتوسط متقزمة أمام المخاطر التي قد تنتج عن صدام عسكري في جنوب المتوسط غير معروف مداه وخاصة في ظل غياب سقف أميركي واضح له.
وحتى انتهاء الانتخابات الأميركية، فإن فسيفساء المشهد الليبي على مستوى محلي واقليمي ودولي تسير وفق مرحلية التصعيد الدقيق والحرص على استمرار قنوات السعي للوصول للتهدئة تبدأ بعدها مسارات حل سياسي، وهو الأمر الذي يحتاج إلى راعٍ دولي بحجم واشنطن، لم تفلح القوى الأوروبية ناهيك عن روسيا في سد الفراغ الناتج عن غيابه، وذلك بموازاة إدراك القاهرة وأنقرة بأن أي تصعيد من دون توافق دولي قد يأتي بنتائج عكسية حتى وإن كانت لدى القاهرة-على سبيل المثال- كل المشروعية للقيام بأي عمل عسكري بمدى مفتوح، سواء بدافع حماية مصالحها وأمنها، والتي كانت أولوية متأخر في السنوات الماضية لحلفائها الإقليميين والدوليين في الصراع الليبي، أو بتفويض السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا، وأخيراً بتقاطع مصالحها مع قوى أوروبية بحجم ونفوذ فرنسا.