من الناحية القانونيّة، يُفترض بلجنة الرقابة على المصارف أن تمارس مهامها بإستقلاليّة تامّة عن سلطة المصرف المركزي، وأن يُناط بها مهام الرقابة المنصوص عنها في المادّة 148 في قانون النقد والتسليف، أي التأكّد من حسن تطبيق النظام المصرفي كما يحدده قانون النقد والتسليف نفسه، وإجراء عمليّات الدقيق الدوريّة في عمليات وميزانيّات جميع المصارف. وبذلك، يصبح من الواضح أن هذا الدور الرقابي والتدقيقي المستقل يتناقض حكماً مع طبيعة لجنة إعادة الهيكلة التي طلب حاكم مصرف لبنان المركزي من لجنة الرقابة المشاركة فيها، خصوصاً أن لجنة إعادة الهيكلة ستتولّى – بحسب مذكرة الحاكم – أدواراً تنفيذيّة بحتة، مثل دراسة إعادة هيكلة المصارف ودراسة الأداء المالي للمصارف وإقتراح الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامة القطاع. وعمليّاً، يدرك أي متابع لشؤون القطاع وهيكليّات المصارف الإداريّة أن مهام التدقيق والمراقبة لا يمكن ممارستها بجديّة إذا لم يتم فصل القيّمين عليها عن المهام الإداريّة التنفيذيّة العادية.
هفوة الحاكم القانونيّة، أو ربما تسرّعه في تشكيل لجنة إعادة الهيكلة من دون الوقوف مسبقاً عند رأي لجنة الرقابة، سيكلّفه خلال الفترة المقبلة إما تعديل مذكّرته السابقة لإعادة تشكيل اللجنة، أو صرف النظر عن فكرة تشكيلها من الأساس والبحث في آليّات مختلفة لإعادة الهيكلة. لكن الأكيد حتّى الآن، ووفق أي سيناريو سيتم التوجّه إليه لاحقاً، هو أن الحاكم مصرّ على إبقاء مسار إعادة الهيكلة تحت سقف مصرف لبنان، ووفق آليّات تضمن له طوعيّة عمليّات الدمج والإستحواذ وإبقاء هذه القرارات بيد المصارف نفسها، على أن يقوم الحاكم من خلال هذه اللجنة أو عبر أية آليّة أخرى بتحديد المعايير التي يجب على القطاع المصرفي الإلتزام بها، أي نسب الملاءة وكفاية الأموال الخاصّة وغيرها.
الإصرار على هذه النقطة، يقودنا إلى الثغرة الأكبر في مسألة لجنة إعادة الهيكلة التي قام بتشكيلها سلامة. فمسار إعادة الهيكلة مرتبط حكماً بمسار توزيع خسائر الإنهيار الحاصل اليوم، وطريقة معالجة الفجوات الموجودة في ميزانيات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. وبذلك، يصبح من الواضح أن ثمّة إشكاليّة، أو بالأحرى تضارب مصالح، في تكليف لجنة مشكّلة من ممثلين عن القطاع المصرفي نفسه، أي المصارف ومصرف لبنان، لتقدير الخسائر التي ستتحمّلها رساميل القطاع وتحديد طرق معالجتها في مسار إعادة الهيكلة. مع العلم أن هذه الإستقلاليّة في إدارة القطاع يمكن القبول بها في الظروف العاديّة، لكننا اليوم نتعاطى مع خسائر ستؤثّر طريقة معالجتها على قيمة ودائع اللبنانيين في القطاع المالي، وقيمة الليرة والقدرة الشرائيّة للبنانيين، بالإضافة إلى موجودات الدولة التي سيتم تخصيص عائداتها لمعالجة جزء من هذه الخسائر، بينما تملك المصارف مصلحة مباشرة في تقليص القدر الذي ستتحمّلها رساميل في عمليات إعادة الهيكلة هذه.
أراد حاكم مصرف لبنان من إستعجاله في تشكيل هذه اللجنة الشروع بعمليات إعادة رسملة شكليّة وإستباقيّة، من النوع الذي يمكّن المصارف من “نفخ” رساميلها دفتريّاً قبل الوصول إلى مرحلة الإقتصاص من هذه الرساميل، خصوصاً أن المصارف غير قادرة في هذه الظروف على إستقطاب أية رساميل جديدة
هذه النقطة تثير إشكاليّة أخرى بدورها، فالحاكم يتعاطى حاليّاً مع عمليّة إعادة الهيكلة وكأنّها مسار مستقل يجري برعايته الحصريّة، وخصوصاً حين يعمل على تشكيل لجنة مستقلة لوضع معايير إعادة رسملة القطاع، فيما يصر على إبقاء قرارات الدمج والإستحواذ بيد المصارف نفسها. أما على أرض الواقع، فمن الأكيد أن مسار إعادة الهيكلة سيرتبط بقرارات أكبر تتعلّق بخطة الدولة للتعامل مع الخسائر، والقدر الذي سيتحمّله القطاع المالي من هذه الخسائر، سواء من ناحية الرساميل أو بعض كبار المودعين، وهذه مسألة يجري التفاوض حولها في مسار مستقل بين وزارة الماليّة وجمعيّة المصارف. ولذلك، ثمّة ما هو غير واضح هنا، وتحديداً من جهة علاقة ما يقوم به الحاكم مع مجريات الأمور على مستوى خطة الحكومة المالية ومفاوضاتها مع القطاع المصرفي. مع العلم أن مذكرة الحاكم لم تقارب مسألة المفاوضات أو الخطة لا من قريب ولا من بعيد.
بإختصار، جاءت مذكرة الحاكم متسرّعة من عدة نواحي، سواء من ناحية تجاهلها الدور الذي يضعه القانون للجنة الرقابة، أو ناحية إطلاق عجلة إعادة الهيكلة بشكل مبكر، قبل نضوج التفاهمات مع الحكومة حول مسألة المعالجات التي سيتم التوجّه إليها. مع العلم أن بعض التحليلات تذهب إلى الإعتقاد بأن الحاكم أراد من إستعجاله في تشكيل هذه اللجنة الشروع بعمليات إعادة رسملة شكليّة وإستباقيّة، من النوع الذي يمكّن المصارف من “نفخ” رساميلها دفتريّاً قبل الوصول إلى مرحلة الإقتصاص من هذه الرساميل، خصوصاً أن المصارف غير قادرة في هذه الظروف على إستقطاب أية رساميل جديدة. هذا النوع من الهندسات المحاسبيّة يجري العمل عليه فعلاً من خلال تعاميم تسمح بأساليب مبتكرة خاصّة لهذه الغاية، مثل تمكين المصارف من إعادة تخمين موجوداتها العقاريّة، لزيادة الربح الدفتري الناتج عن إعادة التخمين إلى رساميلها، وهو ما يمكن أن يؤدّي عمليّاً إلى مضاعفة حجم الأصول العقاريّة في ميزانيات المصارف. هذا التحليل يمكن أن يبرر إنطلاق عجلة إعادة الهيكلة قبل إنطلاق عجلة توزيع الخسائر.
عندما شكل حاكم مصرف لبنان لجنة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، برر إبعاد وزارة المالية عنها بمندرجات قانون النقد والتسليف، قبل أن يبلغ وزير المالية بإستعداده لضم من يسميه إلى هذه اللجنة، لكن القانون الذي تذرع به الحاكم كان كافياً لجعل لجنة الرقابة ترفض المشاركة.. الأمر الذي يدل على تخبط كل “الحكام” السياسيين والنقديين والماليين!