قيس سعيد وراشد الغنوشي: دهاء متبادل

من تونس إلى بيروت، ثمة مشهدية متشابهة بمفرداتها وآلياتها. يقول رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص "في لبنان كثير من الحرية وقليل قليل من الديمقراطية". يعكس ذلك طبيعة تركيبة لبنان الطائفية. في تونس، يحتدم الإشتباك الدستوري بين رئاستي الجمهورية والبرلمان، وبينهما يستوي نقاش شبيه بما يشهده لبنان: حكومة تكنوقراط أم حكومة وحدة وطنية؟

تَصوّر الكثير من الناس في مختلف الوسائل التي تتيح لهم عرض مواقفهم وإبداء أرائهم وربما الجزمُ بأحكامهم النهائيّة في القضايا ذات البعد المصيري لأمم أخرى؛ أنّ ما حصل في تونس من جلسة سحب ثقة من رئيس البرلمان الحالي راشد الغنوشي، انقلاباً مؤزّراً على الديمقراطيّة ومروقاً واضحاً عن الأصول التي كرّستها ثورة الياسمين.. بيد أنّه وللأسف، تخلو هذه الأذهان ولا تصفوّ ولو كانت حسنة الطويّة، نقيّة السريرة، من معرفة الحقوق واكتناهِ الفروض وتقدير النصوص التي كفلها الدستور التونسي، لما في هذا الدستور من تعقيدٍ طفيفٍ سرعان ما تتجلّى فصوله، وتتّضح بالبيان والكشف والسجال مواده وبنوده.

يخوّل دستور تونس في حيثياته لثلث الأعضاء فما فوق، الدعوةَ إلى جلسة سحب ثقة من رئيس البرلمان، طبقاً لنص الفصل 51 الذي ينصّ صراحةً على التالي:”يمكن لمجلس نوّاب الشعب سحب الثقة من رئيسه أو أحد نائبيه بموافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس، بناءً على طلب كتابي مُعلّل يُقدّم لمكتب المجلس من ثلث الأعضاء على الأقل. ويُعرض الطلب على الجلسة العامة للتصويت على سحب الثقة من عدمه في أجل لا يتجاوز ثلاثة أسابيع من تقديمه لمكتب الضبط. ويتم سدّ الشغور الناجم عن سحب الثقة بنفس طريقة الانتخاب المبينة بالفصلين 10 و11 من هذا النظام الداخلي”.

ومن أجل مقاربة ما حصل في تونس في نهاية تموز/يوليو، يجب معرفة من دعا إلى جلسة سحب ثقة من رئيس المجلس النيابي وهم على التوالي: التيار الديمقراطي (11 منخرطاً، 22 نائباً، 205 من أصل 7.312 مستشاراً بلدياً، 3 من أصل 350 رؤساء بلديات)، حركة الشعب الناصريّة/ الاشتراكيّة التي كان ينتمي إليه محمّد البراهمي، السياسي التونسي الشهير الذي اغتيل في 25 تموز/ يوليو 2013 (16 نائباً من أصل 217 نائباً في البرلمان التونسي)، حزب تحيا تونس (291 84 منخرطاً، 44 نائباً)، الحزب الدستوري الحرّ (17 نائباً)..

هؤلاء وغيرهم قدّموا إلى أمانة البرلمان 118 توقيعاً، بمعنى أنّهم نجحوا في تجاوز النصاب القانوني (109 أصوات) الكفيل بسحب الثقة من رئيس البرلمان، حسبما تمّ تداولهُ على نطاق ضيّق، بينما ذهبت الرواية الرسميّة بأنّ عدد الموقعين لم يتجاوز الـ 73 توقيعاً، لكنّ الذي حصل هو أنّ التصويت جرى بحضور 133 نائباً، على النحو التالي: 2 ورقة بيضاء (إمتناع)؛ 16 ورقة لا؛ 18 ورقة ملغاة (بسبب تشطيب أصحابها الذي وقّعوا على لائحة سحب الثقة من قبل على الخيارين معاً)؛ 97 نائباً صوّتوا على سحب الثقة، وهو ما لم يبلغ السقف المطلوب للمباشرة بإجراءات العزل القانوني لرئيس البرلمان التونسي طبقاً لما جاء في الدستور وبناءً على ما تمّ الاتفاق عليه سلفاً، عندما كانت الأغلبية مريحة و”الأمل” من الانتهاء من هذه المرحلة أقرب إلى الأفق المُعارض من غيره، بحسب رواة الـ 118 ممن وقعوا على انعقاد الجلسة.
سبب الضجة كلها، يعود إلى ما تعتبره الكتلة المعارضة: تجاوز الغنوشي للأعراف الدبلوماسيّة والاشتباه في تهمٍ بالفساد تمّ نفيها من قبله واتخاذ مواقف من الأزمة الليبيّة تمسّ بصميم الموقف الرسمي التونسي، فضلاً عمّا أسموّه بـ”سوء التنظيم في إدارته للجلسات”.

الذي حصل هو أنّ معارضيّ الغنوشي اتّهموا الفريق الآخر بالاستنجاد بالمال القطري لأجل التأثير على أصحاب 18 صوّتاً ممّن انقلبوا بين ليلة وضحاها، كما سبقَ وأنْ اتّهمَ مؤيدوّ الغنوشي أصحاب عريضة سحب الثقة بالارتهان للمال الإماراتيّ

ماذا جرى؟
الذي حصل هو أنّ معارضيّ الغنوشي اتّهموا الفريق الآخر بالاستنجاد بالمال القطري لأجل التأثير على أصحاب 18 صوّتاً ممّن انقلبوا بين ليلة وضحاها، كما سبقَ وأنْ اتّهمَ مؤيدوّ الغنوشي أصحاب عريضة سحب الثقة بالارتهان للمال الإماراتيّ!
لكن النتيجة فارقة: كتلة حرجة حسمت التصويت بالإلغاء واستفادة من سريّة الاقتراع، وصفتهم السيد سامية عبوّ بـ”الذين باعوا ضميرهم”.
ومهما يكن من أمر، وحتى وإنْ صدقت الحجتان أو جانبهما الصواب، على  ما في رواية الارتهان من مكانة لا بأس بها من المنطقيّة وقدر محسوس من التماسك، ما انفكّ يتبدّى هذه الأيام، فإنّ قطر تسجل انتصاراً على الإمارات في أرضٍ يسعى صاحبا الخصومة في أن تكون محايدة! وبالتالي فالقسمة تُضاف إلى سجل الصراع الخليجي- الخليجي، وتضطلع لأن تكون فصلاً جديداً من فصول الأزمة الخليجيّة، غير أنّه فصلٌ ناعمٌ يمكن أن يأخذهُ المنتصر على سبيل الاستئناس، بينما تصطكّ أسنان المهزوم قليلاً ثم يفترقا على أمل العثور على سببٍ آخر لفرض خيارات كلّ واحد منهما على حساب الآخر، ريثما يأتي “الأجنبي” ويحلّ النزاع بـ”الحسنى”.

شروحٌ دستوريّة سبّبت شروخاً سياسيّة
ينبغي رفع بعض اللبس القانوني حول آلية سحب الثقة وتعيين رئيس الحكومة وتشكيل الحكومات عامةً وحدود سلطات رئيس الجمهوريّة في الدستور التونسي، ويمكن اختصارها على النحو المبسّط التالي دفعاً للتعقيدات الفنية التي تكتنف هذا النوع من المواضيع القانونيّة الجافة:
بالنسبة للنظام الدستوري للدولة:
النظام في تونس هو نظام رئاسي معدّل أو شبه رئاسي، يتمتّع فيه الرئيس بصلاحيات محدودة لكنّها مهمة، بينما يبقى البرلمان من أقوى الأدوات التي تمتلك سلطة التشريع والتدخل في السلطة التنفيذيّة عبر سحب الثقة ونيل الثقة، سواءً لرئيس الحكومة أو لرئيس مجلس النوّاب.
يرغب الرئيس التونسي قيس سعيّد في تحويل النظام في تونس إلى نظام رئاسي كامل الصلاحية، كما سبقَ أن بيّنّا في خاتمة مقالٍ سابق، وصار الأمر معروفاً الآن.. فيما بدا أنّ رئيس البرلمان راشد الغنوشي أكثر التزاماً بالنظام البرلماني المعدّل، كونهُ رئيس الكتلة الأكبر في المجلس، وهو أمر منطقي للغاية في الوقت الحالي..
بالنسبة لرئيس الجمهوريّة:
أولاً: يحقّ لرئيس الجمهورية تسمية رئيس الحكومة. يتمّ بعدها عرض التشكيلة الحكوميّة على البرلمان لنيل الثقة ومستقبلها يتحدّد بهذه الثقة (هنا البرلمان يمتلك قوّة تشبه القوّة التي تمتلكها الأنظمة البرلمانيّة في العالم).
ثانياً: بمقتضى الفصل 89 من الدستور: يمكن لرئيس الجمهوريّة الاحتفاظ بحقّ تعيين وزير الدفاع ووزير الخارجيّة (هنا يبدو لرئيس الجمهوريّة الحقّ في اختيار وزيرين لحقيبتين سياديتين، وهما خارج نيل الثقة أو سحبها. يذكر هذا بالنظام الرئاسي الجامد بشكل طفيف).
ثالثاً: يمكن لرئيس الجمهوريّة إعادة تسمية رئيس حكومة جديد إذا ما قدّم استقالتهُ لهُ قبل أن تتمّ مراسيم سحب الثقة من البرلمان. (وهذا ما فعلهُ رئيس الحكومة السابق إلياس الفخاخ حتى يقطع الطريق أمام حركة النهضة، وعمل على إقالة وزرائها بعد ذلك، كون الحكومة باقية كحكومة تصريف أعمال إلى غاية إعلان حكومة جديدة درءاً للشغور الحكومي).
رابعاً: يملك رئيس الجمهوريّة سلطة حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعيّة جديدة، استناداً لنص الفصل 77 الذي ينصّ صراحةً على أنّ :”يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة. كما يتولّى:

إقرأ على موقع 180  محنة الديمقراطية من بيروت إلى تونس!

 – حلّ مجلس نواب الشعب في الحالات التي ينصّ عليها الدستور، ولا يجوز حلّ المجلس خلال الأشهر الستة التي تلي نيل أول حكومة ثقة المجلس بعد الانتخابات التشريعية أو خلال الأشهر الستة الأخيرة من المدة الرئاسية أو المدة النيابية،

– رئاسة مجلس الأمن القومي ويُدعى إليه رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب،

– القيادة العليا للقوات المسلحة،

– إعلان الحرب وإبرام السلم بعد موافقة مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه، وإرسال قوات إلى الخارج بموافقة رئيسيْ مجلس نواب الشعب والحكومة، على أن ينعقد المجلس للبت في الأمر خلال أجل لا يتجاوز ستين يوما من تاريخ قرار إرسال القوات،

– اتخاذ التدابير التي تحتّمها الحالة الاستثنائية، والإعلان عنها طبق الفصل 80،

– المصادقة على المعاهدات والإذن بنشرها،

– إسناد الأوسمة،

– العفو الخاص”.

بالنسبة للبرلمان:
أولاً: يحقّ للنوّاب تقديم لائحة سحب ثقة من رئيس المجلس لأمانة البرلمان شريطة أن تكون مكوّنةً من من ثلث أعضاء البرلمان على الأقل.
ثانياً: يمكن للأغلبية النيابيّة أن تشكل حكومة جديدة بقوّة القانون بعد سحب الثقة من الحكومة الحالية في جلسة برلمانيّة. (لهذا استقال رئيس الحكومة السابق إلياس الفخاخ قبل أن تنعقد جلسة سحب الثقة من حكومته، وفق الشروط المقرّرة في الدستور التونسي: هل كان ذلك بالاتفاق مع رئيس الجمهوريّة من أجل الإبقاء على حقه وارداً في تسمية رئيس حكومة جديدة؟ أو من أجل “تلذذّ” رئيس الحكومة “المغدور” بإقالة وزراء حركة النهضة ردّاً على نيتها بطرح الثقة به والإطاحة بحكومته لاحقاً، أمّ هما معاً؟ أرجّح الاثنين).
ثالثاً: الحقّ في التصديق على المعاهدات الدوليّة حتى تصبح نافذة، وإذا لم يتمّ ذلك، تصبح لاغيةً على الفور.
رابعاً: في حالة الحصول على الأغلبيّة النيابيّة، يكلّف رئيس الجمهوريّة “مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصّل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نوّاب الشعب، بتكوين الحكومة خلال شهر يجدّد مرة واحدة. وفي صورة التساوي في عدد المقاعد يُعتمد للتكليف عدد الأصوات المتحصل عليها”، كما نصّ على ذلك الفصل 89 من الدستور.

العلاقة بين رئيس الجمهوريّة ورئيس البرلمان ليست على ما يرام، وأفرجت الأيام عن دهاءٍ متبادل بينهما

يبدو رئيس الحكومة التونسي المكلف، هشام المشيشي، في سباق محموم مع الوقت. بمجرد أن يجاهر بنيته تشكيل حكومة كفاءات (تكنوقراط على الطريقة اللبنانية)، يتعمق الفرز السياسي ـ البرلماني أو بالأحرى الإستقطاب بين رئاسة جمهورية تريد سحب السجادة الدستورية صوبها من خلال حكومة غير سياسية، وبين رئاسة برلمان تتمسك بحكومة وحدة وطنية ذات قاعدة سياسية قادرة على إتخاذ القرارات وتترجم التوازنات البرلمانية. الوقت ليس مفتوحاً أمام المشيشي، ولكنه سيكون محكوماً كأي مكلف غيره بممر الثقة البرلمانية، اي تأمين قاعدة تأييد سياسية (برلمانية) لأية توليفة يختارها تستطيع أن تتعايش مع ولاية قيس سعيد التي تنتهي في تشرين/أكتوبر 2024.. إلا إذا كان المطلوب أيضاً صياغة عقد إجتماعي جديد تنتج عنه صيغة دستورية جديدة.

الأزمة قائمة وستتفاقم!
يتوخّى هذا العرض الكثير من الاختصار قدر الإمكان، لأنّ المسائل الدستوريّة عموماً تتطلّب شرحاً وافياً ومستفيضاً، لذلك كان الغرض هو تقصي الأهم الذي يفرضهُ مقتضى الحال في الشأن التونسي هذه الأيام، دون أن تكون النية معقودة على تجاوز هذا الحال الذي يجري في هذا البلد، وربما يهدّد بأزمة قادمة، لا سيما أنّ العلاقة بين رئيس الجمهوريّة ورئيس البرلمان ليست على ما يرام، وأفرجت الأيام عن دهاءٍ متبادل بينهما، ممّا حدا بكاتب هذه السطور إلى تقديم شروحٍ دستوريّة لما يهمّ من فصول وكفى. وما سبق أعلاهُ هو الذي أوقع الكثير من المتابعين في سوء فهمٍ حقيقي، انجرّ عنهُ التباس سياسي أدّى  بهم نتيجة التسرّع والولاء الإيديولوجي الأعمى إلى تقديم أحكامٍ سريعة غير مؤسّسَة إنْ لم نقل مضللة.

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  «تعبَ طينُك... يا مولاي».. سيرة الخال، سيرة الطين