بينما تكثف الولايات المتحدة جهودها لتوحيد الصف الكردي المنقسم في الولاء بين حزب العمال الكردستاني في العراق المعادي لتركيا وفصائل كردية أخرى موالية لتركيا، بحثاً عن حالة استقرار تضمن سلامة مصالح واشنطن، جاء حدث اغتيال الشيخ مطشر الهفل أحد أبرز وجهاء عشيرة العكيدات في دير الزور، ضمن منطقة يمتد فيها نفوذ العشيرة، ليشعل الأوضاع ويصل به إلى حدود غير مسبوقة، خصوصاً أن حادثة الاغتيال تمت في منطقة تسيطر عليها قوات “قسد” المدعومة أميركياً.
ردود الفعل العشائرية جاءت سريعة، سواء عن طريق التظاهرات التي شهدتها مناطق “قسد” أو الهجمات على مقراتها، إضافة إلى اتهام “قسد” بالوقوف وراء هذا الاغتيال، أو عدم قدرتها على ضبط مناطق سيطرتها، قبل أن تصدر “العكيدات” بياناً واضحاً يطالب الولايات المتحدة بإخراج “قسد” من هذه المناطق وتسليمها للعشائر العربية خلال مدة أقصاها شهر.
الولايات المتحدة استشعرت الخطر سريعاً، فأصدرت بياناً عاجلاً أدانت فيه حادثة الاغتيال وقدمت التعازي لعائلة الشيخ مطشر وقبيلته، كما تمنت للشيخ إبراهيم الخليل العبود الجدعان الهفل الذي أصيب خلال حادثة الاغتيال الشفاء العاجل متوعدة بتسريع وتيرة التحقيقات لتحديد الجهة التي تقف وراء الحادثة ومعاقبة الفاعلين.
البيان الأميركي، إضافة إلى إعلان لاحق نشرته صفحة السفارة الأميركية على موقع “فيسبوك” حول إحياء الذكرى السادسة للمجزرة التي نفذها تنظيم “داعش” بحق عشيرة الشعيطات، وما تضمنه الإعلان من “إقرار بالتضحيات” التي قدمتها العشائر خلال الحرب مع تنظيم “داعش”، يرسمان صورة متكاملة حول الموقف الأميركي الذي بدأ يستشعر خطر العشائر بشكل فعلي وجدي.
العشائر خلال الحرب
مرت العشائر السورية خلال سنوات الحرب العشر الماضية بسلسلة من التغييرات، بدءاً بمرحلة انحسار وانحلال إثر خروج عدد كبير من أبناء العشائر عن “طاعة” شيخ العشيرة، في ظل حالة الفقر الشديد الذي تعيشه المنطقة الشرقية، لتدخل بعدها العشائر في دوامة الانقسامات العسكرية، حيث انخرط عدد من أبناء العشائر ضمن الفصائل المسلحة المتشددة، وبينها “داعش” و”النصرة” اللذان سيطرتا على المواقع النفطية في الشرق السوري، قبل أن يخرج التنظيمان منها، خلال تلك الفترة نمت ظاهرة الاتجار بالنفط، الأمر الذي أمد قسماً من أبناء العشائر بأموال طائلة وأسلحة وذخائر.
ومع توسع الأكراد ونمو نفوذ “قسد” وسيطرتها على المواقع النفطية بدعم أميركي وتنفيذاً لمصالح واشنطن، استشعرت العشائر العربية خطراً قومياً في ظل تنامي التيارات الكردية المتشددة، إضافة إلى وجود إرث تاريخي لهذا الصراع، الأمر الذي أعاد للعشائر هيكليتها مرة أخرى، لتظهر انقسامات جديدة للعشائر (كل عشيرة شهدت هذه الانقسامات بداخلها)، حيث انحاز قسم للحكومة السورية وروسيا وقسم آخر للمشروع الأميركي، وقسم ثالث للمشروع التركي، واختار قسم آخر بناء علاقة ندية مع “قسد”، وفتح جسور التواصل مع الحكومة السورية وروسيا دون قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
ويمثل الشيخ مطشر الهفل الذي تم اغتياله أحد أبرز وجهاء العشائر الذين حافظوا على علاقة ندية ومتوازنة، حيث رفض فرض اللغة الكردية لغة رسمية للتعليم في المدارس، كما رفض التفرد الكردي في المشهد السياسي، إضافة إلى أن علاقته بدمشق وروسيا كانت متوازنة وغير منقطعة.
ووسط هذه الانقسامات، يرى مصدر عشائري تحدث إلى “180” أن الحكومة السورية وروسيا تمتلكان ثقلاً كبيراً في التوازن العشائري حيث تميل العشائر الأكبر للحكومة السورية، في ظل تنامي النفوذ الكردي من جهة، والنفوذ التركي من جهة أخرى، الأمر الذي قد يفسر ردة الفعل الأميركية العاجلة، خصوصاً أن المعاقل الرئيسية لهذه العشائر تقع في المناطق النفطية، ما يعني أنها يمكن أن تشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الأميركية.
وعن القوى العشائرية المنحازة لـ”قسد” والتي تشارك في “الإدارة الذاتية”، رأى المصدر أن التمثيل العشائري في “الإدارة الذاتية” هو تمثيل صوري للاستهلاك الإعلامي، مستشهداً بسلسلة الاغتيالات والاعتقالات المتواصلة التي شهدتها هذه العشائر على يد “قسد” خلال الفترة الماضية. وبحسب المصدر فإن “القوى العشائرية المنحازة لتركيا لا تتمتع بثقل حقيقي على الأرض في الشرق السوري”.
يبدو أن المشروع الأميركي في الشرق السوري يواجه تحدياً قد يكون الأبرز منذ دخول القوات الأميركية إلى سوريا، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات عدَة تتقاطع جميعها عند نقطة “عودة نجم العشائر”
مخاوف أميركية
تتزامن التطورات الأخيرة مع توسع نفوذ روسيا في الشرق السوري الأمر الذي رأت فيه الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها، وردت عليه بإعادة تمركز في مواقع عدة، كما تتزامن مع توقيع أول عقد نفطي بين “قسد” وشركة نفطية أميركية محدثة ذات طابع أمني، كأول خطوة أميركية مباشرة لاستثمار النفط السوري.
وتخشى الولايات المتحدة أن تساهم هذه التطورات باستعادة إرث العداء التاريخي بين العشائر العربية والولايات المتحدة، خصوصاً أن قسماً كبيراً من أبناء عشائر الشرق السوري شاركوا في الحرب ضد الغزو الأميركي للعراق الأمر الذي قد تعيده إلى الواجهة الأحداث الأخيرة إذا ما تم ربطها بالنمو الكبير للقوى الكردية في مناطق نفوذ العشائر.
كذلك تخشى الولايات المتحدة من استثمار روسيا لهذه التطورات وتوسيع دائرة الاتصال بينها وبين العشائر، ما قد يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الأميركية، الأمر الذي ردت عليه واشنطن بإرسال تعزيزات عسكرية إلى ريف دير الزور، إضافة إلى التعهدات التي قدمتها للتحقيق في حادثة الاغتيال.
وتخشى الولايات المتحدة الأميركية أيضاً أن تستثمر إيران هذه التوترات لزيادة نفوذها في المنطقة، واقترابها من مواقع “حساسة” بالنسبة لواشنطن، خصوصاً أن قسماً من العشائر في المناطق الشرقية من سوريا تتمتع بعلاقات جيدة مع إيران.
في غضون ذلك، دعا شيخ عشيرة “البكارة”، نواف البشير، إلى تشكيل قوات وهيئة سياسية للقبائل السورية، ودعمها بالسلاح من قبل الحكومة السورية لمواجهة “قسد”، وذكر في تصريحات صحافية له أن العشائر السورية يمكن أن تبدأ بحرب لتحرير منطقة شرق الفرات، وذلك بالتنسيق بين القبائل والحكومة السورية والجيش السوري.
وتتقاطع التصريحات الأخيرة لشيوخ العشائر مع موقف دمشق من الوجود الأميركي غير الشرعي في سوريا، إذ تعوّل الحكومة السورية على الموقف الشعبي الرافض للوجود الأميركي من جهة، وظهور حركات مقاومة في تلك المناطق تعمل على طرد الجيش الأميركي بدلاً من خوض معارك مباشرة غير متكافئة، من جهة أخرى.
وأمام هذه التطورات المتواصلة، والإنذار الواضح الذي وجهته العشائر لواشنطن ضمن مهلة زمنية محددة، يبدو أن المشروع الأميركي في الشرق السوري يواجه تحدياً قد يكون الأبرز منذ دخول القوات الأميركية إلى سوريا، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات عدَة تتقاطع جميعها عند نقطة “عودة نجم العشائر” ليبقى استثمار هذه العشائر خاضعاً لموازين القوى وصراعاتها وما ترافقها من تطورات سياسية وعسكرية، إضافة إلى مدى تمسك واشنطن بالأكراد ومشروعهم الذي يواجه بدوره تحدياً كبيراً.