الحريرية بين الأب والإبن: إنها السعودية يا عزيزي (2)

لا تستوي سوية المقاربة والمقارنة بين الحريري الأب والحريري الإبن إلا بقراءة الحريرية وأطوارها من التأسيس حتى الوراثة.

عندما إحتل رفيق الحريري المشهد السياسي، كانت قد تلاشت معظم البيوتات السنية السياسية. هذا التلاشي تدرج طوال عقد الثمانينيات. من بقي صامداً، كان لا بد أن يختار بين الإلتحاق أو الإقصاء. زدْ على ذلك تراجع حضور ودور المرجعية الروحية لهذه الطائفة منذ إغتيال المفتي الشهيد حسن خالد. هي تجربة جديدة غير مسبوقة من زمن الإستقلال. رأى فيها البعض مجرد تنويع على تجارب سابقة من قبيل المارونية السياسية أو ما يشاكلها من تجارب. صورة السياسي القادم من مرحلة أفول حقبة الحرب وولادة اتفاق الطائف، بدت مستفزة للبعض ومثيرة لشهية البعض الآخر.

اصطدمت محاولات خصوم الحريري الأب بواقع لا يمكن إنكاره مفاده أن الرجل ليس من أثرياء الحرب، او الذين جمعوا ثرواتهم انطلاقا من اقتصاد الحرب، فالرجل كان قادماً من عالم آخر يناقض كل وجوه السياسة التقليدية اللبنانية الذين استمر حضورهم بعد نهاية الحرب إنطلاقا من “إستيعاب” نتائجها.

كنا أمام رجل أعمال لبناني عربي سعودي صاحب طلة اوروبية ودولية ومصدر غواية نخب لبنانية. لذا كان من الصعب تركيب صورة تدرج الحريرية السياسية في إطار محلي بحت. هكذا تمركز الهجوم عليها عبر تركيب صورة تفصلها عن السياسة، وتجعلها مجرد مشروع اقتصادي نيوليبرالي متوحش لا يبالي بهوية البلد، ويعمل على إعادة إنتاج ملامح مدينة بيروت بشكل لا يراعي تاريخها ولا حاضرها، بل يعنى بشكل خاص بمدى ملاءمتها مع معايير عالمية تجعلها شبيهة بالمدن الكبرى المفتوحة على كل التجارب.

شارك في صناعة هذا المشهد خصوم الحريري، وبينهم مثقفون علمانيون ويساريون حرصوا على نفي السياسة عن مشروع الحريري (ما عدا قلة ربطته بمشروع السلام العربي الإسرائيلي) وحصره في “التغول الاقتصادي”. واقعاً، كانت الحريرية في بدايتها مفتقدة للتبلور ولكنها لم تكن أبدا مفتقدة للوضوح. فالرجل جاء من عالم إعادة الاعتبار لموقع السلطة التنفيذية الممنوحة لرئاسة الحكومة “السُنية الهوية والهوى”، ولدورها الناظم لكامل العملية السياسية في البلد، ومن قلب خريطة توازنات مرعية عربياً ودولياً، تمنح البلد فرصة استقرار ونمو على الرغم من كل تعقيدات العلاقات بين مكونات المشهد اللبناني وتعقيدات الإقليم.

في ظل هذا الواقع، عمد رفيق الحريري إلى الاستفادة من كتلة الوقائع الصلبة التي تصب في صالحه، فكان حريصاً على الرد على خصومه بتثبيت الحضور السياسي لمشروعه، بحيث لا تعود الحريرية السياسية مجرد خطاب للخصوم، بل وصفة بكل معنى الكلمة. العناصر الأساسية لخطاب الحريرية السياسية، كما رسمها الأب تتلخص في التأكيد على ما أرساه اتفاق الطائف من توازنات وتفاهمات وتوزيع للسلطات، والحرص على بناء أفضل العلاقات مع سوريا ومع المحيط العربي، والحفاظ على علاقات لبنان الدولية. يضاف إلى ذلك تفعيل دور القطاع الخاص، تحقيق النمو، تفعيل وتحديث دور مؤسسات الدولة ووصلها بالمكننة والتكنولوجيا. كان الحريري الأب يبدو على الدوام انه رئيس حكومة الأغنياء، وهذا ما أصاب منه مقتلاً سياسياً وشعبياً، لكن خصومه لم يُفلحوا في الاستثمار السياسي الحاذق ضده، وغالباً ما بدوا شعبويين، بينما كان اليسار منكفئاً على أزماته الفكرية والبنيوية.

جاء رفيق الحريري إلى سدة رئاسة الحكومة مرفوعاً على أكتاف الأزمة الاقتصادية والمالية التي أطاحت بحكومة عمر كرامي عام 1992، وكانت الصورة التي حاول الصاقها بنفسه هي صورة المنقذ ورجل الأعمال والمشاريع المدعوم سعوديا ودوليا

كان رفيق الحريري يفترض ان اتفاق الطائف قد سجل نهاية رسمية للحرب لا بد ان تستتبع حكما بنهاية سوسيولوجية وسيكولوجية اعتبر نفسه ضمانتها ومنتجها. مشهد الإعمار الباذخ لوسط المدينة لا بد أن يكون اقتلاعا للذاكرة الحربية وبناء لمشروع لا يعنى اساسا بالذاكرة بل يقدم نفسه بوصفه حاضرا مستمرا، ويعاد إنتاجه على الدوام من خلال العلاقة الوثيقة بحاضر العالم وزمنه.

لم يكن التفريق ممكناً عملياً بين الحريري كرئيس للحكومة وبين الحريري كمقاول ورجل أعمال كبير. إستجلب الرجل التمويل اللازم. رشّ جملة من الرشاوى الضخمة لمعظم الطبقة السياسية مقابل عدم تعطيل مشروعه الإعماري، لذا بدا الإعمار منذ بدايته وكأنه بمثابة مشروع مدفوع ثمنه سلفا. كان الحريري ضيّق الصدر إزاء اي معارضة له ولمشروعه الإعماري. ولكن الفرق في تقدير الأمور كان جليا اذ كان يعتبر أنه اشترى الاقتناع ولو بالرشوة، في حين كان الآخرون يعتبرون أنه يدفع مقابل تسيير مشروع خاص به لا يحمل أية صفة عامة.

لقد جاء رفيق الحريري إلى سدة رئاسة الحكومة مرفوعاً على أكتاف الأزمة الاقتصادية والمالية التي أطاحت بحكومة عمر كرامي عام 1992، وكانت الصورة التي حاول الصاقها بنفسه هي صورة المنقذ ورجل الأعمال والمشاريع المدعوم سعوديا ودوليا، ولكن تلك الصورة في افقها العربي أسفرت عن حالة من التناقض والاضطراب.

تعود أبرز اسباب هذين، التناقض والاضطراب، إلى أن الدعم الخليجي والغربي كان يصب في صالح مشروع البلد الواحة، الذي اتخذ مسميات عديدة من قبيل مشروع الدولة والاعتدال، ولكن الامور كانت تجري في إتجاه آخر ومغاير لأن منطق البلد الواحة كان يتضمن في داخله شكلا خلافيا. النموذج الذي يقترحه كان لا يتطابق مع المجتمعات العربية الممولة وينحى صوب نموذج غربي الملامح، ما يهدد بتحوله إلى مشروع واحة خاصة تستقدم نموذجا خلافيا لتبيعه للعالم، بغض النظر عن مدى ملاءمته للواقع وتطابقه مع الظروف المحيطة.

هكذا كان “البعد الخليجي” في الحريرية السياسية حاضراً بقدر ما كان غير واقعي في آليات عمله، فالعروبة نفسها التي تؤمن الارتباط بالسعودية وتمهد طريق الانفتاح والتواصل مع الغرب، كانت تتطلب تركيب تفاهمات مع العروبة بصيغها البعثية والناصرية وغيرها، وبذلك كانت صيغة العروبة المتضمنة في مشروع الحريرية هي عروبة الواحة والساحة في الآن نفسه (النموذج نفسه ينطبق على المعادلة التي حاول رسمها مع السيد حسن نصرالله: لكم المقاومة ولي الإقتصاد).

رفيق الحريري بمعناه السلطوي (رئاسة الحكومة والتحكم بمصير البلد السياسي) هو الحريرية السياسية، لا أكثر ولا أقل. عند إغتياله، لم يسقط الشخص وحسب بل سقط كل ما يمثله وما كان يريد أو يُراد له أن يكون. سرعان ما اتضح أن الإبقاء على هذا المشروع حياً يتضمن ضرورة الاعتراف بأن الحريري قد اغتيل، بمعنى فك الارتباط بين الحريرية وشخص رفيق الحريري، والنظر اليها كمشروع مفتوح يحتمل التعديل والحذف والإضافة. من هنا كان لا بد من التعامل مع إرث رفيق الحريري كصيغة سياسية في حين كانت الجماهير تنظر اليه كبنية تاريخية أو كزمن طوباوي يجب العودة الدائمة إليه.

إقرأ على موقع 180  "شبل بانشير" إلى ترويض طالبان أم مقاومتها؟

على هذه الصورة، جاء سعد الحريري الإبن الى مشهد السلطة من باب الوراثة. لكن هذه الوراثة انحصرت في الوراثة البيولوجية. هو لم يرث المكانة ولا القدرات ولا الدور. كان همه الاول قبل كل شيء اثبات قدرته على حفظ ارث الحريرية وصيانتها. ومنذ بداية صعوده واجه الحريري الإبن مشكلة كبيرة، تتمثل في التوفيق بين متطلبات دخول الشأن العام وتولي رئاسة الحكومة خلفا لفؤاد السنيورة ووارثاً لرفيق الحريري وبين متطلبات إعادة إحياء الحريرية والحفاظ على إرثها.

لكن مع التفاهم الذي ابرمه سعد الحريري مع التيار الوطني الحر وحزب الله، ضاقت الحريرية وصارت مجرد صيغة بقاء في السلطة مهما كان العنوان والإطار. باتت تعمل من قلب الكارثة بينما كان خطابها التأسيسي يقوم على زعم صناعة البلد التي ما عادت قيامته إلا حظاً وليس احتمالاً. هكذا صار الفارق كبيرا بين البقاء على قيد السلطة كما في تجربة سعد الحريري وبين أن تكون احد مصادرها، كما كان الحال مع الحريري الأب.

كان رفيق الحريري أباً ممسكاً بزمام العائلة ومالها وأملاكها وايقاعها. لكن “أهل البيت” تشتتوا بعد اغتيال الاب. صار كلٌ يغني على ليلاه. بقي سعد وحده حاملاً للارث والعباءة، مصحوبا بأثقال حمل أهل السنة. منذ اغتيال الأب لم يأت أحد من أفراد عائلته الى لبنان. لم يعرفوا ضريحه

كان رفيق الحريري أباً ممسكاً بزمام العائلة ومالها وأملاكها وايقاعها. لكن “أهل البيت” تشتتوا بعد اغتيال الاب. صار كلٌ يغني على ليلاه. بقي سعد وحده حاملاً للارث والعباءة، مصحوبا بأثقال حمل أهل السنة. منذ اغتيال الأب لم يأت أحد من أفراد عائلته الى لبنان. لم يعرفوا ضريحه. نازك الحريري تخلّت عن مؤسسة الحريري ومكتب المساعدات تاركةً العبء المالي على سعد الحريري. هند الابنة باعت المدرسة العريقة. فهد باع مبنى جريدة “المستقبل” من دون علم شقيقه. عقارات الرملة البيضاء دخلت في دائرة الالتباس والأسئلة. تلفزيون المستقبل ذوى بعما توقف المال السياسي السعودي. جزء وازن من تلاشي الحريرية كان سببه الصراع داخل العائلة. الجشع كان سبباً من أسباب انهيار الكثير من المؤسسات. وسط هذه المرآة المحطمة، استفاق بهاء الحريري على أن ضريح والده يقع في ساحة الشهداء قرب مسجد محمد الامين. فجأة صار للإبن البكر قيادي ميداني ومسؤول اعلامي وتنسيقيات. نسي أنه ذات يوم صرخ بالمفجوعين باغتيال والده طالباً من “القوم ان يدفنوا هذا الرجل”. مَنْ سمعه آنذاك، استعاد في مخيلته فيلم “الرسالة” للمخرج الكبير مصطفى العقاد.

واستفزازاً للإبن، يمكن بالطبع الثناء وكيل المديح للأب على انجازاته. وهذا في كل الاحوال بسبب فراغات الحاضر. وغالباً يكون المديح بلا قراءات أو في اطار الشعبويات لكن ما لا يجب أن يسقط من البال هو أن نجاح الأب كان جزءاً من تركيبة سياسية شرق اوسطية، بدأت باتفاق سعودي سوري اميركي وانتهت بنفوذ سوري آحادي، قبل أن يحتل جورج بوش الإبن العراق ويصبح جار سوريا ولبنان ويقرر وصفته التي تنهي التعايش القائم بين هونغ كونغ وهانوي.

مجدداً، من الظلم المقارنة بين الحريري الاب والحريري الابن. فلا لبنان الامس يشبه لبنان اليوم. ولا سوريا الأمس تشبه سوريا اليوم. ولا السعودية ماضياً تشبه ما عليه حاضراً. ولا الولايات المتحدة جورج بوش الأب والإبن تشبه أميركا دونالد ترامب. وقبل كل هذا وبعده هناك النفوذ الإيراني الذي كان شريكاً بمعنى ما وصار راهناً مقرراً وحاسماً. طريق الأب كان يبدأ في عنجر ويمر في دمشق ولا ينتهي في الرياض. أما الإبن، فحدود عالمه تتأرجح بين اتصال مع فرنسا ورسالة “إس إم إس” مع جارد كوشنير، وبين تواصل مع خليلي حركة أمل وحزب الله.

استفاد الأب من تحالفه مع النظام السوري. وكذلك من غياب الدور المسيحي التقليدي في زمن الوصاية. ونجح في شبك علاقات وتحالفات داخل الطائفة المسيحية. أما الإبن ومع صعود “حزب الله” وعودة ميشال عون من المنفى وخروج سمير جعجع من السجن، فقد راح يخسر نفوذ الحريرية السياسية. أكثر من ذلك، فقد صار هدفاً يومياً لغلاة المارونية السياسية.

 كان الاب يُقدم على تسويات وصفقات منطلقاً من ارضية قائمة على الربح والخسارة. أما الابن، فقد فلجأ الى تسويات قائمة على تخمينات وبساطة سياسية. فعل ذلك لأنه كان يحاول النجاة من سهام الأقربين قبل الابعدين. حاصرته السعودية بعد مجيء محمد بن سلمان. وحاصرته طائفته، بعد كثرة الطامحين الى المناصب والادوار. بات كل شخص يعتبر نفسه وريثا للحريري الاب، من فؤاد السنيورة إلى نهاد المشنوق. من أشرف ريفي الى صلاح سلام. من رضوان السيد إلى أحمد فتفت. من جمال الجراح إلى أبو العبد كبارة.

سعد الحريري صار هدفاً وعرضة للسكاكين من الأقربين والأبعدين: الانقلاب عليه يوم كان في البيت الأبيض، الاغتيالات، انهيار امبراطوريته المالية، الثورة السورية وتحولها الى حرب بين دولة ومجموعات إرهابية، قضية السجناء الاسلاميين في رومية، تنامي “الخط الجهادي” عند أهل السنة، ظاهرة أحمد الأسير والويلات التي استجلبها. لم يبق شيء مع سعد الحريري إلا بقية جمهور وقلة من المستشارين.

هذا المشهد، يفرض أخلاقياً إعادة صياغة الأسئلة والمقارنة على الشكل التالي: ماذا لو كان رفيق الحريري في زمن ولي العهد محمد بن سلمان؟ ماذا لو كان سعد الحريري في زمن الملك فهد بن عبد العزيز؟…

إنها السعودية يا عزيزي!

(*) جلباب الحريرية الضائع: سعد بماذا يشبه رفيق (1)؟

https://180post.com/archives/12491

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  السعودية وإيران إن إختلفتا.. لبنان يستعر!