هشاشة مبادرة وقف إطلاق النار في ليبيا تأكدت منذ يومها الأول، ليس فقط بسبب صعوبة التوصل إليها وتنفيذها دون خروقات، لكن لأن توقيت فرضها من قبل الأطراف الإقليمية على الوكلاء الليبيين قد سارع من وتيرة صراع داخلي في كل من طرابلس وبنغازي، وهو ما يفاقم من عوامل انهيار التهدئة ميدانياً، واستمرارها إعلامياً ودبلوماسياً في المدى القريب بين الأطراف الإقليمية والدولية وعلى رأسها القاهرة وأنقرة، اللتين باتتا تستبعدان الصدام المباشر والمفتوح، وتفضلان العودة إلى خانة الحروب بالوكالة كبديل عملي عن تجميد الموقف إلى أن يُحسَم أميركيا.
وبخلاف أن عامل الانتخابات الأميركية وموقف واشنطن من صراع حلفائها في المنطقة بشكل عام، وفي ليبيا بشكل خاص، قد ارجأ سيناريو الصدام العسكري المباشر بينهم في ليبيا، فإن الملف الليبي يتذيل أولويات أجندة القوى الدولية الفاعلة في المنطقة في الوقت الراهن لحساب ملفات وقضايا أخرى، آخرها صراع شرق المتوسط، والذي تشكل ليبيا –في أفضل الأحوال- باحة خلفية له، وبديل الضرورة للصدام العسكري المباشر المحتمل حدوثه إثر اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية المتعددة والمتغيرة في السنوات الأخيرة، والتي باتت في مرحلتها الأخيرة، وتحديداً تلك الخاصة باليونان وقبرص، والتي دفعت بالتوتر العسكري بين أعضاء الناتو والقوى الأوروبية إلى حدود غير مسبوقة شملت مناورات ومناوشات بحرية.
ولكن على المستويين المحلي (الليبي) والإقليمي، فإن التهدئة الأخيرة لم تنعكس على أرض الواقع كما صورها إعلام مختلف الأطراف، بل يمكن وصفها بأنها مجرّد هدنة تستهدف إعادة ترتيب الصفوف وتغيير الخريطة السياسية في ليبيا استعداداً للفترة القادمة التي تتبلور ملامحها -نظرياً- انطلاقاً في إنهاء ثنائية طرابلس وبنغازي، واستبدالها بمؤسساتية دولتية بعيدة عن فوضى المليشيات التي باتت تتحكم شرقاً وغرباً في القرار السياسي سواء لحكومة طرابلس أو برلمان طبرق.
بهذا المعنى، فإنّ مبادرة وقف إطلاق النار تشي بواقع جديد عنوانه استئناف النزاع الأهلي المدعوم من الخارج، وتشظيه شرقاً وغرباً إلى صراعات على حماية المكاسب والمناصب لشريحة المتصدرين للمشهد في ليبيا منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي.
التهدئة تستهدف تغيير الخريطة السياسية في ليبيا استعداداً للفترة القادمة التي تتبلور ملامحها انطلاقاً في إنهاء ثنائية طرابلس وبنغازي، واستبدالها بمؤسساتية دولتية بعيدة عن فوضى المليشيات
وعلى عكس مناخ الترحيب الدولي والإقليمي والأممي الخاص بمبادرة وقف إطلاق النار في ليبيا، فإنه على مستوى محلي قوبلت هذه المبادرة بتوجسات وتخوفات متنوعة لم تقتصر على التناطح بين طرابلس وبنغازي، التي بات متصدرو المشهد فيها يخشون من الإطاحة بهم لانتفاء الحاجة إليهم في مدى التهدئة القريب بخلاف اختلاف أولويات شركاء الصراع في ليبيا على الجهتين، خاصة أن توقيت وقف إطلاق النار قد أتى على غير رغبة الفرقاء الليبيين الذي شكلوا مشهد ما بعد الإطاحة بنظام القذافي، واستشعارهم ميل بعض الأطراف الإقليمية والدولية لإعادتهم كطرف ثالث يكسر ثنائية السراج-حفتر، اللذين على الرغم من العداوة بينهما وبين يمثلونهما، إلا أنهم متفقين على عدم عودة المكونات السياسية والاجتماعية التي أقصيت منذ العام 2012.
في الشرق، يتخوف خليفة حفتر من تنحيته وتقليص نفوذه لصالح رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، الذي بات الطرف الفاعل الرئيسي هناك، بعد بعد الاخفاقات العسكرية المتكررة للمشير منذ العام الماضي، ناهيك عن غياب رؤية سياسية له تخص مستقبل ليبيا تخرج عن حدود طموحه الشخصي، بعكس عقيلة صالح وما يمثله من صيغة تشاركية ممثلة في برلمان طبرق، تتفاعل مع خريطة الطريق المستقبلية التي باتت تميل إلى الرؤية المصرية المتمثلة في إعلان القاهرة، والتي أتت المبادرة الأخيرة انطلاقاً منها، وعلى أساس بدء مسار سياسي ينهي الدور الوظيفي لظاهرة حفتر التي باتت حتى فاعليتها العسكرية موضع تشكيك مؤخراً.
أما في طرابلس فسرعان ما فَجرت التهدئة تناقضات العلاقة بين حكومة السراج والميلشيات التي من المفترض أنها تابعه لها؛ فالتظاهرات والاحتجاجات بدواعي مختلفة التي اندلعت في اعقاب إعلان وقف إطلاق النار، وما أعقبها من قمع وتنكيل بمن شاركوا فيها على يد ميلشيات مؤتمرة بأمر وزير الداخلية في حكومة طرابلس، فتحي باشاغا، قد أفضت إلى إيقاف الأخير عن العمل تمهيداً لمسائلته والإطاحة به، كإشارة إلى انفتاح السراج على صيغة تشاركية مع الأطر السياسية والقبلية المحسوبة على نظام القذافي، وفي نفس الوقت ابتعاده عن سيطرة الميلشيات كضمانة شبه وحيدة لاستمراره.
ولا تتوقف مجريات الصراعات في كل من شرق وغرب ليبيا عند ثنائيات الاستقطاب السياسي والهوياتي التي تستقوي بأطراف خارجية لا تتعاطى مع الوضع هناك إلا من زاوية أن الأخيرة مجرد حلقة من حلقات صراع أكبر بين محاور المنطقة أو بين قوى دولية وأوربية في ما يخص صراع شرق المتوسط، وهو ما انعكس على التهدئة، وجعل صمودها وتطويرها لتجنب استئناف القتال أمراً مشكوكاً فيه منذ يومها الأول، بحيث باتت مجرد إعادة انتاج لسلسلة من اتفاقات التهدئة ووقف إطلاق النار على غرار ما يجري في سوريا، لكن دون الوصول إلى طاولة مفاوضات لا بين الأطراف المحلية ولا بين القوى الإقليمية والدولية الراعية لهم.
هنا نجد أن التسويف والإرجاء من مختلف أطراف الأزمة الليبية في الوصول إلى طاولة مفاوضات، سواء لوضعية ليبيا الهامشية بالنسبة للقوى الكبرى المشتبكة في صراع شرق المتوسط، أو بالنسبة لصراع المحاور في المنطقة، وانشغال واشنطن لدواعي الانتخابات والأزمات الداخلية هناك، سيساهم في تشظي الصراعات في ليبيا وسيفجر تناقض أولويات التحالفات والشراكات الإقليمية والدولية في الساحة الليبية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الخلافات في طرابلس بين مختلف المكونات السياسية والعسكرية تمتد إلى اختلاف الأولويات والتوقيت بين الدوحة وأنقرة، ما ينعكس على وكلائهما الذين باتوا في حالة من التنافس للتكيّف مع المتغير التركي منذ بداية العام الحالي، وذلك على حساب قادة الميلشيات المسلحة في طرابلس وفي مدينة مصراتة-وخاصة الإسلاموية منها- والذين تصدروا المشهد منذ العام 2012 باعتبارهم قادة “الثورة” على نظام القذافي، وقد باتوا الآن بين مطرقة التسوية السياسية التي ستعزلهم عن المشهد، وبين سندان انفتاح السراج على إشراك المكونات الاجتماعية والقبلية التي أقصيت على مدار السنوات الثماني الماضية في العملية السياسية مستقبلاً.
وبشكل عام فإن تضارب الأولويات بين شركاء الجبهة الواحدة في الساحة الليبية سيفضي إلى عملية إحلال وتبديل في الولاءات والانتماءات خاصة إذا لم يستأنف القتال من جديد بين طرابلس وبنغازي، وما قد ينتج في حال عدم حدوث ذلك سريعاً من انشقاقات وخاصة في الأولى، حيث أن الكباش الدائر حالياً بين مكونات حكومة السراج وقادة الميليشيات سيكون الحسم فيه للطرف الذي سيتوجه له الدعم التركي الذي بات له شبه اعتراف بحكم الأمر الواقع، فيما تفعيله رسمياً وشرعنته في يد حكومة السراج، التي باتت في صراع بين أعضائها كجزء من عملية شد العصب التي تمارسها أنقرة لضمان استمرار هيمنتها على قرار طرابلس في ما يخص تسوية الوضع الداخلي في ليبيا في المستقبل القريب.