قد يظن البعض ان السلوك العنصري للرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال مؤتمراته ومقابلاته الصحافية وتغريداته على وسائل التواصل الاجتماعي، لا تعدو كونها مجرد تعبير عن انتهازية سياسية يجيد اتقانها، غير ان تاريخه يروي لنا حكاية رجل كانت حياته، وما زالت، حافلة بالمآثر والمواقف العنصرية.
غني عن التعريف، ان الرئيس الأميركي الحالي اشتهر باستخدام المفردات العنصرية وتحقيره للاعراق الملونة، من دون ان يقيم اي وزن او اعتبار لتشظي صورته الشخصية وكيانه المعنوي عبر اتهامه بالخروج عن اصول اللياقة اثناء مخاطبته الآخرين في الداخل والخارج.
الغوص في سيرة هذا الرجل يقودنا إلى حقيقة صادمة مفادها ان التمييز والعنصرية اللتين تطبعان شخصيته هي ارث اجتماعي وثقافي عائلي يحمله بالوراثة، ولا ينفصل عن النظرة الدونية إزاء اعراق واجناس واثنيات من غير البيض، ما يعزز الاعتقاد ان هذا الرئيس مفطور على العنصرية وتشرّب أدبياتها منذ نعومة اظافره، وهذا ما ذكرته صحيفة “نيويوك تايمز” في مقالة لها في العام 2016، حين أشارت إلى أن “السياسات التمييزية التي نشأ عليها دونالد ترامب انما سبقه اليها والده”، اي انها متجذرة في عائلته. وأوضحت أنه في العام 1927، ألقي القبض على والد الرئيس الاميركي فريد ترامب، لاشتراكه في تظاهرة نظمتها حركة “كو كلوكس كلان” العنصرية البيضاء في ذكرى يوم النصر الأميركي.
لطالما تفاخر ترامب بانتمائه الى أمّة يصفها بـ”العظيمة”، وأنه نهل من معتقدات المؤسسين الذين بنوا امجاد امبراطوريتهم ونفوذها ومستعمراتها وعلاقاتها وقوتها واقتصادها وامنها ورفاهية شعبها على جماجم الهنود الحمر والافارقة الذين لا يزالون يعانون حتى يومنا هذا من عنصرية المستعمرين.
في ثمانينيات القرن الماضي، نقلت صحيفة “نيويوركر” عن عامل كازينو سابق لدى ترامب، يدعى كيب براون قوله “عندما جاء دونالد وإيفانا إلى الكازينو، امر المديرون جميع الموظفين السود بالابتعاد جانبا. لقد وضعونا جميعًا في الخلف”. لاحقاً تم تدفيعه غرامة قدرها 200.000 دولار
خلال حملته الانتخابية، جاهر ترامب مراراً بتصريحات عنصرية، بدءا من وصف المهاجرين المكسيكيين بالمجرمين والمغتصبين، مرورا باقتراح حظر دخول جميع المسلمين إلى الولايات المتحدة، وصولا الى وصفه القاضي غونزالو كورييل، المولود في الولايات المتحدة لأبوين مكسيكيين، بانه يعاني من مشكلة “تضارب مصالح”، لانه “من اصل مكسيكي” وعضو في “جمعية القضاة الناطقين بالاسبانية”.
يسري ذلك على تعامله مع جائحة كورونا. أطلق تعبيرات مثل “الفيروس الصيني” و”إنفلونزا الكونغ”، وهي مصطلحات عنصرية تنهل من خطاب كراهية الأجانب الذي استحوذ عليه خلال حملته الرئاسية الأولى في العام 2016.
وغداة اختيار المرشح الرئاسي الديموقراطي جو بادين كامالا هاريس نائبة له، المح ترامب في خطاب له إلى أن هاريس، “لا تفي بالمتطلبات” للترشح لمنصب نائب الرئيس، وهو تكرار لنظرية “مؤامرة بيرثير” التي استمر في إدارتها ضد الرئيس السابق باراك أوباما، مدعياً كذباً أنه لم يولد في الولايات المتحدة وشكك في شرعية شهادة ميلاده. وقال ترامب “ولد أوباما في هاواي”، غير ان اوباما ما لبث ان ابرز شهادة ميلاده التي فضحت ادعاءات ترامب.
كانت المرة الأولى التي برزت فيها صورة ترامب على صفحات “نيويورك تايمز”، في العام 1973، عندما رفعت وزارة العدل في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون دعوى قضائية ضده والده فريد، بسبب التمييز المنهجي ضد السود في إيجارات المساكن. كان ترامب، آنذاك، رئيسًا لشركة عقارات العائلة، حيث جمعت الحكومة أدلة دامغة على أن الشركة تتبع سياسة تمييز ضد السود، بمن فيهم أولئك الذين يخدمون في الجيش الأميركي. ومن أجل إثبات تهمة التمييز بحق ترامب، تم ايفاد بعض الرجال “السود” عدة مرات كمخبرين إلى مباني ترامب السكنية للاستفسار عن الشقق الشاغرة. وبعد فترة وجيزة، أرسل عدد من الرجال البيض كمخبرين ايضا بشكل متكرر. وهنا كانت المفاجأة، إذ جرى إخبار الشخص الأسود أنه لا شقق للإيجار، بينما عُرضت على المخبر الأبيض شقة للإيجار الفوري.
أوضح مشرف على مبنى سابق يعمل لدى عائلة ترامب، أنه طُلب منه كتابة حرف “C” عند تعبئة أي طلب لـ”شخص أسود”، ومن الواضح أن المكتب عندها سيعرف من الحرف لون الرجل وسيرفضه. وليس بعيدا عن ذلك، قال وكيل تأجير تابع لشركة ترامب، إن عائلة ترامب أرادت التأجير فقط “لليهود والمسؤولين التنفيذيين”، كما أنها لم تشجع على تأجيرها للسود.
المضبطة الثانية في سجل ترامب الاسود، سُطرت في العام 1989، حين فجّر حقده العنصري على المواطنين السود، اثر تعرض مدينة نيويورك للاضطراب بسبب قضية “Central Park jogger”، بعدما تم اتهام أربعة مراهقين سود ومراهق لاتيني واحد بمهاجمة واغتصاب شابة بيضاء. آنذاك تدخل ترامب، وندد بدعوة رئيس البلدية في ذلك الوقت إد كوخ للسلام، واشترى إعلانات على صفحة كاملة تطالب بعقوبة الإعدام للمراهقين الأربعة. لاحقاً، جرى إبطال إدانات المراهقين بعدما أمضوا ما بين 7 إلى 13 عاماً في السجن، ودفعت حينها المدينة 41 مليون دولار كتسوية للإفراج عن المراهقين. لكن ترامب قال في تشرين الأول/أكتوبر 2016 إنه ما زال يعتقد أنهم مذنبون، على الرغم من أن أدلة الحمض النووي تشير إلى عكس ذلك.
السلوك العنصري رافق ترامب خلال عمله في عالم “الكازينوهات”، ففي ثمانينيات القرن الماضي، نقلت صحيفة “نيويوركر” عن عامل كازينو سابق لدى ترامب، يدعى كيب براون قوله “عندما جاء دونالد وإيفانا إلى الكازينو، امر المديرون جميع الموظفين السود بالابتعاد جانبا. لقد وضعونا جميعًا في الخلف”. لاحقاً تم تدفيعه غرامة قدرها 200.000 دولار.
وفي العام 1991، تحدث كتاب لجون أودونيل، الذي كان رئيسا لفندق وكازينو ترامب بلازا في أتلانتيك سيتي، عن انتقاد ترامب لمحاسب أسود متوجها اليه بالقول: “الرجال السود يعدون أموالي. أكره ذلك. النوع الوحيد من الأشخاص الذين أرغب في أن يحتسبوا أموالي هم الرجال القصيرون الذين يرتدون yarmulkes كل يوم. أعتقد أن الرجل كسول. وربما هذا ليس خطأه، لأن الكسل سمة لدى السود. إنه حقًا، أعتقد ذلك. إنه ليس أي شيء يمكنهم السيطرة عليه “. وكتب أودونيل أنه لعدة أشهر بعد ذلك، ضغط عليه ترامب لإقالة المحاسب الأسود، حتى استقال الرجل من تلقاء نفسه. المثير في الامر ان ترامب لم يجد حرجا في الاقرار في مقابلة مع مجلة Playboy في العام 1997 بهذه الواقعة وقال ان “الأشياء التي كتبها أودونيل عني ربما تكون صحيحة”.
ليس من قبيل الصدفة أن يتحدث ترامب عن الجماعات العرقية بنفس الطريقة التي يتحدث بها عن الحكومات والجيوش الأجنبية
في العام 2004، طرح ترامب علنا في برنامج The Apprentice (وهو برنامج تلفزيون واقع في اميركا تولى ترامب تقديم 14 حلقة منه)، ما كان في الأساس يفكر به، اي “البيض مقابل السود”، إذ اشار الى إنه “لم يكن سعيدًا بشكل خاص بالموسم الأخير من برنامجه، لذلك كان يفكر في “فكرة مثيرة للجدل إلى حد ما – تكوين فريق من الأميركيين الأفارقة الناجحين مقابل فريق من البيض الناجحين. وسواء أحب الناس هذه الفكرة أم لا، فهي تعكس إلى حد ما عالمنا الشرير”.
ليس من قبيل الصدفة أن يتحدث ترامب عن الجماعات العرقية بنفس الطريقة التي يتحدث بها عن الحكومات والجيوش الأجنبية. يبدو أنه كان مقتنعا أيضًا بأن جميع السود يعيشون في مدن داخلية، بالرغم من ان العيش في مدينة داخلية يعد امرا عاديا وطبيعيا، إلا أنه وصفها باستمرار بأنها جحيم. فأثناء حملته الانتخابيه في العام 2016 توجه الى الناخب الأسود بالقول: أنت تعيش في فقر، ومدارسك ليست جيدة، وليس لديك وظائف، و58 بالمئة من شبابك عاطلون عن العمل. ماذا الذي بحق الجحيم يجب أن تخسره؟ مدننا الداخلية كارثة. يتم إطلاق النار عليك وأنت تمشي إلى المتجر. ليس لديهم تعليم، ليس لديهم وظائف. سأفعل للأميركيين الأفارقة واللاتينيين أكثر مما يمكن أن تفعله (هيلاري كلينتون). كل ما فعلته هو التحدث إلى الأميركيين الأفارقة واللاتينيين”.
ما يفعله ترامب هنا هو نسخ اللغة المشفرة بطريقة حرفية. استخدم عبارة “المدن” والمدينة الداخلية” كرمز للسود – وخاصة عند معالجة الجريمة السوداء. تعامل مع السود كمجموعة متجانسة تعيش في مدن مليئة بالجريمة وخالية من الوظائف والمدارس الجيدة.
بعد توليه منصبه، واصل ترامب اطلاق تصريحاته العنصرية، ففي حديثه عن الهجرة في اجتماع للحزبين (الجهموري والديموقراطي) في كانون الثاني/يناير 2018، سأل الرئيس الاميركي بحسب وكالة VOX الاخبارية الاميركية الحاضرين، “لماذا يأتي كل هؤلاء الأشخاص من البلدان المنفردة إلى هنا (في إشارة إلى هايتي والدول الأفريقية)”؟ واردفت الوكالة أن ترامب “إقترح أن تستقبل الولايات المتحدة المزيد من الأشخاص من دول مثل النروج. المعنى الضمني: المهاجرون من البلدان ذات الغالبية البيضاء جيدون، في حين أن المهاجرين من البلدان ذات الأغلبية السوداء سيئون”.
وجدت إحدى الأوراق البحثية، التي نُشرت في كانون الثاني/يناير 2017، من قبل علماء السياسة برايان شافنر، وماثيو ماكويليامز، وتاتيش نتيتا، أن مقاييس الناخبين للتمييز على أساس الجنس والعنصرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بدعم ترامب أكثر من عدم الرضا الاقتصادي، بعد التحكم في عوامل مثل الحزبية والأيديولوجية السياسية.
ببساطة، كانت المواقف العرقية دافعًا كبيرًا لانتخاب ترامب. تبنت الجماعات المتعصبة للعرق الأبيض ترامب علانية. كما ذكرت سارة بوسنر وديفيد نويرت في موقع Mother Jones، أن ما تعاملت به وسائل الإعلام إلى حد كبير على أنه زلات – إعادة ترامب التغريد مدغدغا مشاعر القوميين البيض، بوصفه المهاجرين المكسيكيين بأنهم “مغتصبون” و”مجرمون” – كان بمثابة إشارات حقيقية إلى المتعصبين البيض العنصريين.
هذا السرد التاريخي يشير إلى أن التعصب ليس مجرد انتهازية سياسية من جانب ترامب ولكنه يشكل عنصراً حقيقياً في تكوين شخصيته وسيرته. هل يستطيع أن يستقطب بخطابه العنصري البيض ويعبّد طريقه الى البيت الابيض ثانية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وهل يمكن لرئيس أميركي ملطّخ سجله بالسلوكيات العنصرية أن يكون موضع ثقة السود الذي عانوا لسنوات طويلة من فوقية “الرجل الأبيض”؟