نعم هي فضيحة بكل معنى الكلمة. فضيحة يندى لها الجبين. صار الموت عادة. الناس تبحث عما يضمن لها موتاً أقل أو موتاً رحيماً أو موتاً هنيئاً. تصوروا أن نبض إنسان قيل أنه على قيد الحياة صار خبراً، بينما صار الموت اليومي والجماعي عادة وسلوكاً وتقليداً. هل يمكن أن يصل اللبنانيون إلى أكثر مما وصلوا إليه؟
في إسرائيل، وفي أعقاب حرب تموز/يوليو 2006، تشكلت لجان عسكرية وقضائية وحكومية لتقييم نتائج “حرب لبنان الثانية”. لم يسقط للإسرائيلي 200 قتيل ولا 6500 جريح ولم يجد حوالي 300 ألف مستوطن إسرائيلي أنفسهم في العراء خلال لحظة واحدة. قامت قيامة إسرائيل ولم تقعد لأجل قضايا مثل المكانة الأمنية والردعية؛ جهورزية الجبهة الداخلية؛ المعايير الأخلاقية؛ حرب العصابات؛ الحرب البرية؛ جهوزية الجيش الإسرائيلي؛ إدارة الحرب طوال 33 يوماً؛ منظومة إتخاذ القرارات، وصولاً إلى تحميل المسؤوليات.. والأهم تحديد كيفية تفادي الإخفاقات مستقبلاً.
أما وأن إنفجار مرفأ بيروت، (11 أيلول اللبناني)، قد سبقته حوادث مماثلة أولها منذ 103 سنوات (انفجار ميناء هاليفاكس)؛ أما وأننا أهملنا 2750 طنًّا من نيترات الأمونيوم، ظلت مرمية في مستودع غير مراقب لأكثر من ست سنوات؛ أما وأننا قبلنا بذلك وبالكثير من الإهانات، كيف يتجدد الحريق في المرفأ، بعد مرور 37 يوماً على الكارثة التي أصابت بيروت؟
لقد وضع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ما جرى في مرفأ بيروت، قبل شهر ونيف، في خانة أزمة النظام والكيان. دعا اللبنانيين إلى مراقبة “التعاطي المصيري” للدولة اللبنانية مع هذه الحادثة، ولهم أن يحسموا موقفهم في ضوء سؤال مركزي طرحه عليهم: “هل يوجد دولة في لبنان أم ليس هناك دولة”؟
لو أطل السيد نصرالله وأراد أن يصارح اللبنانيين، اليوم، ماذا يمكن أن يقول من موقع إلمامه بكيفية تعاطي دول ومؤسسات أخرى مع حادثة كالتي حصلت في مرفأ بيروت؟
لا دولة في لبنان. هذه، بلَعَها اللبنانيون، لكن من يتحمل المسؤولية في النهاية؟.
لنبدأ من تجدد الحريق نفسه. العاصمة ما زالت ضمن حالة الطوارىء. كل القوى والمؤسسات الأمنية موضوعة بعهدة الجيش. مسرح الجريمة ما زال يخضع لأعمال تحقيق دولية ومحلية، وبينها جمع الأدلة والعينات، وهو أمر بعهدة الجيش وبإشراف قاضي التحقيق العدلي. فجأة يندلع حريق ضخم تترتب عليه نتائج كارثية إضافية. هنا اللوم فقط على قيادة الجيش اللبناني. لا مجال للمسايرة، وهذا لا يقلل من شأن الجيش أبداً، لكن الخيط الرفيع بين كارثتي إنفجار المرفأ وتجدد حريقه، يفضي إلى مسؤولية تقع على عاتق المؤسسة العسكرية ولا تتقدم عليها مسؤولية لأحد. لماذا؟
انشأت قيادة الجيش اللبناني، في العام 1992، وبموجب مذكرة خدمة (وليس بموجب قرار أو مرسوم)، جهازاً أمنيا يتبع للمؤسسة العسكرية، مهمته الحفاظ على أمن مرفأ بيروت، ويتبع مباشرة الى مدير المخابرات.
طبعاً كل المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية موجودة في المرفأ وكل أجهزة مخابرات العالم وحتى أمن حزب الله موجود في المرفأ، وهذه بديهية من بديهيات الأعمال الإستخباراتية. لكن هؤلاء ليست وظيفتهم حماية المرفأ بل حماية منظومة مصالحهم.
جهاز الأمن العام وظيفته ضبط وتسجيل حركة دخول الاشخاص وخروجهم من المرفأ (وغيره من نقاط الدخول والخروج براً وبحراً وجواً) والتثبت من الوثائق الشخصية ووثائق السفر للمغادرين وللقادمين وبينهم طواقم البواخر، بالإضافة إلى عمله كضابطة عدلية.
جهاز الجمارك التابع لوزارة المالية مهمته مراقبة دخول البضائع واخضاعها للرسوم الجمركية وكذلك خروج البضائع بطريقة قانونية إلخ…
اللجنة المؤقتة لإدارة مرفأ بيروت تخضع لوصاية وإشراف وسلطة وزير النقل ومهامها كثيرة ومتشابكة وأبرزها عمليات التفريغ والتحميل والخزن والادخال والحركة الملاحية وتامين دخول وخروج البواخر وادارة منشآت المرفأ وصيانتها وتطويرها إلخ..
لا وجود للدرك وقوى الامن الداخلي في حرم مرفأ بيروت (هذه قصة تاريخية)، أما المديرية العامة لامن الدولة، فقد استحدثت مركزاً لها في مرفأ بيروت من دون تحديد الصلاحيات المنوطة بمفرزتها هناك ولا بموجب أي قرار أو مرسوم أو مذكرة قررت أن تكون حاضرة في المرفأ، إلا من خرم “مكافحة الفساد”، وعندها تكون مصيبتها أكبر!
لا يستطيع أحد في الجمهورية، مهما علا أو صغر شأنه، أن يقدّر خطورة هذه الأطنان أفضل من الجيش اللبناني نفسه (قانون الأسلحة والذخائر). نعم، هناك مسؤوليات إدارية على كل من عرف بأمر المادة، لكن ذلك لا يعفي قيادة الجيش من مسؤولياتها
بمعزل عن كيفية وصول “شحنة الموت” إلى بيروت، وعن حيثياتها الدولية الهامة والخطيرة جداً، فإن وجود 2750 طناً من نيترات الأمونيوم مخزنة في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت طوال سنوات ست، هو مسؤولية الجيش اللبناني أولاً. اصل وجود جهاز أمني تابع للجيش في المرفأ، ناهيك عن وجود نقطة لمخابرات الجيش، خطورة المواد. قانون الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية. المراسلات التي جرت بين الجمارك وإدارة المرفأ والقضاء ووزارات الأشغال والمال والدفاع والعدل والبيئة وباقي الأجهزة العسكرية والأمنية بما فيها المجلس الأعلى للدفاع، وما كتب من تقارير لهذا الرئيس أو ذاك. من هذا الجهاز أو ذاك، لا يعفي المسؤول الأول. لا يستطيع أحد في الجمهورية، مهما علا أو صغر شأنه، أن يقدّر خطورة هذه الأطنان أفضل من الجيش اللبناني نفسه (قانون الأسلحة والذخائر). نعم، هناك مسؤوليات إدارية على كل من عرف بأمر المادة، لكن ذلك لا يعفي قيادة الجيش من مسؤولياتها.
وما يسري على إنفجار نيترات الأمونيوم في 4 آب/أغسطس، يسري على حريق 10 أيلول/سبتمبر. ثمة إدارة سياسية وعسكرية وأمنية وقضائية مرتبكة وفاشلة وقاصرة ومُقصرة، وإلا كيف يدخل فريق من أجل القيام بأعمال تلحيم من دون دراية بعواقب ما يقوم به (بإفتراض حسن النية) وأين المحقق العدلي وهل يدخل ذلك ضمن نطاق صلاحياته أم لا؟
من أجل وضع النقاط على الحروف، لا بد من ملاحظات وإقتراحات سريعة:
أولاً، لقد وعدت حكومة حسان دياب بإنتهاء التحقيق الإداري خلال خمسة أيام. وها قد مضى أكثر من شهر ولم ينجز هذا التحقيق الإداري. لماذا؟
ثانياً، من يستطيع أن يفيد الرأي العام اللبناني بكيفية حماية مسرح التفجير وتنظيم العمل داخل هذا المسرح الذي يضم ليس فقط حرم مرفأ بيروت بل مناطق مار مخايل والجميزة والمدور والرميل واقسام من الاشرفية ووسط المدينة ورأس بيروت والخندق الغميق وزقاق البلاط. ثم من يحدد لنا التدابير الخاصة الواجب إتباعها في مسرح التفجير كالانتباه للبنايات والبيوت المتصدعة والركام والحطام؛ منع السرقات؛ تسهيل الكشف على الاضرار باشراف الهيئة العليا للاغاثة حتى ولو كانت بعض الفرق من متطوعي المجتمع المدني أو بعض الشركات الخاصة التي تطوعت للعمل في المناطق المتضررة.
ثالثاً، لا بد من تشكيل لجنة وزارية برئاسة رئيس الوزراء او نائبه وعضوية وزراء الدفاع والداخلية والاشغال والمال والشؤون الإجتماعية والصحة والعدل (أو المدراء العامين) لادارة اعمال الانقاذ وإستقبال المساعدات وتخزينها وتوزيعها وتلبية كل متطلبات التحقيق الإداري والقضائي.
رابعاً، أما وأن الحكومة قد قررت احالة الموضوع الى المجلس العدلي، فكان يجب الالتفات إلى ان المحقق العدلي وحده لا يمكنه اجراء تحقيقات مع مئات الأشخاص (في إسرائيل، تولى عدد كبير من القضاة مساعدة القاضي إلياهو فينوغراد). فما حصل ليس جريمة عادية بل جريمة ترقى إلى أن تكون “ضد الإنسانية”. لذلك، يجب الإستدراك وتعيين اربعة قضاة عدليين على الأقل، كمساعدين للمحقق العدلي لأخذ مئات الإفادات ولاحقاً قراءة ومقارنة وتقويم عشرات التقارير الفنية والإدارية وغيرها.
خامساً، لا بد، وعلى وجه السرعة، من إجراء جردة بكل أنواع المواد التي صادرتها وتصادرها الأجهزة الجمركية في جميع النقاط البرية والبحرية والجوية على جميع الأراضي اللبنانية وتقديمها إلى الحكومة حتى يصار إلى تحديد ما يشكل منها خطورة على سلامة المواطنين وأمنهم وحتى لا نكتشف كل يوم المزيد من الكونتينرات التي تحتوي نيترات أمونيوم أو غيرها من المواد الخطيرة، على أن تكلف قيادة الجيش اللبناني بإتلافها أو تفجيرها وهي تمتلك التقنيات والأدوات والوسائل اللازمة لذلك.
سادساً، نحن أمام ظاهرة غير مسبوقة منذ زمن الحرب الأهلية، حتى في عز حرب تموز 2006 لم تحصل، وتتمثل في دخول كميات كبيرة جداً من المساعدات ولا سيما الأدوية والمعدات الطبية والمواد الغذائية، فضلا عن الحديد والزجاج ومواد البناء وغيرها. هذه المساعدات لا يجوز تركها في عهدة أية جهة رسمية لبنانية ولكن الأخطر أن توضع في أيدي المنظمات غير الحكومية أو ما تسمى منظمات المجتمع المدني. لا بد من إئتلاف أهلي وحكومي ودولي يبرمج كيفية وصول هذه المساعدات لمستحقيها حتى لا تهدر أو تسرق أو تنتهي مدتها، وهي قادرة على تيسير أمور مئات آلاف اللبنانيين لأكثر من ستة أشهر. ومن المعروف أن إدارة الجمارك تحصي كل قشة تدخل إلى البلد وصارت الأرقام واللوائح بحوزتها، فهل توضع بعهدة الرأي العام اللبناني؟
إن ما تم إكتشافه على صعيد هبة الشاي أو بيع مساعدات غذائية في عدد من المناطق وتدخل مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان في الرميل والمدور وقيام ممثل آي الله علي السيستاني بتوزيع مساعدات على اهالي الخندق الغميق وزقاق البلاط وقيام جهات كنسية عالمية بتوزيع مساعدات في الأشرفية ليس مشهد دولة وطنية، بل هو مشهد العار الوطني واللامسؤولية.
سابعاً، آن الأوان لإنتهاء مهزلة مرفأ بيروت. ثمة من قدم إقتراحاً هو الجنرال المتقاعد إلياس فرحات بإنشاء جهاز أمن مرفأ بيروت، تماما كما حصل مع إنشاء جهاز أمن مطار بيروت في العام 1978 وتقرر أن يتبع الى وزير الداخلية، وقتذاك. قبله، كانت الصلاحيات والامن في المطار موزعين حسب الصلاحيات، بشكل متضارب وعشوائي على كل من الجيش وقوى الامن الداخلي والامن العام والجمارك ورئاسة المطار وشركتي الطيران الوطنية ووزارات الأشغال والدفاع والداخلية والمالية. كذلك، لا بد من انشاء سرية مرفأ بيروت في قوى الامن الداخلي وتحديد صلاحياتها كضابطة عدلية وسلطة امنية تابعة لجهاز امن مرفأ بيروت المستحدث (راجع مقالة إلياس فرحات في “اللواء” بتاريخ 12 آب/أغسطس 2020).
ثامناً، لا بد من إعادة نظر بالقوانين التي ترعى دخول البضائع وتخزينها وخروجها وصولاً إلى تحديد المرجعية المسؤولة عن كل مهمة من هذه المهام.
إن غياب المرجعية الواضحة الصلاحية من جهة وهذا التضارب في الصلاحيات والقوانين من جهة ثانية، شكلا خشبة النجاة للكثير من المتورطين في إنفجار المرفأ وحريقه، بدليل هذه المحاولات المتمادية من مراجع في الدولة لعدم تحديد المسؤوليات وجعل “راجح” هو المتهم الأول والأخير.
الجيش ليس مُتهماً. الجيش هو المسؤول وكل اللبنانيين يحرصون على صورته ودوره.
لقد سقطت الدولة في إمتحان المرفأ. هل يمكن إنقاذ ما تبقى من ظلالها ومن ظلال باقي مؤسساتها؟