عندما يقول الفرنسيون للبنانيين هذا هو رئيس حكومتكم وهذه هي تشكيلة مصطفى أديب وهذا هو البيان الوزاري للحكومة اللبنانية العتيدة، فنحن أمام نموذج غير مسبوق في الإنتداب والإستعمار والوصاية. ربما لو كان بلدنا محتلاً، لما أمكن للمحتل أن يفرض ما يفرضه الفرنسي حالياً، وكل هذا بداعي الغيرة والحرص على “لبنان الكبير” في ذكرى مئويته الأولى.
لا يمكن فصل ما يقوله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريحاته العلنية في الشأن الاقتصادي ـ المالي اللبناني عما نشر كورقة فرنسية هي بمثابة البيان الوزاري للحكومة اللبنانية. كما لا يمكن فصل هذه “الورقة الفرنسية” عما راكمه اللبنانيون من أوراق لدى الفرنسيين في باريس 1 و2 و3 وفي “سيدر”، وكذلك من خلال تحركات السيد بيار دوكان المكلف بمتابعة مؤتمر سيدر، سواء المعلنة منها أم غير المعلنة ، مع شخصيات ورجال اعمال وشركات مهتمة بالإستثمار أو بالخصخصة لبعض القطاعات. في هذا السياق، هذه بضعة ملاحظات أولية على ما تسمى “الورقة الفرنسية”:
أولاً، تقف “الورقة” عند برنامج صندوق النقد الدولي، تماماً كما فعلت قبلها حكومة حسان دياب، أي من دون رؤية أو خطة أو أهداف، لذلك تصبح المخاوف مبررة من العودة الى “خطة لازارد”، بعنوان أنها تبقى أفضل من الفراغ، بينما كان المطلوب أولاً أن نفكر في كيفية التراجع عن الاعلان عن التعثر في تسديد سندات اليوروبوندز وهناك اساليب وطرق عدة لا تزال ممكنة لذلك، وبالتالي تغيير التصنيف الإئتماني للبنان ومن ثم طرح خطة ولو مؤقتة للتفاوض مع صندوق النقد.. وفي اسوأ الحالات تعديل “خطة لازارد”، اي ان تكون هناك مروحة من الخيارات بدل حشر البلد في خيار وحيد وشبه قاتل.
تقطع “الورقة الفرنسية” الطريق أمام فكرة التسنيد أو أية أداة لتأمين التمويل، خارج إطار الخصخصة، في وقت بات من المسلم به أن البيع في ظروف لبنان الحالية، هو الجنون بحد ذاته أو السرقة الموصوفة أو هو سبب لإعادة تعويم أية زعامة
ثانياً، الاعلان الفرنسي على لسان ماكرون ووزير الخارجية جان إيف لودريان بأن فرنسا ستأخذ على عاتقها إعادة إعمار المرفأ (ومن ثم تلزيم مجموعة CMA CGM الخدمات والنقل في المرفأ علماً أن رئيس مجلس إدارة الشركة ومديرها التنفيذي رودولف سعادة رافق ماكرون في زيارتيه للبنان) يوحي وكأن الامر لا يحتمل النقاش وبالتالي ليس مسموحاً فتح الباب أمام فرص أخرى سواء للدول او الشركات، بما في ذلك تنويع التلزيم وتقسيم الاختصاصات. إن أي تسليم بهذا الامر يشكّل مقدمة للفوز أيضاً بقطاعات أخرى أبرزها الكهرباء ولو راجعنا ما ورد في متن “الورقة الفرنسية”، نجد آليات فعلية لذلك.
ثالثاً، كانت فرنسا شريكة في قطاع الاتصالات اللبناني، سواء الثابت أو الخلوي منذ اليوم الاول لإعادة بناء هذين القطاعين في النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم، وبالتالي، كانت الشركات الفرنسية شريكة في الفساد، سواء مباشرة أو عبر شراكات مع مستفيدين لبنانيين من المال العام، حسب تاريخ تشغيل الهاتف الخلوي استثماراً وإدارة وتعويضات، علما أن الشركات المذكورة هي من أسوأ الشركات المشغلة أوروبياً على صعيد الكلفة والخدمات.
رابعاً، تقطع “الورقة الفرنسية” الطريق أمام فكرة التسنيد أو أية أداة لتأمين التمويل، خارج إطار الخصخصة، في وقت بات من المسلم به أن البيع في ظروف لبنان الحالية، هو الجنون بحد ذاته أو السرقة الموصوفة أو هو سبب لإعادة تعويم أية زعامة (سياسية أو طائفية) عبر إشراكها في هذه العملية، برغم أن النقاش كان قد قطع أشواطاً حول الصندوق السيادي ـ الوعاء لوضع ممتلكات الدولة كضمانة وليس للبيع أو الخصخصة أو حتى مجرد الرهن.
خامساً، بقطع النظر عن الموقف السيادي المبدئي برفض أي تدخل أجنبي في الحسابات المالية السيادية للدولة اللبنانية، الا أن ما يجري اليوم، وبموازاة التدقيق الجنائي، هو إدخال المصرف المركزي الفرنسي الى كل حسابات مصرف لبنان، بقبول واضح من حاكمية المصرف المركزي، ومن دون أي إعتراض من جميع القوى السياسية او من المؤسسات الدستورية، لا بل بترحيب منها، وهذه الخطوة ما أن طرحت حتى تبدلت اللهجة الفرنسية تجاه رياض سلامة وبات الفرنسيون يتبنون الرأي القائل أن تغييره الفوري قد يضر بمصالحهم، خلافاً لما كانوا يرددون منذ عام ونيف، حيث أن معظم الحملات على سلامة كانت تحظى بمقبولية من فريق وازن في الادارة الفرنسية وحصلت محلياً بلسان الخُلص من أصدقائهم، فما الذي تبدل فعلاً؟ وهل يختلف إثنان على أن الأولوية اليوم تقتضي متابعة التعاميم الأخيرة لمصرف لبنان ولا سيما المتعلق منها بإمكانية إستعادة جزء من الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج، فهذه الخطوة واحدة من مداخل علاج الوضع المالي.
التعيينات الادارية الاساسية ستحكم مسار الدولة لعقود كما حصل بعد الطائف فهل تستطيع حكومة انتقالية القيام بهذه المهمة، في ظل انقسام حاد وتشكيك تمثيلي وميثاقي؟
سادساً، ورد صراحة في “الورقة الفرنسية” أن مشروع “الكابيتال كونترول” يجب أن يحظى بموافقة جميع اقسام صندوق النقد الدولي ومدته أربع سنوات وتطبيقه يجب أن يكون فورياً، أي يجري عبره ربط كامل الجهاز المصرفي اللبناني بصندوق النقد وتحديد كيفية هيكلة القطاع المصرفي والمالي وكذلك آليات التدفق المالي وتحويلات المغتربين وملكية المصارف. نعم، بسطر واحد تُحدد خيارات كبرى دون تحديد هدف في وقت محدد ومن دون أي نقاش مع المعنيين مصرفياً ومالياً ومن دون السؤال حتى عن مآلات مضي الأميركيين قدماً في مسار العقوبات المالية.
سابعاً، تطرح “الورقة” قضية التعيينات في جميع الهيئات الناظمة والمجالس والهيئات، وكذلك إنشاء “ليبان تليكوم” مع ما تعنيه من تفعيل لقانون الاتصالات وإلغاء وزارة الاتصالات حكماً، وهذه مسائل هامة للغاية تطال بنية الدولة الهيكلية والإدارية في حين ان اختيار اسم رئيس الحكومة نفسه يطرح تساؤلات حول احترام الشكل والمضمون المتعلق سواء بالآليات او بالخبرة، خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة التي يواجهها لبنان، ناهيك عن ان التعيينات الادارية الاساسية ستحكم مسار الدولة لعقود كما حصل بعد الطائف فهل تستطيع حكومة انتقالية القيام بهذه المهمة، في ظل انقسام حاد وتشكيك تمثيلي وميثاقي؟
ثامناً، تنص “الورقة الفرنسية – البيان الوزاري” على ان كل الدراسات المقترحة سواء للقضاء أو للادارة أو المالية العامة سيتم تلزيمها للمؤسسات الدولية وعلى راسها البنك الدولي او شركات دولية خاصة، اي جعل البلد مكشوفاً حتى على مستوى التفكير والمقاربة وتحديد الاهداف. ماذا بقي من سيادة او مقاربة وطنية؟ ما يسري عملياً على التلزيمات يسري على الدراسات. المعادلة واضحة: ممنوع نقاش الفرنسيين، وما يطرحونه هو في صميم البيان الوزاري اللبناني، فهل يجرؤ أحد على الإعتراض على التزامهم أي قطاع من القطاعات أقله لمعرفة الشروط وإمكانية تطابقها مع مصلحة الدولة اللبنانية؟ وهل يجرؤ أحد على التشكيك في دراساتهم؟
تاسعاً، تحدثت “الورقة الفرنسية” عن تعزيز المجلس الاعلى للخصخصة بالقدرات البشرية والمالية. لماذا هذا المجلس تحديداً؟ في حين ان المطلوب التفكير من خلال المرحلة الانتقالية ببناء مؤسسات وتحصين الاصول وتفعيل العمل لان طرحها اليوم للبيع هو رمي لها او تقديمها مجرد هدايا.
من الواضح أن فرنسا تدرك ما تريده من لبنان ولو تم تغليفه بعناوين سياسية وإنسانية ونوستالجية، لكن هل يعرف اللبنانيون ماذا يريدون من فرنسا؟
عاشراً، تشدد “الورقة” على تعزيز المراقبة على الحدود وتتناول الاجراءات المقترحة في المطار والمرافئ والمعابر الحدودية البرية والجوية والبحرية وهذه مسألة هامة وخطيرة جداً. لا يمكن التعاطي معها كشأن تقني او فني في حين خيضت حروب لاجلها وبالتاكيد المسالة ليست اقتصادية او ضبطاً للهدر حيث ان زاوية المقاربة فيها سياسية اقليمية مختلفة تماماً عما يريده اللبنانيون من حفاظ على مواردهم.
حادي عشر، ربما وجه التعارض او التناقض بين فرنسا واميركا في اهداف هذه “الورقة” هو الغاية من الحكومة، فاذا كانت واشنطن تريدها لتقطيع الوقت حتى وصول الادارة الجديدة، اي ادارة، مع استمرار الضغط ولكن من دون انهيار شامل او انفجار قد يولد بدائل جذرية كالخيار المشرقي او غيره، فان الفرنسيين، ربما مرة جديدة، قد وجدوا فرصتهم بتحويل الحكومة المفترضة الى حكومة تأسيسية فعلية مهما كان زمنها مؤقتا الا انها ستزرع ثوابت لمصلحة الفرنسيين يستفيدون منها في ما بعد مهما حصلت تحولات، وهذا يفسر التباينات الحاصلة والتصريحات المتناقضة.
هذا غيض من فيض “الورقة الفرنسية” التي سُميت ورقة اصلاحية وانقاذية وقُدمت كبيان وزاري لـ”حكومة المهمة”.. وللامانة انها حصيلة مركزة ومكثفة لخيارات مورست منذ ربع قرن كما انها تحمل اهدافاً ليست فرنسية او محلية حصرية ابداً، فالورقة تحمل كل الاهداف التي نادى بها الاميركيون وينادون بها كفكر اقتصادي وممارسة عملانية واهداف ويبقى الغائب الاكبر فيها هو المقاربة الاقتصادية التي غُيبت لثلاثين عاماً واتفق الجميع على اهميتها بالكلام فقط اي حين يطرح شعار الانتاج بدل الريع في وقت ان كل الاجراءات المقترحة هي مالية – نقدية ريعية لا علاقة لها بالاقتصاد او الانتاج.
من الواضح أن فرنسا تدرك ما تريده من لبنان ولو تم تغليفه بعناوين سياسية وإنسانية ونوستالجية، لكن هل يعرف اللبنانيون ماذا يريدون من فرنسا؟
في كتابه “أجمل التاريخ كان غداً”، يروي إيلي فرزلي أن بعض المحيطين بالرئيس إميل لحود كانوا يقولون للذين يجافون السوريين، إن غازي كنعان يمثِّل سوريا لكنه ليس سوريا. بل إن الرئيس لحود هو الذي طلب إزاحته من لبنان عندما قدَّم للقيادة السورية في دمشق توصيفاً صريحاً للوضع أبلغهم فيه قوله: “لا يستقيم الأمر مع وجود رئيسين في لبنان. واحد منهما يجب أن يذهب”. وهكذا ذهب غازي كنعان.
السؤال، من سيكون معتمد فرنسا في لبنان.. وهل من “غازٍ” فرنسي.. على الطريق؟