لا أحد يُموسِق مائة صفحة شعر. لا أحد يتسلل إلى روح الشعر ويستخرج أصواته وإيقاعاته الداخلية سواه؛ إنّه مارسيل خليفة بكل ثقة يُعيد محمود درويش ويُنطقه في عمل عصّي على التصنيف. إنها جدارية محمود ومارسيل؛ توأما الروح بجدارة الحياة.
وبما أنّكَ لست أمام نحات يطرق النوتة بإزميل محترف فحسب، فأنت أيضاً أمام شاعر يُعيد البوح ويسمو بالنصّ الدرويشي، ورسام يُلّوّن له جناحيه، أو ربما مزارع يدسّ نوتاته في أثلام الموسيقى الخمسة لتصبح أرض الموسيقى خضراء أو أنك أمام صياد يكنز اللؤلؤ في شباكنا ومراكبنا فنثرى. كأنك وكأنك حتماً سوف تتريث قبل أن تكتب كلمة.
موسيقى مارسيل خليفة هواءٌ رطبٌ في عزّ الحر، وقطنٌ ناعمٌ حلجوه خصيصاً لفراش صغار الملائكة.
يقول مارسيل خليفة عن عمله الذي ما يزال يبحث عن الإنبثاق إلى أسماع الجمهور العريض: “لملمتُ القصيدة وحبستها في نوتات”.. ولعلني يا مارسيل لا زلت ألملم فهمي المتواضع لعبقرية هذا التأليف الموسيقي.
إذن لا تسلوني عن تقنيات التأليف وتتالي النصوص وتراصف اللحن.
كان السماع الأول يسقط كالمطر فوق أذن عذراء يخترقها كالشهب الشهواني.
وبهذا المعنى، لم تذهب سدى كل الموسيقى التي صنعها مارسيل لنا منذ “وعود من العاصفة”، الأغنية التي ساهمت في تأسيس وتعميق وعينا وسماعنا الموسيقي، حتى تأليفه كونشرتو الأندلس وكونشرتو العربي وصولاً حتى غنائية أحمد العربي، التحفة الفنية بامتياز. وها نحن قد بلغنا سن الرشد والنضج الفني ولم نعد فقط مجرد مُنصِتين بل متذوقين لموسيقى تُحلّق بنا ونُحلق معها في عالم الثقافة الموسيقية المطلوبة.
مهّد مارسيل الطريق. فرش لنا الأرض بالموسيقى. دعانا إلى جنة اللحن ووجدنا أنفسنا متورطين بكل هذا الدفء المستحيل.
***
“جدارية”؛ هي إحدى أهم قصائد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، لا بل تُمثل جزءًا محوريًا من إرثه الأدبي والإنساني. كتبها بعد نجاته من تجربة مرضية خطيرة في نهاية تسعينيات القرن الماضي، مما أضفى على النص طابعًا تأمليًا عميقًا بتطرقه إلى قضايا الحياة والموت والهوية والحب والفقد والمنفى.
تتميز “جدارية” بلغة شعرية كثيفة ومتعددة الطبقات، حيث يمزج درويش بين البوح الشخصي والتأملات الفلسفية، في رحلة داخلية بين الذكريات والأسئلة الوجودية.
ربما أسهبتُ في وصف النص الدرويشي الفلسفي العميق فقط لأقول نحنُ أمام نصّين متوازيين في القوّة ومتكاتفين في الروح. فإذا بالقصيدة واللحن عبارة عن زفافٍ أسطوري لفكرتي الموت والحياة.
يقول درويش في مطلع جداريته:
“هذا هو اسمكِ
قالتِ امرأةٌ، وغابتْ
في الممر اللولبيِّ.
أرى السماءَ هناك في متناول الأيدي.
ويحملني جناح حمامةٍ بيضاءَ صوب طفولةٍ أخرى.
ولدتُ، كما يولد الناسُ، يُولدون ويموتون،
في بلادٍ بعيدةٍ، ويمشون إلى الحياةِ/ القبور،
يعشقونَ ويسألونَ: لماذا تركتَنا وحدَنا”؟
لغة مفعمة بالحنين والرمزية يُعبّر من خلالها درويش عن أفكاره التي يلهو بها مارسيل وينتقل بها إلى حديقته السرية ويزرعها في خمسة أثلام أسطراً موسيقية. “جدارية” ليست مجرد قصيدة، بل هي نص أدبي رفيع يُعبّر عن تجربة إنسانية عميقة، مما يجعلها واحدة من أحد أبرز الأعمال في الأدب العربي الحديث، ورمزًا من رموز الشعر الفلسطيني وإحدى روائعه.
نعم ها هو مارسيل يُورطّنا في السماع الأول الذي يشبه الحبّ من النظرة الأولى فلا فكاك منه.
هكذا تبدّت تلك التوأمة الروحية بين الموسيقي مارسيل والشاعر محمود في ملحمة موسيقية وطئت سر الخلود ودنت أو كادت تفك طلاسمه العصيّة.
هو عمل فذّ استخرجه مارسيل من قلب فكرة الموت والخلود وقلبت كيان الأفكار والقصائد بأقلام رصاص ونوتات من كرز.
شاركت موسيقى مارسيل في تصوّرات درويش للموت أيضًا، وحاكت المرجعيّات الأسطوريّة المستمدّة من ملاحم قديمة كملحمة جلجامش وملاحم الإغريق، الّتي استعار منها صورة الخلود بالعمل والشّقاء، فكما هو معلومٌ أنّ جلجامش قد عمل على تحقيق الخلود والبحث عنه بمختلف الوسائل، لكنّه اكتشف أخيرًا أنّ الخلود لا يكون إلا بالعمل الشّاقّ، إذ رأى أنّ بناء سورٍ عظيمٍ كالّذي بُني حول مدينة «أُورك» هو أفضل طريقة ليخلّد اسمه، عوضًا عن البحث عن عشبة الخلود البحريّة الّتي قضى فترةً طويلةً من الزّمن يبحث عنها، حتّى يئس من العثور عليها، حيث نجد «صوت الشّاعر يتلبّس بصوت جلجامش، فلا يبقى مجالٌ للتّفرقة بين الصّوتين».
يقول:
وَانْتَظِرْ
وَلَدًا سَيَحْمِلُ عَنْكَ رُوْحَكَ
فَاْلْخُلُوْدُ هُوَ التَّنَاسُلُ فِي اْلْوُجُوْدِ
وَكُلُّ شَيءٍ باطلٌ أَوْ زَائِلٌ، أَوْ
زَائِلٌ أَوْ بَاطِلٌ.
لطالما سعى الإنسان منذ بداياته الأولى إلى فَهم العالم ووضع معنًى لوجوده، والغاية من ذلك أن يفهم هذا الشبح الذي يُطارده، بمُسمى “الموت”، تلك البوابة التي تأخذ الأقارب والأحبة إلى عالم “غير معلوم”، فكيف ألبَسَ مارسيل قصيدة سوداء لحناً لا كفناً؟
الموت هاجسٌ ميتافيزيقيٌ وجب التغلب عليه وتخطيه، لذا، ما كان من الإنسان الأول سوى الاستعانة بـ”الفن” سلاحًا لذلك؛ لهذا ترك على جدران الكهوف الباردة والخشنة بصمات أنامله وأكفه وقصص صيده وطقوس عيشه منقوشة ومرسومة وملونة بألوان التربة، تخليدًا لكل ما عرفه وخبره. وإن عدّ سيغموند فرويد أن الموت غير قابل للتمثيل؛ فقد سعى الإنسان (الفنان) منذ القدم إلى الانتصار على هذه الفكرة، وأن يُقدّم لهذا “الشبح” جسدًا أو وجهًا أو هيئةً هلامية، وذلك لمواجهته، وقرّر أن يجعل صيغته “الفانية” حالة من الخلود في العمل الفني.
“الموت، هو أولًا وقبل كل شيء، صورة، وسيظل كذلك صورة”، يقول غاستون باشلار.. و”الصورة انتصار الحياة. انتصارٌ منتزعٌ من الموت ومستحقٌ”.
لقد ورّطنا مارسيل في جلسة سماع أولى ولم أشأ أن أتحول إلى ناقدة لا تملك أن تبحث عن القالب الذي استخدمه سواء كان متتاليات أو كونشرتو، فلقد كان ما سمعناه أشد وطأة من الموت وأخفّ من ريشة نسر يُحلّق بك في السماء.
كأنك دخلت بستاناً من بساتين الجنة على مدخلها شجرة كرز عملاقة، وفي ذهنك وخيالك كتاب مقدسّ متخيلّ ٌ فيه نهيّ عن ثمرة الكرز بوصفها رمزاً للخطيئة.
ثم تتذكر أنك إنسان يا إنسان، وتدخل في التجربة.
في التجربة الوجودية وفي موسيقى مارسيل خليفة آلاف الأشياء والرموز والأصوات الملونة.. فيها سعيٌ حثيثٌ إلى المطلق.
***
في “الجدارية” طربٌ ومسرحٌ ولوحاتٌ ملونة وفيها دموعٌ وآهات وحبٌّ ولوعةٌ. فيها شروق وغروب وبحر مطلق الشواطىء.
في الجداريّة ناسٌ وصحراء ورملٌ وكثبان وكلّ شيء.. كل شيء.
أما اللمعان في النصوص الموسيقية فسوف يُعيدك إلى أسطورة الكرز من جديد. طعم مشبع باللون والمذاق والراحة والملمس.
مارسيل خليفة الذي يقلب المائة صفحة في “الجدارية” بأصابعه الذهبية ينقلب شاعراً. هو فوحٌ وبوحٌ وألفُ لونٍ ولون. مائة صفحة من الشعر قلّبها مارسيل بين أصابعه بدراية مُمَسرحًا الحياة ومُروضًا الموت.
فيا أيها الآتون إلى السماع الأول تأهبوا بكل حواسكم المعروفة والغامضة إلى رحلة استكشاف الذات الإنسانية والعقل والجنون في تقليبٍ متناهي الحرفة والدقة لخفايانا ونوايانا ومواكب الزهر وفوح العطر في هضابنا المعلومة والمخفيّة.
جوقة المنشدين والمنشدات هم أعضاء في فرقة عشتار فيلوكاليا التي تقودها الأخت مارانا سعد بلياقة الزهر وعبيره، أضافت على العمل المتقن في توزيعه الأدوار الرجالية والنسائية بعداً أوبرالياً.
وتأكدوا من أحزمة الأمان فيكم التي تحملونها حصرًا في الروح لأن الجسد سيتجمد في المكان، وتنخطف الروح مرة إلى باب الجنة ومرة إلى باب الجحيم وفي الحالتين سيغمرها فرح عظيم.
لا تتركك الموسيقى وحيداً، سيقودك صوت المنشد ظافر يوسف، وهو منشد تونسي إلى طبقة مختلفة من السماع؛ نوعٌ جديدٌ من أنواع الإنشاد الصوفي الذي يلامس سقف هذا العالم ويُريك هشاشته. التينور الذي ينقلب سوبرانو حين يجسد “عويل النسوة” فتتوه ولا تفرّق صرخة الحياة من صرخة الموت.
في “جدارية”، يحضر صوت مارسيل خليفة مرتين، بداية وختامًا. هكذا شاء، تاركًا حصّة وازنة للغناء الفردي النسائي، بأصوات رائعة ورخيمة لكل من كارلا وثريا وسوزانا وليال يحملن مقاطع من القصيد الدرويشي إلى مقامات طربية رفيعة المستوى.
وكان جديراً بالإنتباه صوت المنشد المصري الشيخ المحمدي الذي لا يُضيره أن يشارك بعمل ملحميّ من هذا النوع؛ أن يستمع إلى “ريتا” و”جواز السفر” ويُؤّم المصلّين، فالغناء صلاة ولو بطريقة مختلفة.
هكذا يحضر المُغنّون والمنشدون بأصواتهم الصافية وأسمائهم الأولى على أسطوانة العمل بفعل وقوة وحميمية العمل.
***
مائة وخمسون دقيقة من الإنخطاف الصوفي يعود فيها محمود درويش الشاعر ورائعته “الجدارية” بعدما عثر الفنان مارسيل خليفة على عشبة الخلود الموسيقية وكانت هذه التحفة صرخة للحياة.
هذه الجدارية تنتصر للحياة فيعود من مات ليصرخ: لا تعوزني المعرفة ولا ينقصني الشعر ما دمت أشعر.
“يا موت لقد هزمتك الفنون جميعها”.
جملة قالها درويش ولكن مارسيل خليفة أعطاها بعداً واقعياً وشرعنها لكأن الموسيقى تصنع مجراها كالماء، كالسيل، كالدم تهدر في شرايين الحياة.
حين لا تفهم الموسيقى، دع الموسيقى تتكلم فيك وعنك، وصدقَ من قال إن الموسيقى “تجعلنا تعساء بشكل أفضل”.
إنها لحظة وفاء الموسيقى للشعر.