برغم الحالية المزرية التي كان يعيشها جهاز “الموساد” جراء حادثتي كوهين ولوتز، أقرّ “ليفي أشكول” لوحدة “قيصرية” في “الموساد” تنفيذ عملية قتل في دولة الاورغواي. الهدف هو “هيربرت كوكورس” الضابط اللاتفي الذي تطوع لمساعدة جهازي الأمن الألمانيين “إس. إس.” و”غستابو” في قتل اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. كان القتل بالنسبة إلى “كوكورس” بمثابة “رياضة يومية”، فقد كان يأمر اليهود بالركض في الشوارع “طلباً لإنقاذ أرواحهم ويقوم هو بإصطيادهم بنيران مسدسه”.
وفق تقارير “الموساد”، فإن “كوكورس” حشر عدداً من اليهود في كنيس وأقفل عليهم الأبواب وأحرقهم أحياء فيما جلس يشرب الويسكي وهو يستمتع بصرخاتهم، ما جعل بعض الناجين من “الهولوكوست” يطلقون عليه لقب “جزار ريغا” (عاصمة لاتفيا). وقد أُدرج اسم “كوكورس” في لوائح محكمة نورنبيرغ لمجرمي الحرب لإتهامه بالضلوع المباشر في قتل 15 ألف يهودي والضلوع غير المباشر بقتل عشرين ألفاً آخرين.
مع إنتهاء الحرب العظمى، نجح “كوكورس” في الفرار إلى البرازيل حيث أنشأ شركة تعنى بالأمور السياحية وأحاط نفسه بحماية أمنية كبيرة.
ولأجل تنفيذ عملية قتل “كوكورس”، أرسلت وحدة “قيصرية” أحد ضباطها “ياكوف ميداد” إلى البرازيل بصفة رجل أعمال نمساوي ينوي الإنخراط في أعمال السياحة في جنوب القارة الأمريكية، وكان “ميداد” يجيد اللغتين الأسبانية والألمانية، وقد نجح في إستدراج “كوكورس” للمجيء إلى أحد الفنادق الفخمة في مونتيفيديو، عاصمة الاورغواي، من أجل عقد لقاء مع مجموعة من المهتمين بتطوير صناعة السياحة، وكان هناك في إنتظاره ثلاثة من القتلة المحترفين. كانت الخطة تقتضي بـأن يدخل “ميداد” أولاً ويتبعه “كوكورس”، وعندها يقوم أحد القتلة بدفع الهدف إلى الداخل ويوصد الباب خلفه بإحكام ويسيطر عليه القتلة الآخرون قبل أن يطلق “كوكورس” النار عليه ويقتله.
“الذين لن ينسوا أبداً”
لم تسر العملية بالإنسيابية المخطط لها، بحسب رونين بيرغمان، فقد شعر “كوكورس” بشيء من الخوف من كمين يعد له، ففي اللحظة التي دخل فيها إلى الغرفة، قام أحد القتلة بوضع يديه حول رقبته ليخنقه، فيما قام قاتل آخر بجره إلى الداخل، لكن “كوكورس” تمكن من اسقاط هذا القاتل أرضاً وتمسك بقبضة الباب محاولاً منع إغلاقه، فتدخل القاتل الثالث، وبتكاتف القتلة الثلاثة تمت السيطرة عليه ولكن “كوكورس” تمكن من عض إصبع أحد القتلة بقوة لدرجة أنه قطع جزءاً منه بأسنانه، فصرخ هذا الأخير وترك “كوكورس” الذي كاد أن ينجو من قبضة الآخرين لو لم يقم “زئيف أميت” ابن عم مدير “الموساد” (مائير أميت) بضربه بمطرقة على رأسه مراراً وتكراراً حتى فارق الحياة، وأعقب ذلك قيام “أليزير شارون” رئيس وحدة الإغتيال في منظمة “أرغون” الصهيونية المتطرفة بإطلاق رصاصتين عليه لتأكيد موته. بعد ذلك، قام القتلة بوضع جثة الضحية في حقيبة كانوا يحتفظون بها في الفندق وعلقوا على صدره ورقة كتبوا عليها “حكم بحق المسؤول شخصياً عن قتل حوالي ثلاثين ألف يهودي بوحشية مرعبة”. وقد وقعت الورقة بإسم “الذين لن ينسوا أبداً”.
يقول رونين بيرغمان إنه من الناحية الرسمية، كانت عملية قتل “كوكورس” ناجحة ولكن الحقيقة هي أن عدم الحرفية في التنفيذ كادت تودي إلى كارثة، وفي الحالتين، فإن أحد المنفذين خسر إصبعه فيما عانى “زئيف أميت” الذي ضرب الضحية بالمطرقة على رأسه من كوابيس ليلية طوال بقية حياته.
قال الدليمي لقادة “الموساد”:”أنتم جيدون بالقتل، نريدكم ان تقتلوا زعيم المعارضة المغربية مهدي بن بركة، إفعلوها”
أما الرواية الأكثر إثارة في عمليات القتل المتعمد التي كان “الموساد” يرتكبها والتي كادت تطيح برئيس الحكومة “ليفي أشكول” وبمدير الجهاز الإستخباري “مائير أميت”، فقد كانت عملية إغتيال المعارض المغربي مهدي بن بركة، التي يتكشف من خلالها حجم العلاقات الإستخبارية الإسرائيلية مع أول جهاز إستخباري عربي، ولسخرية الموقف، فقد كان هذا الجهاز هو الاستخبارات المغربية، ابان حكم الملك الحسن الثاني الذي قرر أن يرتمي في أحضان “الموساد” حماية لعرشه من المعارضة الداخلية. باع الحسن الثاني أسرار اجتماع القمة العربية المنعقد في الدار البيضاء عام 1965 لـ”الموساد” عبر السماح للجهاز الإسرائيلي بزرع أجهزة تنصت وتسجيل في كل غرف وأجنحة قادة الوفود العربية والقادة العسكريين المرافقين لهم.
تنصت مقابل القتل
يقول رونين بيرغمان إن الكارثة التالية بعد عملية الأورغواي والتي كانت قاب قوسين ان تحدث وتكلف كلاً من “أشكول” منصبه كرئيس حكومة و”أميت” منصبه كمدير لـ”الموساد”، حصلت في 30 سبتمبر/أيلول عام 1965، بعد يوم واحد من استلام “الموساد” كل اشرطة التنصت على الزعماء العرب في قمة الدار البيضاء بتنسيق مع المخابرات المغربية.
في 30 أيلول/سبتمبر 1965، اتصل ضابط المخابرات المغربي احمد الدليمي بجهاز “الموساد” وطالبهم بإيفاء الدين بأسرع ما يمكن، ففي عالم المخابرات لا هدايا مجانية. قال الدليمي لقادة “الموساد”:”أنتم جيدون بالقتل، نريدكم ان تقتلوا زعيم المعارضة المغربية مهدي بن بركة، إفعلوها”. وكان بن بركة قد نُفي من المغرب في مطلع الستينيات وحُكم عليه غيابياً بالموت، لكنه كان حريصاً جداً في تنقلاته ويستخدم أسماء وهمية، ما حدا بقادة المخابرات المغربية إلى مطالبة “الموساد” بالمساعدة في تحديد مكان وجوده وقتله. وهنا ينقل بيرغمان عن “أميت” قوله “كنا عندها نواجه معضلة حقيقية فإما أن نساعد المغاربة ونغرق في أمور داخلية لا شأن لنا فيها أو نرفض التعاون ونعرض للخطر الإنجاز الوطني المحقق في الحصول على أشرطة التجسس على القادة العرب” (قمة الدار البيضاء).
يقول بيرغمان: لقد حاول “أميت” أن يظهر نفسه على أنه سار بين الخيارين كالسائر بين نقاط المطر عبر عدم الإنخراط المباشر بالقتل، ولكن مراسلات “الموساد” وتقاريره عن تلك الحقبة تظهر أن الجهاز “الإسرائيلي” إنخرط حتى النخاع في العملية برمتها.
فيلم وثائقي للإستدراج!
يروي الكاتب تفاصيل عملية قتل بن بركة قائلاً إن “الموساد” تمكن من تحديد متجر صغير (كيوسك) في مدينة جنيف السويسرية ترسل إليه الصحف والمجلات المخصصة لبن بركة. عبر المتجر أمكن تحديد مكان وجود بن بركة. قضت خطة “الموساد” ان يُستدرج بن بركة إلى باريس عبر شخص يزعم أنه صانع أفلام سينمائية مولع بقصص حياة المنفيين المغاربة وأنه مهتم جداً بإعداد فيلم وثائقي عن الموضوع. وقد أمّن “الموساد” للمغاربة في باريس “البيوت الآمنة” وجوازات السفر المزورة والآليات ونوعين من السم المخصص للقتل من دون ترك أية آثار. وعندما أتى بن بركة إلى باريس في 29 اكتوبر/تشرين الأول عام 1965، إختطفه جهاز المخابرات المغربية بمساعدة ضابط فاسد في الشرطة الفرنسية وتم إقتياده إلى أحد بيوت “الموساد” الآمنة في العاصمة الفرنسية حيث أخضع لتعذيب وحشي قبل أن يموت مختنقاً بالمياه الآسنة التي كانوا يغرقون رأسه فيها.
إختفاء بن بركة في باريس على يد مجموعة ضباط من المخابرات المغربية وبعض المرتزقة الفرنسيين (ضباط في “الموساد”) إنفجرت في الصحف الفرنسية وإحتلت عناوينها وصفحاتها الرئيسية لوقت طويل، ما حدا بالرئيس الفرنسي شارل ديغول للإطاحة بمسؤولي مخابراته
يضيف بيرغمان، أن أياً من عناصر “الموساد” لم يكن موجوداً لحظة قتل بن بركة لكنهم أخذوا على عاتقهم التخلص من جثته، فقام فريق من “الموساد” بنقل الجثة إلى غابة سانت جيرمان عند أطراف باريس حيث حفروا حفرة عميقة جداً ودفنوها هناك بعد أن رشوا عليها مسحوقاً كيميائياً يتفاعل بسرعة مع الماء فيجعل الجسد يتآكل. مباشرة بعد الدفن، أمطرت السماء بغزارة وعلى الأرجح أن ذلك لم يبق الكثير من جثة بن بركة، ولكن عناصر “الموساد” حرصوا على نقل البقايا إلى مكان آخر يقع اليوم تحت أحد الطرق المؤدية إلى مؤسسة “لوي فيتون” الحديثة ويمكن أن يكون قد دفن تحت أساسات مبنى المؤسسة نفسها، بحسب الرواية التي ينقلها رونين بيرغمان عن أحد الذين شاركوا في تنفيذ العملية.
مؤامرات ومؤامرات مضادة
حرص مدير “الموساد” على إبلاغ “ليفي اشكول” بأن كل شيء سار على ما يرام في موضوع مهدي بن بركة، لكن الحقيقة أن لا شيء كان على ما يرام، فقضية اختفاء بن بركة في باريس على يد مجموعة ضباط من المخابرات المغربية وبعض المرتزقة الفرنسيين (ضباط في “الموساد”) إنفجرت في الصحف الفرنسية وإحتلت عناوينها وصفحاتها الرئيسية لوقت طويل، ما حدا بالرئيس الفرنسي شارل ديغول للإطاحة بمسؤولي مخابراته ومحاكمة البعض منهم، وعندما رفض الملك الحسن الثاني أن يسلّم قادة أجهزة مخابراته للقضاء الفرنسي، أمر ديغول بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب.
لم تمر واقعة قتل بن بركة في “إسرائيل” بسلام أيضاً، إذ أنها فتحت باب المؤامرات والمؤامرات المضادة بين مراكز القوى في أجهزة الاستخبارات، ففي ذلك الحين كان “إيسر هاريل” الرئيس السابق لـ”الموساد” قد أصبح مستشار “اشكول” للشؤون الاستخبارية، ولأن “هاريل” كان غاضباً من الطريقة المهينة لإطاحته من قيادة “الموساد” وكان يشعر بالحسد من نجاح “أميت” في هذا الموقع، فقد إستخدم الوثائق الإستخبارية التي تشرح تفصيلياً عملية قتل بن بركة لخوض حربه ضد “أميت”. وفي تقرير مطول حول الموضوع ارسله إلى رئيس الحكومة، قال “إيسر هاريل” إن “الموساد” ومن خلاله دولة إسرائيل “تورطا في أعمال شتى من ضمنها عملية إغتيال سياسي لم يكن لإسرائيل مصلحة فيها ولا يجب أن يكون لديها مصلحة أيضاً، وبالتالي فإنني أعتقد أنه كان يجب عدم التورط في هكذا أعمال على الإطلاق”. وطالب “هاريل” رئيس الحكومة بإقالة “أميت” من منصبه. رفض “أشكول” إقالة “أميت”، فإتهمه “هاريل” بالتورط شخصياً بعملية القتل، وطالبه بالإستقالة وهدّده بأن أصداء عملية الإغتيال هذه “قد تصل إلى الرأي العام وعندها ستلطخ سمعة حزب العمل (بزعامة أشكول) بالعار”.
يقول بيرغمان إن ذلك لم يثن “أشكول” عن موقفه الداعم لـ”أميت”، ما حدا بـ”هاريل” إلى تسريب المعلومة إلى إحدى الصحف الصفراء التي تصدر أسبوعياً، ولكن الرقابة العسكرية منعت نشر الموضوع، فقام “هاريل” بإبلاغ عدد من كبار مسؤولي حزب العمل بتفاصيل العملية ودعاهم إلى الانتفاضة على زعامة “اشكول”. حاول هؤلاء المسؤولين إقناع “جولدا مائير” بقيادة الإنقلاب على “اشكول”، فوافقت جولدا مائير على ضرورة رحيل “أميت” لكنها قالت:”أُفضل أن أرمي نفسي في البحر قبل ان أتآمر عليه” (أشكول).
إيسر هاريل يستقيل
قرر الثنائي “اشكول” و”اميت” الرد على “هاريل”، فتقرر نبش تاريخ الأخير في أرشيف “الموساد” لدحض إدعاءاته التي يقول فيها إنه “الراعي الاخلاقي للموساد”. أخرج “أميت” من الأرشيف وثائق عملية الضابط البحري “الكسندر إسرائيلي” الذي باع وثائق سرية للمخابرات المصرية عام 1954 (حينها كان إيسر هاريل مديراً للموساد) وقام عملاء “الموساد” حينها بقتله عن غير قصد بإعطائه جرعة منوم زائدة كانت تهدف إلى إفقاده وعيه قبل نقله من ايطاليا إلى تل أبيب ولكن مع موته تم رمي جثته بالبحر وقيل لعائلته أنه فرّ ليعيش في أمريكا الجنوبية.
أعطى “أميت” نسخة من وثائق العملية لضابط متقاعد في “الموساد” قام بدعوة صديقه الضابط “هاريل” إلى اجتماع وقال له “برأيك ماذا ستكون ردة فعل الرأي العام اذا ما وصلت هذه الوثائق إلى الصحافة المفتوحة الشهية في هذه الأيام”؟ فهم “هاريل” الرسالة وسارع بعدها بوقت قصير إلى الإستقالة.
يضيف الكاتب أن الدرس الذي تعلمه “اميت” من هذه العملية هو أنه “علينا ألا نورط أنفسنا في أمور حساسة ما لم يكن لنا مصلحة مباشرة فيها.. ويجب ألا نقتل شخصاً إلا إذا كان وجوده يهدد مصالح إسرائيل، فعملية القتل هي إما أزرق أو أبيض في اشارة إلى علم إسرائيل”.