إذا كان تاريخ 17 تشرين الأول اللبنانيّ تاريخاً خلافياً بين من صبغه بالعفوية وبين من إعتبره شكلاً من أشكال المؤامرة، فإنه لا يجوز الانقسام حول اعتبار اللحظة نفسها محطة تاريخية مفصلية في تاريخ لبنان؛ أقله للتدليل على عمق الأزمة وطبيعة التحولات المنتظرة. محطة لا تشبه أياً من المحطات السابقة وإن اشتركت معها بالشكل والمطالب والقَبْليات والبعديّات.
في العموم، لبنان هو بلد الاضطرابات. إن عرف إستقراراً فإنه سيبقى نسبياً، ولن يطول حتماً. الاستقرار الأنجع الذي عرفه لبنان كان في عهد فؤاد شهاب. بعده، سيبقى مسرحاً للـ”سسبنس” بإستمرار، تتراوح أحداثه بين لاءي المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله: لا استقرار ولا انهيار. وإذا انكسر اللاءان، كان البديل واحداً وهو الانفجار.
على هذا المنوال، ولا سيما بعد نكسة 1967، ظل لبنان كياناً جغرافياً عصياً على استيعاب “مَعيّة لبنانية” على حد تعبير الدكتور مشير عون. يقول عون: “اللبنانيون فازوا فوزاً قدرياً بهذا الكيان الخاص، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينشئوا له مبرراً فكرياً جامعاً. أتتهم الأرض قبل الوطن، وجاءهم الاستقلال قبل المعنى، ومُنحوا الحرية قبل المسؤولية، فإذا باستقلالهم يئنّ أنيناً مُهلكاً من شدّة التنازع الفكري”.
ولأن اللبنانيين ظلّوا مذ مُنحوا الاستقلال عاجزين عن صياغة جوهر وطني جامع، فقد إصطُلح على لبنان أن يكون “البلد المعجزة”. كتب الصحافي الكبير غسان تويني في افتتاحية العدد السنوي من “النهار” في العام 1967 الآتي:”ومن نحن البشر لنلاعب الأعجوبة، فنعبث بالقدر؟ والحق الحق أن ثمة أعجوبة. ليست أعجوبة الاستمرار في كلّ شيء، بل أعجوبة اللبناني الأقوى من حكومته، والأفهم منها، والأشد صبراً وأطول باعاً وأوفر حيلةً وأبعد نظراً. أعجوبة اللبناني الذي بالكاد يحتاج إلى الحكم، ويكاد الحكم يسربله ويعطّل فاعليّته”.
بين طيات كلام رئيس تحرير “النهار” إشارة للمصنع الذي يولّد المعجزة اللبنانية، أي تلك الاوليغارشيا المتحكمة بمفاصل لبنان الاقتصادية والمالية والسياسية
وبرغم أن تويني، آنذاك، كان يمثل صوت السلطة بما كتبه على خلفية أزمة إفلاس بنك انترا الشهيرة، وما تلاها من إنهيارات مصرفية ومن فرار لرؤوس أموال ومن إعلان الرئيس كميل شمعون نهاية لبنان بما هو سويسرا الشرق، إلا أن بين طيات كلام رئيس تحرير “النهار” إشارة للمصنع الذي يولّد المعجزة اللبنانية، أي تلك الاوليغارشيا المتحكمة بمفاصل لبنان الاقتصادية والمالية والسياسية.
منذ عهد الاستقلال، عُرف ما اصطلح عليه بالـ”كونسورسيوم”، وهو نواة كانت تجمع الأوليغارشيا التجارية (قُدرت وقتها بحوالي 30 أسرة). كانت تحتكر، وما تزال، المفاصل الأساسية في القطاعات الإقتصادية، بما فيها المصارف. حتى العام 1950، قُدرت ثروات 15 أسرة من تلك الأسر بما يعادل تسعة أضعاف خزينة الدولة للعام 1949، وأكثر من 40 % من الدخل الأهلي للعام 1948. كان انذاك ميشال شيحا هو من صاغ العلاقة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية في لبنان، بحيث يتسلم رجال الأعمال السلطة الاقتصادية من خلال رأس السلطة التنفيذية، ورئيس الجمهورية هو مركز تحلق الأوليغارشيا التجارية المالية وشريكها الذي يدافع عن مصالحها الاقتصادية. وكانت أطروحة شيحا تعتبر أن اللبناني يرفص الاستعباد للعمل الصناعي، فكانت الحرية التجارية مبدأ أساسياً لا يُساوم عليها: “نستورد أو نموت” على حد تعبير الخبير الاقتصادي غبريال منسى. فيما كان شيحا يعرّف البرلمان بوصفه “مجمع الوجهاء” و”مجلس الطوائف”. نموذج كُرّس منذ تلك الأيام وما زال حتى يومنا هذا.
في كل تلك المرحلة الممتدة من الاستقلال حتى اندلاع الحراك التشريني، كان مشهد العلاقة بين السلطتين الاقتصادية والسياسية واحداً. وحدها الوجوه والأرقام تتغيّر. الأزمات الاجتماعية واحدة. تعبّر عن نفسها بمظاهرات. بتوترات تتحول أحياناً إلى أحداث دموية، يلعب الخارج فيها أوراقه التي ما تلبث أن تحول المشهد المطلبي والسياسي إلى مشهد أمني.
في كل الأزمات التي شهدها لبنان منذ الاستقلال حتى اندلاع حراك 17 تشرين، بقيت النواة الطائفية للنظام اللبناني ثابتة وحيّة “وتتمدد”، وعليه، كان بالإمكان تصور أو احتمال النتائج المتوقعة عن طبيعة ما ستؤول إليه هذه الأزمات. بذور الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة، كانت تتكشف فصولها منذ سنوات. جرى الحديث عن إفلاس يلوح في الأفق منذ ما قبل الانتخابات النيابية في العام 2018. إفلاس وإنهيار النموذجين السياسي والإقتصادي.
فجّرت أزمة الضريبة على الواتساب الشارع في لبنان في مشهد مهيبٍ ابتسم له كل مواطن لبناني بلا أدنى شك، وارتعبت منه الأوليغارشيا وبعض أقطاب القوى الحاكمة، لا سيما تلك التي لم تدرك حجم الأزمة البنيوية التي يمر بها لبنان.
منذ سنة حتى الآن، وحده مشهد الساحات الغاضبة في الأيام الأولى من الحراك كان جميلاً وباعثاً على الحياة.. كل ما عدا ذلك كان مساراً انحدارياً فاقمه أكثر من عامل، ولا سيما الأزمة الصحية ـ الاقتصادية التي تسببت بها جائحة كورونا. مسار بلغ ذروته مع انفجار المرفأ في الرابع من آب/أغسطس 2020، وكان حاضراً في صلبه دوماً العامل الخارجي المتمثل بالحصار والعقوبات الأمريكية وباستثمار احداث الداخل لتحريكها وفقاً للمصالح الخارجية وأجنداتها.
لا بد من حكومة انتقالية بصلاحيات استثنائية تفضي إلى صياغة عقد إجتماعي جديد. تجاوزت الأزمة هذا أو ذاك من رؤساء الحكومات. لا مهرب من تغيير النظام، اما الرهان على تغييرات ينتجها واقع دولي أو إقليمي، من شأنها إعادة إنعاش النظام القديم، فهو رهان دونه الكثير من المخاطر
التعاطي مع هذا الحراك، وتحديداً من قبل المنتفضين أنفسهم، أفضى إلى رسم مشهدية لا تشبه مشهد 17 تشرين/اكتوبر 2019. فقد تبدّى أن لا رؤية موحدة تجمع المنتفضين، وكان ذلك أمراً بديهياً ومتوقعاً، ذلك أن ما جمعهم، مطلبياً وإجتماعياً، هو قول الـ”لا”، ولكن لم تجمعهم أبداً الـ”نعم”. الغضب الشعبي العارم تجاه السلطة جعل الأصوات الداعية لتغيير جذريّ تتفوق على الأصوات الداعية لمقاومة شعبية لفساد السلطة السياسية. وبما أن الافلاس، أي بذور التغيير الحتمي للنظام، وقع قبل أحداث تشرين، وهو ما كان يجب أن تكون كل قوى السلطة على معرفة ودراية به (وتبدّى أن البعض منها كان جاهلاً لحقيقة الأمور)، فإن راديكالية المطالب كان من المفترض أن تشكل دافعاً لمن هم في السلطة لتحمل مسؤولية واقع سيزداد مأساوية، ذلك أن المهمة الأساس في لحظة الانهيار، وفي إطار بلد طائفي قابل للانفجار، هي التعاطي مع الحدث من منظار اللحظة التاريخية، لا من منظار الحسابات السياسية القديمة التقليدية.
في المبدأ، لم يكن مطلوباً من الناس الا أن يكونوا عامل ضغط على القوى السياسية لكي تتحمل مسؤولياتها في هذه اللحظة التاريخية، من أجل مواجهة واقع الافلاس والحد من تداعيات الإنهيار. لكن هذا لم يحصل طبعاً، ولم يتحمل أحد من أهل السلطة مسؤوليته، فاستقوى الضعيف في السلطة بالقوي فيها، ما أدى إلى تكاتف المنظومة الحاكمة، سواء أكانت في السلطة أم خارجها، وصبّت في هذه الخانة محاولة قسمة الشارع بالشعارات الطائفية حتى تستمد شرعيتها في البقاء، وتحول المشهد في الشارع الى تشكيلات متشرذمة غير متجانسة.. وهذا الواقع هو الأرضية المثلى لكي تلعب الأطراف الداخلية والخارجية المتضررة ما أمكن من أوراقها.
مع تقطع مشاهد الحراك وتكرار مشهد قطع الطرق، لم ينتقل “أصحاب الرؤية” في الحراك، ان جاز التعبير، من مطلب التغيير الجذري إلى مسعى الانتظام الجدي، بحيث تنتخب التشكيلات الموجودة في الشارع ممثلين عنها لفرض شرعية شعبية غير تلك الشرعية الانتخابية، وذلك بهدف دفع السلطة إلى ايجاد حل وسط بين الشرعيتين. غالباً، راهن بعض أهل الحراك على أن الضغط الشعبي الذي تفكك سيعود للالتحام مجدداً بفعل تداعيات الأزمة الخانقة، وهو ما سيساعد في إعادة لحمة الناس تحت العناوين المطلبية والإجتماعية، كما في الدفع بكل أطياف السلطة نحو إعادة تحمل مسؤولياتهم، لا سيما وأنهم يدركون أن السلطة مع الوقت ستخسر المزيد من أوراقها حتى في ظل غياب قوى ضاغطة على الأرض. في هذه النقطة، وحتى وقت كتابة هذا المقال، وحده حاكم المصرف المركزي كان مدركاً طبيعة الناس أنهم “بكرا بيتعودوا”.
لا بد من حكومة انتقالية بصلاحيات استثنائية تفضي إلى صياغة عقد إجتماعي جديد. تجاوزت الأزمة هذا أو ذاك من رؤساء الحكومات. لا مهرب من تغيير النظام، اما الرهان على تغييرات ينتجها واقع دولي أو إقليمي، من شأنها إعادة إنعاش النظام القديم، فهو رهان دونه الكثير من المخاطر، ولو حصل فانه لن يحصل الا بتقديم الكثير من التنازلات على حساب سيادة لبنان وإلتزاماته الوطنية والقومية.
لا بد من جعل الحراك التشريني لحظة تأسيسية في إتجاه تكوين وعي سياسي جديد مرتبط بمفهوم الدولة والمواطنة. وعي تراكمي يضعنا على سكة الانتقال من مسار مقاومة الواقع إلى بداية مسار طويل نحو تأسيس وتكريس الوعي البديل.
اليوم، وبعد عام على الحراك، ثمة خطورة حقيقية كامنة في أن يتواصل ما تبقى منه كحالة غضب مستمرة دونما مشروع، وثمة ما هو أخطر في ألا يُرتقب التغيير إلا بدفع من الخارج، وعندها سيستمر البلد رهين المحبسَين: سلطة في الداخل تراوغ ولا ترى الا طريق الإستدانة والهبات، وضغط من الخارج لا يرى الا مصلحة اسرائيل وملحقاتها الدولية.. لكن الأكيد في نهاية المطاف أن ما آلت إليه الأمور من واقع معيشي ضاغط، في ظل أزمة صحية متفاقمة سيجعل من 17 تشرين حالة غضب مستمرة، كما سيجعل من مكونات السلطة حالة ابتزاز مستمرة.. وبين الحالتين، مزيد من المآسي والدخان الأسود.
كلنا على قناعة أن التغيير سيحصل في النهاية، لأن الانهيار حاصل، وسيفضي الى ولادة واقع جديد، لكن إما أن يكون تغييراً نحو الأفضل، أو سلبياً على شكل حرب وتقسيم وقلاقل أمنية.