تناقلت وسائل الإعلام الأوروبيّة والعربيّة قيام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بتاريخ 15 أكتوبر/ تشرين أول (2020) بزيارة رسمية للجزائر. شملت الزيارة – حسب مصادر إعلاميّة فرنسيّة – إجراء محادثات مع مسؤولين جزائريين، تناولت في ثناياها العلاقات الثنائية بين البلدين، إضافةً إلى ملف الأزمات في المنطقة. وقد احتلّت ليبيا ومالي حيزاً كبيراً من مجريات المحادثات، حيث تعتزم الجزائر لعب دور نشط في حل الأزمتين العالقتين. وتُعدّ تلك الزيارة؛ الثالثة للودريان منذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون في ديسمبر/ كانون الأول 2019.
وفق بيان رئاسة الجمهوريّة الجزائريّة، فإن اللقاء بين تبون ولودريان تخلله “استعراض سبل تعزيز علاقات التعاون الثنائي بين البلدين وضبط أجندة مختلف آليات التعاون الثنائي وعلى رأسها اللجنة الحكومية رفيعة المستوى المنتظر أن تلتئم قبل نهاية السنة الجارية”. وأضاف “كما كان اللقاء فرصة لمواصلة التشاور وتبادل وجهات النظر بين البلدين حول مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك وخاصة الأزمة الليبية والوضع في منطقة الساحل”.
وصرح لودريان بعد لقاء تبون أن “دور دول الجوار أساسي لأنها أولى الجهات المعنية بالمخاطر التي تشكلها هذه الأزمة ويمكنها أن تلعب دور استقرار مع الجهات الليبية على عكس تدخل القوى الخارجية”. مضيفاً “في ليبيا، نعتبر كما الجزائر، بأنه لا يوجد حل عسكري”.
تتّجه الجزائر إلى استيراد ما بين 1.5 إلى 2.5 مليون طن من القمح من روسيا، بعد أنّ فشلت في الحفاظ على اكتفائها الذاتي من هذه المادة، حين بلغ إنتاجها 35 مليون قنطار في شهر يونيو/ حزيران (2019)
لكن الملاحظ بأنّ وزير الخارجيّة الفرنسيّة لم يركز على العلاقات الاقتصاديّة الفرنسيّة ـ الجزائريّة بشكلٍ كافٍ، يسمح لنا فيه، بالتقاط الملاحظات وتدوير الزوايا، إذ أنّ الجزائر تعتزمُ استيراد القمح من روسيا بدلاً من فرنسا، علماً بأنّ أكثر من 60% من القمح الفرنسي الموجّه للإستيراد كان يتّجه إلى الموانئ الجزائريّة.
***
ثمة إحصائيّات تقول بتراجع الإنتاج الفرنسي من 20.9 مليون طن من القمح في عام 2019 إلى 13 مليون طنٍ هذا العام، بمعنى أكثر وضوحاً واقتضاباً: انهار القمح الفرنسي في ظرف عامٍ واحدٍ فقط حوالي 8 مليون طن! هذا الأمر أحدث جدلاً واسعاً في الصحافة الاقتصاديّة الفرنسيّة، واستحوذَ على اهتمام الكثير من الصحافيين الفرنسيين في الآونة الأخيرة.
تتّجه الجزائر إلى استيراد ما بين 1.5 إلى 2.5 مليون طن من القمح من روسيا، بعد أنّ فشلت في الحفاظ على اكتفائها الذاتي من هذه المادة، حين بلغ إنتاجها 35 مليون قنطار في شهر يونيو/ حزيران (2019).
وبرغم اتّجاه الجزائر نحو روسيا لاستيراد القمح، إلا أنّ كمية الاستيراد المشار إليها أعلاهُ لم تبلغ بعد الحجم الاستيرادي الذي كانت تتلقّاهُ من القمح الفرنسي البالغ 8 ملايين طن، مما يشيّ بأنّ مردّ القلق الفرنسي لا يعود إلى استحواذ روسيا على حصتها فحسب، وإنّما إلى ما تتناقلهُ بعض الأخبار هنا وهناك، من أنّ هنالك كميات أخرى من القمح، ترغب الجزائر في استيرادها من جمهوريات ودول حوض البحر الأسود (رومانيا، بلغاريا، أوكرانيا، جورجيا..).
***
لم تخفِ روسيا طموحها في أن تكون المُصدّر الأول للقمح إلى السعوديّة، إذ جرت مناقصة مُعلنة في سبتمبر/ أيلول 2019، جعلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفكّر جدّياً في زيارة المملكة العربيّة السعوديّة في أغسطس/ آب من نفس العام، من أجل الدفع في اتّجاه إنجاح هذه المناقصة، ورسوّها على المُصدّر الروسي. وهو ما حدثَ؛ إذ استوردت السعوديّة ما قيمتهُ 3.5 مليون طنٍ من القمح الروسي، أيّ أنّها بتلك الكمية الاستيراديّة؛ احتلّت المركز الثالث عشر عالمياً من بين الدول الأكثر استيراداً للقمح في العالم. واستطاعت روسيا إزاحة المُصدّر الألماني، وحلّ القمح الروسي على غرار ذلك؛ محلّ القمح الألماني في السوق السعوديّة، ما جعل ألمانيا تتّجه إلى تقديم عروضٍ إلى إندونيسيا والصين والمكسيك (القمح المُقاوم للجفاف) من أجل تلافي خسارة المستورد السعودي.
هل سوف يحلّ القمح مكان السياسة في فرنسا وباقي دول العالم التي تعتمد على هذه المادة في صنع نوعٍ من التكافؤ السياسي والاقتصادي مع دولٍ أخرى؟ وهل سوف يتّجه العالم مرةً أخرى إلى سرديّات السلاح الغذائي؟
لماذا تقصد ألمانيا الصين من أجل تزويدها بالقمح، وقد سجلت الصين وفرةً في انتاج القمح في سهولها الشماليّة والشمال الشرقي، ومجرى نهر يانغتسي الأوسط والأسفل، ودلتا نهر اللؤلؤ، وحوض سيتشوان؟
تعدّ الصين أكبر منتجٍ (وليست مُصدّراً) لهذه المادة في العالم، بما مقدارهُ 131.5 مليون طنّ، أيّ أنّها تأتي بعد دول الإتحاد الأوروبي مجتمعةً، والتي بلغ حجم إنتاجها من القمح زهاء 151 مليون طنّ. وتنتج (الصين) غذاءً لنحو 20% من سكان العالم، بفضل الـ 57% من أراضيها الصالحة للزراعة، ممّا يطعن في جدوى الخيار الألماني، أو يرجّح فضل الشك على اليقين في خبر اتّجاه ألمانيا نحو الصين في تصديرها لقمحها المستغنى عنهُ سعودياً.
تحتلّ روسيا المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر إنتاجاً للقمح بـ 73 مليون طنّ، في حين تنفرد الصين بصدارة الإنتاج، تليّها: الهند بـ 93 ونصف مليون طنّ، ثم تأتي روسيا بالمقدار المشار إليه آنفاً، تتبعها الولايات المتحدة بـ 62 مليون طنّ.
هل سوف يحلّ القمح مكان السياسة في فرنسا وباقي دول العالم التي تعتمد على هذه المادة في صنع نوعٍ من التكافؤ السياسي والاقتصادي مع دولٍ أخرى؟ وهل سوف يتّجه العالم مرةً أخرى إلى سرديّات “السلاح الغذائي” بعد استنفاد مسالك “دبلوماسيّة الغذاء/ القمح“؟
لقد سبق للولايات المتحدة الأميركيّة أن اتخذت من القمح سلاحاً لتصفية حسابها مع حديقتها الخلفيّة سنة 1812، حين قامت بإرسال ما قيمتهُ 50 ألف دولار من القمح من أجل شراء ذمة فنزويلا والاطمئنان إلى تبعيّتها لها. وبالتالي تصبح الولايات المتحدة أوّل دوّلة في العالم الجديد، تدخل مصطلح الغذاء إلى أشكال الحرب المختلفة، وتصنع منهُ أحد التدابير الاحترازيّة.
***
لقد مضت أيام كثيرة وجرى الكثير من الماء تحت جسر زيارة وزير خارجية فرنسا إلى الجزائر، من دون أن تتمّ الإشارة بشكلٍ رسمي إلى الزاوية التي يسكن فيها الشيطان، وهي ترهل مستوى العلاقات الاقتصاديّة بين البلدين في الفترة الأخيرة، خاصة في ملف القمح الفرنسي، لمصلحة بوابة القمح الروسية.