بلا جدال، أو ضمن جدال معقول ومبرر، أقرر أن ولاية الرئيس دونالد ترامب، هذه الخلفية الفولاذية التي ندخل في ظلها إلى مستقبل يبدو من الآن غائما بكثرة أحداثه وتداخل أسبابه، قد شقت في قشرة الكون الجيوسياسي شقوقا سوف نحتاج إلى سنوات من العمل الشاق والصبر العتيد حتى نتعرف على أعماقها ومنحنياتها قبل أن نجرب العيش فيها. أكاد لا أرى قضية لنا فيها نصيب إلا ومسها الرئيس ترامب بعصاه السحرية فتغير شكلها أو تعقدت حلولها، وفي أحسن الأحوال تغيرت مساراتها فتجدد إلى حين أمل الحل أو ابتعد مؤقتا شبح اليأس. أشهد، والذاكرة والحمد لله لا تخون، أن لا قضية مصرية واحدة وجدت بفضله حلا مرضيا يرحمنا من شرور الحروب وطموحات التوسع الإقليمي وعواقب انحدار المكانة.
***
نقترب، وبسرعة كما أعلنت، من نهاية عهد أمريكي وتوازنات للقوى الدولية لم تفصح بعد عن مختلف أبعادها. نقترب أيضا وبنفس السرعة من نتائج مبكرة لأحداث بدأت تتبلور منذ شهور. أقول بوضوح أن بعض هذه الأحداث اجتمعت وإن لم تتكامل بعد، في شكل تطور ثوري في الإقليم الذي ننتمي له، وفي الوقت نفسه تطور ثوري في نظرية العلاقات الدولية، لنكتشف أننا ربما خرجنا من نظام إقليمي عربي وها نحن نطرق، أو تطرق لنا، أبواب نظام إقليمي آخر يتشكل في غيابنا ولم نستعد له. الغريب فيه وفينا إصرارنا الدائم والثابت على أننا لم ندع إلى قيامه أو نضغط لنشأته. نزعم ألا دور لنا في نشأته بينما التاريخ يذكرنا وبكل العنف أننا كنا في صف الذين مهدوا لفكرته قبل أربعين عاما أو ما يزيد. ها هو الآن، أقصد التاريخ، ينصحنا وبكل الخبث، الشرير أيضا، أن نتحرك فورا وإلا وصلنا بعد فوات الأوان فلا نجد لنا مكانا في الصفوف المحترمة.
***
قبل الانتقال إلى قضية أخرى، دعونا نؤكد أن الرئيس ترامب بشخصه وليس بثقل مساعدين أذكياء أو عباقرة ولعلاقته الصادقة والعميقة بالمال استجاب لمشروع تقدم به إليه عدد من أغنى أغنياء اليهود الأمريكيين. عرضوا شراء صكوك عربية في مواقع أخرى خارج فلسطين واستعدادهم دفع القسط الأخير المستحق للصهيونية في فلسطين. طرحوا أيضا بلا خجل أو تردد الرغبة في أن تنهي جامعة الدول العربية علاقتها بفلسطين أو العكس، أي أن يبادر الأعضاء الأصدقاء في الجامعة بطرح اقتراح طرد دولة فلسطين تأكيدا لحسن النوايا. سمعنا هذا الطرح من أحد ثلاثة أو أربعة مولوا المبادرة الإبراهيمية ونفذوها بأنفسهم. لم يتركوا التنفيذ للدوائر الأمريكية المتخصصة مثل وزارة الخارجية. أحدهم، صاحب الطرح، عين نفسه سفيرا للولايات المتحدة يتحدث باسمها وينفذ ما اتفق عليه في السر مع نتنياهو وعائلة الرئيس ترامب. في خضم هذه التطورات الثورية لم ينس السيد بنيامين نتانياهو التصريح بأنه يستعد لإدخال التعديلات الضرورية على خريطة الشرق الأوسط وكأن ما وقع بالفعل حتى الآن لم يغير الخريطة تغييرا جوهريا.
***
أشفق على مسئولين ورثوا هذا الجزء أو ذاك من المعضلة المصرية وفوقهما قضية سد النهضة. أحتار أحيانا، ويحتار معي بعض أبناء جيلي، عندما نجتهد لننسى أننا لم نعد مسئولين فنتسلى في صمت وهدوء بترتيب أجزاء المعضلة المصرية. نرتبها ثم نقضي شهورا نلاحظ ونراقب ونعود لإعادة ترتيب الأجزاء على ضوء ما تغير وفق موازين شتى. ندرس سلوك الحلفاء التقليديين، وحلفاء المصالح المستجدة، وحلفاء العقيدة الدينية أو من تبقى منهم، والحلفاء الأعداء ومن انضم إليهم، ندرس أيضا خبرات الفريق المصري وما استجد فيها أو انحدر. ونزن حجم الإمكانات المتاحة لخدمة مصالحنا وقدراتنا على الصمود، ونقرأ بالتبادل ما يكتبه الزملاء الأجانب، كل في جانب تخصصه، ونكلف الشبان المتحمسين للمشاركة بالبحث والرأي. هكذا نأمل أن نصل إلى وضع يمكن عنده أن نتفهم حال القضية ونقرر في أي اتجاه سوف تمضي خلال الشهور التالية.
أقول بوضوح أن بعض هذه الأحداث اجتمعت وإن لم تتكامل بعد، في شكل تطور ثوري في الإقليم الذي ننتمي له، وفي الوقت نفسه تطور ثوري في نظرية العلاقات الدولية، لنكتشف أننا ربما خرجنا من نظام إقليمي عربي وها نحن نطرق، أو تطرق لنا، أبواب نظام إقليمي آخر يتشكل في غيابنا ولم نستعد له
يبقى دائما كما في أي قضية وضعها في الإطار الأكبر حيث تجد الترابط اللازم ببقية قضايا المعضلة المصرية. أذكر مثلا وقتا ضاع في جهد بذل أثناء محاولة فهم الأسباب التي دعت الرئيس ترامب لعقد اتصاله التليفوني برئيس وزراء إثيوبيا قبل يومين لإبلاغه، متخليا عن شرط اللياقة الدبلوماسية ودور الوساطة، رسالة تحمل إنذارا وبصيغة رسائل الحرب. لم يرق الشك إلى يقين، فالرئيس المنشغل للغاية بظروف إعادة انتخابه لن يكون بحال من الأحوال جادا في رسالته تماما كحاله في كل رسائله المرسلة إلى شعبه وحلفائه في الآونة الأخيرة. الخلاصة أن ترامب بتوجيهه هذا الإنذار لم يفعل سوى أن يزيد قضية النهضة تعقيدا، ويزيد المعضلة المصرية تأزما، ويزيد الأوجاع في القارة الإفريقية وجعا. ألم يفعل الشيء نفسه مع كوريا الشمالية ولم يسمع نصيحة الصينيين فسجل لأمريكا مهزلة تاريخية؟
***
لم ينتقل لي قلق المشفقين على مصير قناة السويس كمجرى اقتصادي وسريع للملاحة العالمية وفائدتها للتعاون بين الشرق والغرب. أتفهم القلق بعد نشر أنباء عن نوايا وخطط إسرائيلية وخليجية لربط الخليج والبحر العربي بالبحر الأبيض المتوسط بطرق نقل واتصال تقرب المسافة وتخفض تكلفة النقل وتفتح منافذ جديدة متطورة للتجارة ونقل الغاز بين دول الخليج ودول جنوب أوروبا. الأهل في مدن القناة لم ينسوا كوارث العدوان الثلاثي والحصار الدولي وتعطيل الملاحة في القناة. أما الأصوات الرسمية فلديها من أسبابها ما يمكن أن يبرر عدم الانفعال لكارثة جديدة يمكن أن تحل بأهل القناة وبالاقتصاد المصري بشكل عام لو أن التحديات ترابطت أو اجتمعت قبل أن تجد الدولة حلولا مبكرة لأزمة ناتجة عن التحول عن استخدام قناة السويس كليا أو جزئيا. أتصور أنه سيكون من الممكن وبالسرعة الممكنة تطوير البنية التحتية لإقليم البحر الأحمر بحيث تستعيد المدن المقامة على الشاطئ الغربي للبحر سمعتها التاريخية كمرافئ خدمت طرق التجارة، أليس هذا ما فعلته الصين حين طرحت ونفذت مبادرة الحزام وطريق الحرير على طرق ومرافئ أحد أقدم طرق التجارة في التاريخ. نستطيع بالتأكيد لو أطلقنا للأفكار العنان وسمحنا للابتكار بالانطلاق.
***
المعضلة المصرية حقيقة واقعة. أهملنا في مجالات حتى حاصرونا من كافة الجهات باتفاقات تحد من حريتنا في الحركة. تقلصت امتيازات وانكمشت إمكانات ورثناها من علاقات دم ومصاهرة وقرابات وثقافة وعقيدة. هناك جهد يبذل وبعضه محمود ولكن الخريطة الجديدة الجاري رسمها للإقليم ومكانتنا ومكاننا فيه لا تعجبني. لا تعجبني لأنني لم أشارك في رسمها برضا أو بإرادتي الحرة، وعلى كل حال لم أدع لأشارك وهي لا تمثلني ولا أرتاح لما تمثله. بصراحة هي تخنقني.
***
2021 يتحدانا من بعيد.