ها هم “يُلخّصون الوطن في قانون.. ويضعون القانون في علبة.. ثمّ يضعون العلبة في جيوبهم”، يكتب الشاعر محمود درويش عن براءتنا، نحن العرب، حين نظنّ أنّ القانون هو وعاءٌ للعدل والحقّ. فهو، برأيه، ليس إلاّ وعاءً لرغبة الحاكم، وبذلةً يفصّلها على مقاسه. هذا ما يحصل اليوم، بالضبط، في لبنان، بعدما تحسّس حُكّامنا رقابهم. لقد شعروا أنّ هناك مَن بدأ بسحب سيف العدالة من غمده. و”سيف العدالة لا غمد له”، كما يقول القاضي محمد عبده أحدُ رموز التجديد في الفقه الإسلامي. خافوا، ويجدر بهم أن يخافوا. كيف لا، وهم الذين تعوّدوا أن يدوسوا القانون والدستور بأقدامهم. وامتهنوا تسليط سيف القضاء على رقاب الغلابة والمشاكسين، فقط لا غير. إذْ، لطالما نظر القضاء عندنا في اتّجاهٍ واحد. أي، إلى حيث تنظر السلطة السياسيّة. ولطالما تمرّست هذه السلطة في بلدنا، في فنون العبث بالنظام والعدالة والأخلاق. إنّه لأمرٌ مرعب حقّاً!
بالعودة إلى خبايا ذاكرتي “المنشَّطة” بصعقة عهر الحُكّام وخنوع القضاء، أستعيد ما روته لي مرّةً صديقتي من مشاهداتٍ عاينتها أثناء تغطيتها الصحفيّة (عام 1994)، لجلسات المحاكمة العلنيّة لسمير جعجع قائد القوات اللبنانيّة (المنحلّة وقتها). لقد كانت عراضات قانونيّة، بكلّ ما للكلمة من معنى، طبّقت ما يقوله المثل التركي “عندما يدخل الثأر من الباب، تخرج العدالة من المدخنة”. ومحاكمة سمير جعجع، كانت نسخةً منقّحة للثأر منه. الثأر، بعدما عصى على الامتثال للتسوية التي كانت قد “حيكت” للبنان. اتُّخِذ القرار في دمشق لتصفية جعجع مع حزبه، سياسيّاً. وهذا ما أكده (على طريقته) الرئيس اللبناني الأوّل بعد الطائف الراحل الياس الهراوي في كتابه “عودة الجمهوريّة من الدويلات إلى الدولة”، وتحديداً في فصلٍ عنونه “قلبي على جعجع”.
اتُّخِذ القرار في سوريا، إذن، لكن كان يجب أن يُنفَّذ بأدواتٍ لبنانيّة، بداعي منح الهيبة لـ”سلطة عهد الوصاية”. ما السبيل إلى ذلك؟ الولوج في أنفاق القضاء المُظلمة. فَبْرك المقتدرون سيناريو تفجير كنيسة “سيدة النجاة” في 27 شباط/فبراير (من العام نفسه). حُمِّل جعجع المسؤوليّة (تمّت تبرئته لاحقاً). توفّرت التهمة لاعتقاله. تكفّل بعدها المحامون، بنبش باقي الملفّات والقضايا من الأدراج. وبقيّة فيلم “ليلة الحُكم على الحكيم” محفوظة عن ظهر قلب. لقطاتٌ مذهلة دارت رحاها في قصر العدل. لقطاتٌ مذهلة في دراماتيكيّتها، تؤكّد صديقتي وتكمل رواية مشاهدات جلسة اليوم الأوّل. وصل جعجع في موكبٍ مموّه مُنِعنا، نحن الصحافيّين، من رؤيته (وهذا ما كان يحصل في كلّ الجلسات). أقلَّه الموكب من سجنه الانفرادي في وزارة الدفاع (وكان تشريع هذا السجن إحدى أبرز الثغرات القانونيّة). ومن أحد الأبواب الجانبيّة، أدخل عسكريّان سمير جعجع إلى قاعة المحاكمة، حيث كان يلتئم المجلس العدلي. هزيلاً شاحباً ينضح تعباً، سار جعجع بخطواتٍ متثاقلة ليستقرّ على المقعد الخشبي على يسار هيئة القضاة. وجلس الصحافيّون على اليمين في الجهة المقابلة. حتّى مَن كان منّا يخاصم جعجع، تستدرك، كان يشعر بالإشفاق على حاله. ولا سيّما، عندما يتأمّل المرء “ثياب الدراويش” التي كانت تفيض عن جسده. سأله القاضي عن اسمه، فأجاب: “سمير فريد جعجع”. ومن ثمّ سأله عن مكان إقامته، فأجاب بشيءٍ من التعجّب الهازئ: “في السجن!”. ساد هرجٌ ومرج في قاعة المحكمة المحبوسة الأنفاس، أصلاً. استُتبِعت الجلبة، على الفور، باستنفارٍ عسكري. لكن، لا تكمن “عقدة” الحكاية هنا، تكمل صديقتي سرد انطباعاتها. لقد كان المشهد السوريالي في جلسةٍ أخرى. الجلسة التي استُدعي إليها، للشهادة، القائد السابق للقوات اللبنانيّة ايلي حبيقة. لماذا؟ سألتها.
جعجع نفسه كان يدرك اللعبة. وهو أعلن في أوّل جلسة محاكمة له: “أُدخلتُ بقرارٍ سياسي وسأخرج بقرارٍ سياسي”، وهذا ما كان عام 2005
كان حبيقة يعيش “أيّام العزّ”، ويحصد المناصب الرسميّة التي تُغدَق عليه في الدولة، مكافأةً له على التحاقه بـ”المعسكر السوري”. وبخاصةّ، بعد مشاركة رجاله، جنباً إلى جنب، مع الجنود السوريّين للإطاحة بحُكم العماد ميشال عون (عام 1990). دخل حبيقة بكامل أناقته، وبوجهٍ لوّحته أشعة الشمس (كان حبيقة مولعاً بالتزلّج). لم يلتفت، ولا مرّة، إلى خصمه اللدود جعجع. “فظيعة تلك المشهديّة”، تقول صديقتي. فهي تختصر مجلّدات من التحليلات والمقالات الصحفيّة والفذلكات القانونيّة. كان يكفي أن ينقِّل الناظر ناظريْه بين الرجليْن، ليفهم الحكمة الأميركيّة في المثل الشهير القائل “تشبه القوانين نسيج العنكبوت. إذْ تقع فيه الطيور الصغيرة وتعصف به الطيور الكبيرة”. ويومذاك، كان سمير جعجع طائراً صغيراً، توهَّم أنّ باستطاعته التغريد خارج سرب التسوية المطلوبة.
طبعاً، ليس الهدف من استذكار محاكمة سمير جعجع اليوم، هو إبداء التعاطف مع الرجل أو التشكيك بجرائم قد يكون ارتكبها خلال حروب لبنان. بل، للإشارة إلى حال اشتغال القضاء اللبناني في تلك المحاكمة. كانت “ريموت كونترول” السلطة السياسيّة تحرِّكه، بين النقطة والفاصلة وكلّ علامات الوقف. بحيث، يمكن تشبيه محاكمة جعجع (والقوات اللبنانيّة) بالـ”شاهد العيان” على كيفيّة انتظام العدالة في ذاك الزمن. وعلى تدخّل السلطة السياسيّة السافر في مرافعات محامي الإدّعاء وحيثيّات الاتّهام. وعلى الانصياع المعيب للقضاء، لكلّ ما يتقرّر على خطّ بيروت- دمشق! فجعجع نفسه كان يدرك اللعبة. وهو أعلن في أوّل جلسة محاكمة له: “أُدخلتُ بقرارٍ سياسي وسأخرج بقرارٍ سياسي”، وهذا ما كان عام 2005.
ما كان فاقعاً في تلك المحاكمة الشهيرة في تاريخ لبنان، هو الانتقائيّة التي أدّت إلى حصر الملاحقة في مَن لم يصعد إلى قطار السلطة. إذْ اصطُفي جعجع وحده للمحاسبة، دون باقي أترابه من أمراء الحروب اللبنانيّة. هل من ضرورة لذكْر أسمائهم؟ كلا، بالتأكيد. فأنتم تعرفونهم أميراً أميراً، ممّن لهم الباع الطويل في سفك دماء اللبنانيّين (وغير اللبنانيّين). فـ”الشاهد الملك” الراحل ايلي حبيقة، يشكّل الدليل القاطع على هذا الكلام. فهل من لبنانيٍّ، مقيم أو مهاجر، لا يعرف أنّ حبيقة كان بطل مذابح مخيميْ “صبرا وشاتيلا”؟ هل من أحدٍ ينسى تلك الصورة “الوطنيّة” الباسمة له مع آرييل شارون؟ لكنّ ولاء حبيقة للنظام السوري (المستدرَك)، كان كفيلاً بغسل سجّله الإجرامي!
كان يُخْصى العبيد قهراً من أجل الخدمة داخل قصور الملوك والقادة والمُترفين. وهذا ما افتُعِل بالقضاء اللبناني في ما بعد اتفاق الطائف، كي يخدم القضاة مَن في داخل قصور الحُكّام والقادة والمترفين
وكما في زمن الوصاية السوريّة بالأمس، كذلك في زمن وصاية الطبقة السياسيّة اللبنانيّة اللعينة اليوم. إذْ، يستمرّ غسل السجّلات بمسحوقٍ فعّال جداً، لم تعرف أسواق العدل في المعمورة نظيراً له. إنّه “سيف الحصانات”. مهنَّدٌ من سيوف العدالة مسلولُ! الحصانات وما أدراكم ما الحصانات. إنّها حصن الفاسدين ودرع المجرمين في بلاد أرز الربّ. إنّها تكريس اللّامسؤوليّة التامّة لحُكّام لبنان. إنّها نظام تدجين العدل. إنّها آليّة خصْي القضاء! فمعروفٌ أنّه، وحتّى وقتٍ قريب، كان يُخْصى العبيد قهراً من أجل الخدمة داخل قصور الملوك والقادة والمُترفين. وهذا ما افتُعِل بالقضاء اللبناني في ما بعد اتفاق الطائف، كي يخدم القضاة مَن في داخل قصور الحُكّام والقادة والمترفين.
بات بلدنا، ولا سيّما بعد جلاء القوات السوريّة، عصيّاً على محاسبة حُكّامه. ممنوعٌ أن يُحال مسؤول إلى التحقيق. أو أن يُتّهم مسؤولٌ بأيّ تهمة. أو أن يُحاكم فيه مسؤول. المحاسبة تحصل، فقط وحصراً، إذا كان هذا المسؤول غير مطابق للمواصفات المطلوبة من قِبَل الحاكم أو رجل السياسة.. أي من قِبَل سلطة الوصاية التي تتحكّم بالمصير (ودائماً هي خارجيّة للمفارقة!). ألم يحصل هذا مع سمير جعجع، ذات زمن؟ بلى. مذّاك، قرّرت الطبقة الحاكمة في لبنان، منح نفسها سلطة التعدّي على القانون، وذلك تحت شعار “ما يريده الملك يريده القانون”، كما يقول الرفاق الفرنسيّون.
ذلك القانون تُستحضر روحه في أيّامٍ محدّدة في السنة. مثلاً، عندما يحتاج حُكّامنا إلى “سيف الحصانة” كي يقطع بحدِّه المسنون، كلّ الطرق التي قد يسلكها مسار العدالة. وهذا يحصل مع روح الدستور، أيضاً. فحُكّامنا لا يتذكّرون، أبداً، كيف عطّلوا، بالكامل وطوال 12 سنة، كلّ مواد دستورنا المغتصَب، المتّصلة بالموازنة العامّة السنويّة. هم جعلوا جميع عمليّات الإنفاق والجباية والاستدانة غير قانونيّة، وارتكبوا، بالطالع والنازل، المخالفات البحريّة والاعتداءات عليها..إلخ. يتذكّرون، وزراءً ونوّاباً ورؤساءً، ما يحلو لهم من القوانين. يتذكّرون ما يناسبهم من مواد دستوريّة ضامنة لحصانتهم وامتيازاتهم. لكنّهم، يتناسون ولا يتعرّفون على مجمل المواد التي تُرتِّب عليهم أيّ واجباتٍ أو مسؤوليّات. علماً، أنّ الحصانات لم تكن لتُمنَح لهؤلاء، إلاّ لكي يتمكّنوا من القيام بهذه الواجبات والمسؤوليّات بحرّية واستقلاليّة، ومن دون ضغوطٍ أو تدخّلات خارجيّة (من قبل سلطة أخرى أو من قبل المعارضين).
إنّ جميع مَن كانوا يعلمون بمحتويات العنبر 12 في مرفأ بيروت، كانوا على علمٍ بهذا “الخطر العامّ”، لكنّهم لم يحرّكوا ساكناً. إنّهم مجرمون، إذن، كونهم سفّهوا الخطر الكبير الذي كان يُحدِق بالمواطنين الآمنين
من هنا، ولتحقيق مبدأ “لا أحد فوق القانون” (الذي هو من أركان دولة الحقّ والمواطَنة)، تُرفَع الحصانة عن مسؤولٍ ما، كإجراء كفيل بإنفاذ العدالة وضمان المساواة. إذن، الحصانة امتيازٌ لا يتمتّع به الشخص لذاته، بل للمهامّ المنوطة به. وفي حال ارتكاب صاحب الحصانة جريمةً أو جنحة تتعلّق بالحقّ العامّ، فإنّ العدالة تسري عليه مثله مثل غيره (ولكن وفق ضوابط معينة). لا شيء يمنع الإدّعاء، إذن، على نائبٍ أو وزيرٍ أو موظّفٍ عمومي، متى ارتكب جرماً. وعندما استدعى القاضي صوّان بعض الوزراء والمسؤولين، فهو استدعاهم على خلفيّة ارتكابهم “الإهمال الجرمي”. فهُم، من بين بعض أركان السلطة، قد ارتكبوا جريمة “تسفيه الخطر العامّ”، على حدّ توصيف المحامي والحقوقي نزار صاغية. إذْ إنّ جميع مَن كانوا يعلمون بمحتويات العنبر 12 في مرفأ بيروت، كانوا على علمٍ بهذا “الخطر العامّ”، لكنّهم لم يحرّكوا ساكناً. إنّهم مجرمون، إذن، كونهم سفّهوا الخطر الكبير الذي كان يُحدِق بالمواطنين الآمنين.
إذا كانت جريمة المرفأ كبيرة، فإنّ ما يحدث بعد هذه الجريمة، أخطر بكثير. ونعني به، محاولة أركان سلطة النيترات، جعل تفجير ثلث بيروت وقتْل وجرْح وتشتيت وتهجير آلاف اللبنانيّين، قضيّةً منسيّة. قضيّة مثلها مثل سائر القضايا المطمورة بالنفايات. وما تشهده أروقة “القضاء وقصر العدل” اليوم خطير للغاية، أيضاً. فعدا الانقسام الحاصل داخل السلطة القضائيّة، فإنّ هرجاً ومرجاً يسودان الاجتهادات القانونيّة وعمليّات الفتح الكيدي للملفّات. صار القضاء صندوق بريد بين أركان السلطة السياسيّة. ولا تزال تبليغات المُدّعى عليهم في جريمة تفجير بيروت، تجول بين النيابة العامّة التمييزيّة والأمانة العامّة لمجلس النواب وقيادة الجيش والمجلس الأعلى للدفاع والقوى الأمنيّة. وكلّ ذلك ليتأكّد المؤكَّد “بأنّ القضاء والسياسي والحرامي هم شركاء في لبنان”، على حدّ تعبير النائب جميل السيد. ويرتاب المدير العام السابق للأمن العامّ من أن يكون “تكبير حجر إدّعاء صوّان، هو مجرّد محاولة لتمييع التحقيق في الجريمة وطمسه”. وبعد؟
مَن يدافع عن حصانات الوزراء والنواب والرؤساء، إنّما هو يُجْرِم بحقّ الشعب اللبناني، بعامّة، وبحقّ ضحايا انفجار بيروت، بخاصّة. فهذه الحصانات، التي تتّكئ على الاستنفارات الطائفيّة وخطوط المرجعيّات الدينيّة الحمر المطالِبة بـ”الإدّعاء الميثاقي” (أي عبر الـ 6 و 6 مكرّر)، لا تفعل إلاّ منع القضاء من محاسبة الجميع سواسية. لكنّ الطبقة الحاكمة قرّرت، أنّه لم يعد هناك قضاء في لبنان بحجّة أنّه فاسد. فهذه “السلالة السياسيّة”، بحسب توصيف الزميل سامي كليب، أفسدت طوال عقود هذا القضاء، وهي تريد الآن أن تقبض ثمن سعيها الدؤوب لذلك الإفساد. ما هو الثمن؟ التمرّد على القضاء المُفْسَد، عملاً بالمثل الإيطالي “نحبّ العدالة في منزل الآخرين”! ما يعني، أنّ الجهد الذي بُذِل، من جانب السلطة السياسيّة، إنّما كان الهدف منه هو إيجاد قضاء فاسد لكي يحكم الشعب اللبناني وليس حُكّام هذا الشعب!
كلمة أخيرة. يقول الفيلسوف الفرنسي Jean-Marie Muller “ليس القانون هو الذي يُملي ما هو عادل، بل إنّ العدالة هي التي تفرض ما هو قانوني. وحين يكون الصراع بين القانون والعدالة، علينا أن نختار العدالة وأن نعصي الشرعيّة. لأنّ ما يجب أن يُلهم الإنسان في سلوكه، ليس ما هو شرعي بل ما هو مشروع”. العدالة ثمينة جداً، ولذلك تكلّفنا غالياً. لكن، إذا عرف قضاتنا الأشاوس أنّ أعمدةً خفيّة اسمها “العدالة”، هي ما يمنع إنهيار السماء على الأرض، فهل سيسمحون أن يضيع العدل وينهار كلّ شيء على رؤوسنا؟ إقتضى أن نعقد الآمال على انتفاضةٍ قضائيّة تطهِّر العدليّة.