من يردع إسرائيل إذا عجزت الدولة اللبنانية والمقاومة؟

لا يخلو نقاش بين معارض للمقاومة وآخر مؤيد لها، من تبنّي الأول لنظرية حصرية السلاح بيد الجيش وقرارات مجلس الأمن والمجتمع الدولي للدفاع عن لبنان، فيما يعتبر الثاني أن التجربة بيّنت أن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لتحقيق الردع مع إسرائيل.

لا يدعي هذا النص الموضوعية، لأنه منذ البداية يريد أن يُبيّن أرجحية الخيار الثاني، ذلك أن تجربة المقاومة اللبنانية رسمت معادلات وقواعد اشتباك مع العدو، أقلّه بعد حرب تموز 2006، لم يسبق لأي بلد عربي أن فرضها أو استطاع أن يقترب منها. لكن بعد الحرب الأخيرة انقلبت المعادلات وقواعد الاشتباك رأساً على عقب، بعد أن تلقت المقاومة اللبنانية ضربة قاسية جداً. وبالتالي، باتت إمكانية الادعاء بأن المقاومة قادرة على أن تستعيد توازن الردع السابق.. مستبعدة إلى حد كبير ليس بفعل الحرب ومعطياتها ونتائجها بل بفعل الزلزال السوري.

ما قبل الحرب ليس كما بعدها

بموضوعية، لم يكن حزب الله اليوم ولن يكون بوارد الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، ليس ترفاً أو ورغبة منه في إعطاء الحكومة اللبنانية أو العهد الجديد فرصة لاعتماد الدبلوماسية وسيلة لمواجهة الخروقات الإسرائيلية العديدة، لا سيما احتلال النقاط الخمس وإقامة منطقة عازلة متقطعة على طول الحدود بين لبنان وإسرائيل بل لأنه على يقين أن رد المقاومة يُمكن أن يُرفر ذريعة لاعادة تجدد الحرب على لبنان بكل أكلافها البشرية والعمرانية والاقتصادية والعسكرية وحتى السياسية. ويعرف الحزب جيداً أن إسرائيل أو بالأحرى، الحكومة الإسرائيلية التلمودية بوئاسة بنيامين نتنياهو لا تؤمن إلا بلغة القوة.. لكن بعد تلاشي قوة ردع الحزب أصبح الأمر مختلفاً.

لا شك، أن نسخة الحزب قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ولّت من دون رجعة، وموازين القوى بعد “طوفان الأقصى” اختلت لمصلحة الكيان العبري هذه المرة، بعد تفوقه في الحرب الأخيرة على أكثر من مستوى باستثناء المواجهة البرية. وبالتالي، باتت أي حرب مقبلة يريد “حزب الله” خوضها، تحتاج إلى مقاربة مختلفة، لا سيما لجهة اعتماد وسائل جديدة ونوعية أسلحة جديدة وتقنيات جديدة، من دون اغفال أهمية دور المقاتل وعقيدته في ضوء ما بيّنته وقائع الحرب البرية طوال 66 يوماً.

عالم تحكمه شريعة الغاب

إسرائيل اليوم، مع حليفتها الولايات المتحدة، هما الدولتان المتفوقتان في مجال الذكاء الإصطناعي على العالم أجمع. لذلك نرى اليوم الصراع الأميركي مع الصين على أشده، لأنه إذا قُدر لبكين أن تتجاوز واشنطن في موضوع الذكاء الاصطناعي، والذي أسماه الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان في مقالة له في “نيويورك تايمز”، الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، سوف تصعد الصين إلى رأس الهرم العالمي.

وعليه، يحتاج الحزب إلى مدة زمنية، ليست بقصيرة، للخوض في عالم الذكاء الاصطناعي (كان باشر تدريب عشرات وربما مئات المهندسين للعمل في هذا القطاع قبيل حرب الاسناد)، وهذا ما يدعو الحزب إلى الكمون والصبر الاستراتيجي، وليس أي أمر آخر، في مواجهة مرحلة هي الأخطر والأصعب في تاريخه، لأن أي تصرف غير ذلك قد يضعه في وضع لا يُحمد عقباه.

لم يعتد الحزب أن يقف خلف الدولة، لأنه لا يؤمن بالعمل الدبلوماسي مع العدو، في ظل عالم تحكمه شريعة الغاب، سكت ويسكت عن أفظع إبادة جماعية في تاريخ البشرية، تُرتكب بحق نساء وأطفال وشيوخ غزة.. لكن ظروف الحرب الأخيرة تجعل مقاربة الحزب للدولة تتخطى البعد الدفاعي إلى طرح أسئلة أعمق حول علاقته بالدولة كضمانة مستقبلية للشريحة التي يُمثلها في لبنان.

أما الذين ينادون بأن يضطلع الجيش بحماية الجنوبيين بصورة خاصة، واللبنانيين بصورة عامة، فهم يعرفون أن الجيش غير قادر على هذه المهمة التي عجزت عنها كل الجيوش العربية. زدْ على ذلك أن جميع القوى اللبنانية لم تتعامل بجديّة مع قضية السعي إلى تسليح هذا الجيش، هذا إذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً، في الوقت الذي يمنع الأميركيون عن الجيش اللبناني أي استحواذ على سلاح المقاومة الذي يتم تفكيكه من كامل منطقة جنوب نهر الليطاني، تنفيذاً لقرار مجلس الامن 1701. إذا يفرض عليه الأميركيون تدمير كل تلك الأسلحة برغم أنها لا تقارن بما تملك إسرائيل، وذلك بذريعة عدم استحواذ الحزب عليها مجدداً!

ما العمل؟

أمام عجز الجيش والمقاومة على حد سواء، عن مواجهة الأخطار الآتية من الجنوب وحماية الجنوبيين، لا بدّ من اجتراح وصفة مناسبة لمعالجة هذه المعضلة، عبر مقاربة جديدة للعلاقة بين الدولة والمقاومة بعيداً عن معادلة “جيش شعب مقاومة” التي أعلن رئيس الحكومة نواف سلام انتهاء صلاحيتها. لذا، لا بد من الخروج من العلاقة الصفريّة القائمة بين الدولة والمقاومة، بحيث أن أي علامة يحصل عليها طرف تكون نقصاناً من رصيد الطرف الآخر، والعكس صحيح. وهذا يقتضي الذهاب إما إلى حوار وطني عام، أو إلى حوار ثنائي بين الدولة ممثلة برئيس الجمهورية العماد جوزاف عون وقيادة حزب الله، يفضي إلى صيغة ما، تحتفظ فيها الدولة بقوة الردع التي يوفرها الحزب، سواء لجهة العديد المدرب لديه والذي يملك إرادة في التضحية من اعلى درجاتها، أو لجهة وضع ما تبقى من أسلحة لا يوجد بحوزة الجيش ما يوازيها أو أن يُصار إلى انشاء الحرس الوطني أو ايجاد صيغة تضمن للدولة حصرية السلاح وتُعيد المقاومة إلى كنف السرية التي انطلقت منها هي وغيرها من الفصائل المقاومة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

إقرأ على موقع 180  لبنان: هل نحن أمام عقد ضائع من الإنهيار الطويل؟

في الخلاصة؛ ثمة نموذج يُقدمه خطاب رئيس الجمهورية في سبيل توحيد الطرح اللبناني ولا سيما لجهة التشديد على اعتماد الحوار من جهة وعدم الوقوع في فخ المطالب الإسرائيلية من جهة ثانية والتأكيد على توافقه مع الرئيس نبيه بري على صيغة ما لحماية الأمن الوطني اللنباني من جهة ثالثة، ولعل أجوبته رداً على أسئلة نائبة الموفد الأميركي للمنطقة، مورغان أورتاغوس، قد أعطت نموذجاً لكيفية التعبير عن مصلحة لبنان العليا. وأي طرح متطرف غير ذلك، سواء من الدولة أو المقاومة، والتناقض بينهما، سوف ينعكس سلباً على البلد وكل أبنائه..

Print Friendly, PDF & Email
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  "إسرائيل" تُشرّع الإغتيالات توراتياً.. "إنهض واقتلهم أولاً" (101)