هل تهب رياح الحرب من الحدود البحرية الجنوبية؟

فيما كان الجميع ينتظر تحديد موعد جديد للجلسة الخامسة من مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان والعدو الإسرائيلي، دخلت الولايات المتحدة مجدّدًا على خط المفاوضات، برغم التقديرات القائلة بأن المفاوضات مؤجلة إلى ما بعد تسلم الإدارة الأميركية الجديدة مهامها..

فقد أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بتاريخ 22 كانون الأول/ديسمبر أن بلاده لا تزال مستعدّة للتوسّط في مناقشات بنّاءة بين لبنان وإسرائيل بشأن حدودهما البحرية، وحثّ كلا الجانبين على مواصلة المفاوضات على أساس الادعاءات الخاصة بكل منهما والتي أودعاها في السابق لدى الأمم المتّحدة.

ردّ وزير الخارجية اللبنانية شربل وهبة على كلام بومبيو فجدّد ترحيب لبنان بالدور الأميركي كوسيط في المفاوضات غير المباشرة للتوصّل إلى ترسيم الحدود البحرية، لكنه نفى أن يكون لبنان أودع الأمم المتّحدة أي خرائط سوى خرائط الحدود البرية التي وضعت في العام 1922، واعتبر أن كلام بومبيو يعني دعوة الطرفين للاستناد على هذه الخرائط للانطلاق منها لترسيم الحدود البحرية استنادًا إلى القوانين والأعراف الدولية.

حسنًا فعل لبنان بإصدار ردّ رسمي من قبل وزير خارجيته ولكن تفسير كلام بومبيو جاء بطريقة خاصة قد لا تكون متطابقة مع نيته الحقيقية. كما أن نفي الوزير وهبة أن يكون لبنان أودع الأمم المتّحدة غير الخرائط البرية التي وضعت في العام 1922 قد يؤثّر سلبًا على مصداقية الحكومة اللبنانية كون لبنان أودع الأمم المتّحدة إحداثيات حدوده الجنوبية في العام 2010 وفي العام 2011 معتمدًا النقطة (23) كنقطة حدودية ثلاثية من جهة الجنوب.

إن كلام بومبيو هو بمثابة تأييد واضح لموقف إسرائيل الذي يطالب لبنان طالب بالتفاوض على أساس خط الموفد الأميركي فريدريك هوف، خاصةً وأنه يعرف أن هوف وضع خطّه بالتننسيق مع السلطات السياسية اللبنانية وبمشاركة فريق عسكري لبناني وقد شرح هوف تفاصيل وساطته وذكر أسماء اللبنانين الذين شاركوه في وضع خطه في العام 2012 وذلك في مقاله الأخير على موقع “نيوزلاين” بتاريخ 4 كانون الأول/ديسمبر الماضي. لذا، ستتمسّك إسرائيل أكثر بمقترح هوف وقد تُبدي بعض المرونة المحدودة إرضاءً للوسيط الأميركي شرط أن لا تتأثّر مشاريع الغاز عندها، ولكنها لن تفعل ذلك قبل التأكّد من وجود سلطة لبنانية قادرة على إتخاذ القرارات الجريئة.

إطار تاريخي للمفاوضات

وكانت الوساطة الأميركية قد بدأت في العام 2012 عندما اقترح مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى فريدريك هوف خطًا وسطيًا يقسم المنطقة بين النقطتين (1) و(23) إلى منطقتين بحيث يعطي لبنان 468 كلم2 مقابل 392 كلم2 للعدو الإسرائيلي، إلا أن لبنان لم يوافق لبنان حينها على هذا الاقتراح.

عادت الوساطة الأميركية إلى الواجهة مع زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى لبنان بتاريخ 19 آذار/مارس 2019 حيث عرض على المسؤولين اللبنانيين إحياء الوساطة الأميركية فلمس تجاوبًا لبنانيًا. عندها استؤنفت الوساطة الأميركية بتاريخ 14 أيار/مايو 2019 بقيادة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى دايفيد ساترفيلد ثم سلّم المهمة لخلفه دايفيد شينكر بسبب تعيينه سفيرًا لبلاده في تركيا.

بعد ثماني سنوات من التفاوض، أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري في احتفال رسمي أقيم بتاريخ الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2020 التوصّل إلى اتفاق إطار. انتقلت بعدها مهمة التفاوض إلى عهدة رئيس الجمهورية الذي أصدر توجيهاته التي تلاقت مع توجيهات قيادة الجيش بالانطلاق من نقطة رأس الناقورة باعتماد تقنية خط الوسط دون احتساب أي تاثير للجزر الساحلية أي بإضافة مساحة 1430 كلمجنوب النقطة (23).

عُقدت ثلاث جلسات تفاوضية بتاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر و28 و29 تشرين الأول/أكتوبر توزعت بين التعارف وعرضُ الفريقين تصورهما لرسم الخط الحدودي، إلا أن الجلسة الرابعة التي عقدت بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر، سبقها تعمد العدو الإسرائيلي تسريب خطّين جديدين أحدهما بزاوية 310 درجات، فردّ الجانب اللبناني أيضًا عبر الإعلام بطرح خطّين جديدين الأول موازٍ لخط العرض والثاني هو امتداد للحدود البريّة.

قبيل الجلسة الخامسة التي كانت مقرّرة في الثاني من كانون الأول/ديسمبر، أطلق وزير الطاقة الإسرائيلي تغريدتين، اتهم في الأولى الجانب اللبناني بتغيير موقفه سبع مرات الأمر الذي ردّ عليه الجانب اللبناني بالوقائع والوثائق فأظهر أن هذا الكلام هو محض كذب وافتراء. أما في التغريدة الثانية فقد دعا رئيس الجمهورية اللبنانية للتفاوض المباشر في أية دولة أوروبية.

في ظل هذه الأجواء المتوتّرة، تم تأجيل الجلسة الخامسة واستُبدلت بجولة قام بها الوسيط الأميركي السفير جان دوروشيه اجتمع خلالها مع رئيس الجمهورية وقائد الجيش والوفد المفاوض. وأكّد عون خلالها على متابعة المفاوضات، وطلب من السفير الأميركي التفاوض وفق القانون الدولي وعدم حصره بين النقطتين (1) و(23).

أما وقد بلغت الأمور هذا الحد، وفي إنتظار الإدارة الأميركية الجديدة، ما هي الخيارات المتاحة أمام لبنان؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال لا بد من تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف عند العدو الإسرائيلي وعند لبنان والتي يمكن إيجازها على الشكل التالي:

أولاً، بالنسبة للعدو الإسرائيلي:

نقاط الضعف:

  • موقف بنيامين نتنياهو الضعيف نتيجة وجود خلافات سياسية داخلية أدّت إلى حلّ الكنيست والدعوة لانتخابات مُبكرة.
  • الإستعداد للبدء باستخراج النفط والغاز من حقلي لفيتان وكاريش بعد الانتهاء من تجهيز السفينة FPSO التي تم تصنيعها في الصين ويتم تجهيزها حاليًا في سنغافورة ومن المتوقع أن تكون جاهزة وتبدأ عملية استخراج الغاز في النصف الثاني من العام 2021، وهذه قد تكون نقطة ضعف (الإلتزام) ونقطة قوة (إمتلاكها) في آن معاً.
إقرأ على موقع 180  لبنان: التدقيق الجنائي يضيع في دهاليز الصياغات الفضفاضة

نقاط القوة:

  • وجود جيش مجهّز بأحدث الأسلحة وسلاح جو قادر على ضرب أهدافٍ استراتيجية وسلطة سياسية جاهزة لاتخاذ القرارات الصعبة برغم الانقسامات السياسية الحالية.
  • التقارب الأخير مع عدد كبير من الدول العربية، الأمر الذي ستستثمره إسرائيل في تنفيذ مشاريع استثمارية مشتركة وإقامة تحالفات عسكرية استراتيجية.
  • انضمام إسرائيل إلى منتدى الشرق الأوسط للنفط والغاز الذي يضم فلسطين الأردن، مصر، قبرص، اليونان وإيطاليا وبالتالي فإن أي عرقلة لهذا المشروع ستثير غضب الدول المستفيدة منه وتجعلها تقف إلى جانب إسرائيل.
  • الدعم الأميركي والأوروبي المطلق لإسرائيل.

قد تشكّل خطوط النفط والغاز مشاريع حروب تؤدي إلى الإطاحة بالحدود وتغيير خرائط الدول من أجل تأمين طريقها. الأمثلة كثيرة من أفغانستان، إلى العراق، إلى جورجيا، إلى شبه جزيرة القرم، إلى ليبيا، إلى سوريا وأخيرًا إلى إقليم ناغورنو قره باخ

ثانيًا، بالنسبة للبنان:

نقاط الضعف:

  • الانقسام السياسي الحاد، الأمر الذي يمنع قيام حكومة قادرة ويجعل من الصعب اتخاذ قراراتٍ جريئة في مواضيح حساسة كموضوع ترسيم الحدود البحرية.
  • تخبّط لبنان في مجموعة أزمات وخاصةً الأزمة المالية الخانقة الناتجة عن الفساد وسوء الإدارة والتي تفاقمت نتيجة الحصار العربي والدولي على لبنان.
  • ارتكاب لبنان مجموعة أخطاء أهمها اعتماد النقطة رقم (1) في العام 2007، اعتماد النقطة (23) في العام 2009 وإيداع الأمم المتّحدة إحداثيات حدوده الجنوبية باعتماد النقطة رقم (23) كنقطة حدود ثلاثية.

نقاط القوة:

  • تماسك الجيش اللبناني ودعمه المطلق للفريق اللبناني المفاوض.
  • صلابة الفريق اللبناني المفاوض وتأسيسه ملفا مُحكما ومستندا كليًا للقانون الدولي.
  • إمكانية قيام لبنان بتعديل المرسوم 6433/2011 وإيداع التعديل الأمم المتّحدة، وهذا الأمر قد يمنع الشركات العالمية من العمل في المنطقة الخلافية كون عملها في هذه الحالة يكون مخالفًا للقوانين الدولية.
  • وجود معادلة توازن الرعب بين لبنان وإسرائيل، خاصةً وأن المقاومة أعلنت عدة مرات أنها لن تسكت عن أي مساس بالمياه والثروات اللبنانية.

من هنا، سيكون أمام المفاوض اللبناني اختيار أحد الحلّين التاليين:

الحل الأول: إجراء تقدير موقف واقعي لمعرفة إلى أي حدّ يمكنه متابعة التصلّب، والبدء بإجراء مناورة ذكية بطرح خطٍ جديد قد يكون باعطاء صخرة تخيليت نصف تأثير وذلك من أجل تحريك المفاوضات وتحصيل أقصى الممكن من الحقوق، على أن يبقى التصلّب تحت سقف إنجاح المفاوضات. هذا الحل يؤدي إلى إنطلاق عمليات الإستثمار من قبل الجانبين بشكل آمن يسهّل عمل الشركات العالمية المنفّذة. ولكن اتخاذ قرارٍ كهذا يتطلّب قيام حكومة لبنانية متماسكة ومدعومة من قبل القوى السياسية اللبنانية.

الحل الثاني: التمسّك بالخط اللبناني الجديد (النقطة 29) وعدم تقديم أية حلول بديلة في غياب سلطة سياسية فاعلة وقادرة على اتخاذ قرارات جريئة. هذا الحل يعني فشل الوساطة الأميركية وتحميل لبنان مسؤولية هذا الفشل. الأمر الذي سيخلق حالة توتّر وقد يقدم العدو الإسرائيلي على عدم احترام الخط اللبناني الجديد، ويتابع العمل بشكل طبيعي داخل حقوله المكتشفة للمضي في مشروع أنابيب شرق المتوسط. هنا سيكون لبنان أمام أحد الخيارين التاليين:

الخيار الأول: عدم القيام بأي رد عسكري أو القيام بردّ محدود لا يُجبر إسرائيل على توقيف أعمالها. وهنا سيخسر لبنان فرصة الاستفادة من الوساطة الأميركية التي قد لا تتكرّر في المستقبل القريب وتكون جميع الدول المحيطة قد سبقته إلى استثمار مواردها الطبيعية.

الخيار الثاني: قيام لبنان برد عسكري موجع لمنع إسرائيل من متابعة عملها (يندرج في هذه الخانة كلام الأمين العام لحزب الله في مقابلته الأخيرة مع “الميادين”، عندما أعلن وضع إمكانات المقاومة بتصرف الدولة اللبنانية)، وهذا الأمر قد يدفع العدو الإسرائيلي للقيام بعدوان عسكري واسع مستفيدًا من تحالفاته الجديدة مع دول عربية ومن غطاء دولي واسع تؤمنّه له الولايات المتّحدة ودول غربية عديدة.

إن الصراع الدولي حول الثروات الطبيعية يعطي خطوط النفط والغاز أفضلية مطلقة على الخطوط الحدودية، وقد تشكّل خطوط النفط والغاز مشاريع حروب تؤدي إلى الإطاحة بالحدود وتغيير خرائط الدول من أجل تأمين طريقها. الأمثلة كثيرة من أفغانستان، إلى العراق، إلى جورجيا، إلى شبه جزيرة القرم، إلى ليبيا، إلى سوريا وأخيرًا إلى إقليم ناغورنو قره باخ. هل سيكون لبنان العائق الأول أمام مشروع أنابيب شرق المتوسط East Med Pipeline Project وهل ستهب رياح الحرب من الحدود البحرية الجنوبية؟

Print Friendly, PDF & Email
أنطون مراد

عميد ركن متقاعد

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  بن سلمان (إيكاروس) يُدرك الحقائق الصعبة أميركياً.. ولكن!