خيرسون، تختلف عن منطقة خاركيف في الشمال الشرقي التي إستعادتها القوات الأوكرانية في أيلول/سبتمبر المنصرم، فالمدينة لها رمزية كبيرة بالنسبة لموسكو. فهي العاصمة الإقليمية الوحيدة التي تمكنت القوات الروسية من دخولها في الأيام الأولى من الحرب، فضلاً عن محاذاتها مباشرة للقرم الذي ضمّته روسيا في حربها الخاطفة عام 2014، عقب خلع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في “ثورة ملونة” مدعومة من الغرب. وأضف إلى ذلك أن خيرسون، هي إلى جانب زابوريجيا ولوغانسك ودونيتسك، من المناطق الأوكرانية التي أعلن الرئيس فلاديمير بوتين ضمها إلى روسيا في إحتفال كبير وسط قاعات الكرملين الفسيحة في 30 أيلول/سبتمبر الماضي.
وبقدر مرارة كأس الخسارة المعنوية الجسيمة التي تلاقيها روسيا بسبب قرار الإنسحاب، بقدر ما سيعتبرها الأوكرانيون وحلفاؤهم الغربيون نصراً كبيراً ولحظة تحولٍ كبيرة في الحرب، وتأكيداً على صوابية القرار الأميركي بمساندة كييف منذ اللحظة الأولى للحرب في مواجهة الهجوم الروسي.
هل تكون خيرسون مدخلاً إلى الحل السياسي أم خطوة محسوبة لشراء الوقت وإلتقاط الأنفاس في أشهر الشتاء القارسة، أم بداية لنقل الحرب إلى القرم، مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من تصعيد كارثي؟
في السياقات العسكرية التي أوردها قائد القوات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفيكين لتبرير الإنسحاب من الضفة الغربية لنهر دنيبرو إلى ضفته الشرقية، أشار إلى الصعوبات التي تواجهها القوات الروسية في إيصال الإمدادات إلى الجانب الغربي من النهر بعدما دمّرت القوات الأوكرانية الجسرين المقامين على النهر، فضلاً عن قرار بعدم المجازفة بحياة عشرات آلاف الجنود في حال فجّرت القوات الأوكرانية سد كاخوفكا المُشيّد على النهر.
في السياقات العسكرية أيضاً، أتى قرار الإنسحاب بعد أعنف موجة قصف روسي بالصواريخ والمُسيّرات، أسفر عن دمار هائل في البنى التحتية الأوكرانية أوصل كييف ومدناً أخرى إلى الظلام الدامس ودفع السكان إلى البحث عن المياه الصالحة للشرب، فضلاً عن تخريب واسع في شبكة السكك الحديدية. وبدا للحظة أن الحرب تتجه إلى ذروة أخرى من ذرى التصعيد، مترافقاً مع حديث روسي مكثف عن إستعداد أوكرانيا لإستخدام “قنبلة قذرة”. وهذا ما فتح الباب أمام سلسلة إتصالات أجراها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مع نظرائه الغربيين، بعد قطيعة إستمرت منذ بداية النزاع تقريباً.
أما في السياقات السياسية، فلا يمكن فصل قرار الإنسحاب عن تزايد الحديث في واشنطن عن ضرورة إيجاد تسوية سياسية للنزاع الأوكراني، وعن ضغوط مارستها إدارة الرئيس جو بايدن على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كي يتخلى عن شرط تنحي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شرطاً مسبقاً لبدء محادثات مع موسكو.
ولا يملك زيلينسكي إلا التجاوب مع الطلب الأميركي الذي نقله إليه، وفق مجلة “بوليتيكو” الأميركية، مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الذي زار كييف الأسبوع الماضي. وليس صدفة أبداً أن الزيارة أتت عقب كشف واشنطن وموسكو في وقت واحد، عن إتصالات أجراها سوليفان مع كبار المستشارين لبوتين في الأسابيع الأخيرة، بهدف خفض التصعيد في حدة التهديدات النووية وفي إبقاء خطوط الإتصال مفتوحة بين الجانبين الأميركي والروسي، تجنباً لصدامات غير محسوبة بين أكبر قوتين نوويتين في العالم.
تجدر الإشارة إلى أن عودة روسيا في هذه الأثناء إلى إتفاق الحبوب، بعدما كانت إنسحبت منه إثر هجوم بمسيرة أوكرانية على بارجتين روسيتين في البحر الأسود أواخر الشهر الماضي، كان بمثابة إبداء حسن نية روسية حيال الجهود السياسية التي بذلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإشارة إيجابية تنسجم مع الميل الأميركي إلى البحث عن تسوية سياسية، ومع إعلان بايدن صراحة أن أميركا لا يمكن أن تتجاوب مع كل الطلبات الأوكرانية في ما يتعلق بالتسليح، وتحديداً عدم المجازفة بإرسال مقاتلات “إف-16” أو صواريخ تكتيكية قادرة على ضرب أهداف في العمق الروسي، بما يثير إحتمال حرب عالمية ثالثة. إستراتيجية بايدن كانت إستندت منذ البداية إلى إحتواء الهجوم الروسي وليس نقل الحرب إلى الداخل الروسي. ولم يخفِ المسؤولون الأميركيون إستياءهم من تفجير سيارة داريا دوغين إبنة الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين المقرب من بوتين في آب/أغسطس الماضي، وفق صحيفة “نيويورك تايمز”.
عودة روسيا إلى إتفاق الحبوب، كان بمثابة إبداء حسن نية روسية حيال الجهود السياسية التي بذلها أردوغان، وإشارة إيجابية تنسجم مع الميل الأميركي إلى البحث عن تسوية سياسية
وليس بخافٍ أن بايدن يتعرض منذ مدة لضغوط من الديموقراطيين والجمهوريين على حد سواء، من أجل فتح آفاق التسوية السياسية في أوكرانيا بالتوازي مع المساعدات العسكرية والإقتصادية الأميركية المتواصلة لكييف. وبعث 30 عضواً في اللجنة التقدمية التابعة للحزب الديموقراطي في مجلس النواب، رسالة في تشرين الأول/اكتوبر الماضي إلى بايدن يطالبونه فيها بفتح حوار مع روسيا. ووضعت صحيفة “الواشنطن بوست” هذه الرسالة في خانة حض بايدن “على إحداث تغيير دراماتيكي في إستراتيجيته حيال الحرب”.
تزامن ذلك مع كلام للنائب الجمهوري كيفن ماكارثي الذي سيتولى رئاسة مجلس النواب بعد إنتقال الغالبية من الديموقراطيين إلى الجمهوريين في المجلس عقب الإنتخابات النصفية التي جرت الثلثاء الماضي، هدّد فيه بقطع المساعدات الأميركية لأوكرانيا.
وانتقد وزير الخارجية الأميركي سابقاً هنري كيسنجر الشهر الماضي، ما سماه شيطنة أميركا والغرب لبوتين، وعدّها عملاً غير سياسي، ودليلاً على غياب السياسة. وندّد بشخصنة الصراع مع روسيا واختزاله في شخص الرئيس الروسي، معتبراً أن هذا ليس عملاً حكيماً، شأنه شأن محاولات الولايات المتحدة ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.
وعلّق السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا وليم تايلور على آخر التطورات الأوكرانية قائلاً: “نرى أن الرئيس بوتين يخضع للواقع”، ملاحظاً أن روسيا خرجت من إتفاق الحبوب ثم عادت إليه، كما أنها خفضت من تهديداتها النووية. وبرغم ذلك، فإن المفاوضات الحقيقية من غير المحتمل أن تبدأ “قبل أن تتعرض موسكو لمزيد من الهزائم العسكرية”.
إن تنامي تيارٍ أميركي داعٍ إلى سبر غور كل وسيلة ممكنة تحول دون تحول النزاع الأوكراني إلى حرب طويلة، كان عاملاً أساسياً في دفع بايدن إلى فتح خطوط الإتصال مع موسكو، والطلب أيضاً من زيلينسكي خفض سقف شروطه للحوار.
إن الجنوح الأميركي إلى البحث عن حل سياسي، قد يتعزز بعدما تفادى الحزب الديموقراطي هزيمة كارثية في الإنتخابات النصفية. ومع ذلك سيكون بايدن مجبراً على الأخذ في الإعتبار أن الجمهوريين قادرون، ولو بغالبيتهم الضئيلة في مجلس النواب، على عرقلة الكثير من خطط البيت الأبيض المتعلقة بالمساعدات السخية لأوكرانيا، في حال لم يطرأ تغيير في المقاربة الأميركية للنزاع.
وبعد يومين يجلس بايدن وجهاً لوجه مع الرئيس الصيني شي جين بينغ على هامش قمة مجموعة العشرين في منتجع بالي الأندونيسي. وإلى التوتر الأميركي-الصيني بسبب تايوان، ستكون الحرب الروسية ـ الأوكرانية وسبل وقفها بنداً أساسياً على طاولة القمة الأميركية الصينية.
ليس بخافٍ أن بايدن يتعرض منذ مدة لضغوط من الديموقراطيين والجمهوريين على حد سواء، من أجل فتح آفاق التسوية السياسية في أوكرانيا بالتوازي مع المساعدات العسكرية والإقتصادية الأميركية المتواصلة لكييف
من المؤكد أن الحرب لم ترهق روسيا وأوكرانيا وحدهما، بل إن الأزمات الناشئة المتفرعة عنها، على صعيد الطاقة والغذاء والتضخم، هي الأخرى تهدد بزعزعة الإستقرار في دول كثيرة وفي مقدمها أوروبا. ومنذ متى لا تُعمّر حكومة بريطانية أكثر من 44 يوماً، على غرار ما حصل مع ليز تراس.
كما أن الولايات المتحدة نفسها ليست بمنأى. وعلى سبيل المثال، كان التضخم العامل المركزي في تحديد خيارات الأميركيين في الإنتخابات النصفية، وفق مركز أديسون الأميركي لإستطلاعات الرأي. وإذا كان في إمكان الديموقراطيين تفادي هزيمة قاسية في هذه الإنتخابات، فإن التضخم إذا لم يتراجع قبل حلول 2024، فإن ذلك قد يكلّفهم خسارة البيت الأبيض.
بعد كل ذلك، هل تكون خيرسون مدخلاً إلى الحل السياسي أم خطوة محسوبة لشراء الوقت وإلتقاط الأنفاس في أشهر الشتاء القارسة، أم بداية لنقل الحرب إلى القرم، مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من تصعيد كارثي؟