من يستمع حالياً الى عددٍ من الدبلوماسيين العرب والأجانب المهتمين بلبنان، سيخلُص الى نتيجة سوداوية حيال مستقبل بلاد الأرز، ليس فقط لأن الحلول مؤجلة او غائبة أو مستحيلة، وانما لأن “لبنان فقد وظيفته، وما عاد يهمّ أحدا سوى أولئك الخائفين من خروج أوضاعه عن ضوابطها، وتأثير ذلك سلبا على دول عديدة، فلا بأس اذا من الحفاظ على شيء من المساعدات الانسانية والطبية له”، وفق ما يقول دبلوماسي عريق.
في تشريح فقدان لبنان وظيفته، يقدّم بعض هؤلاء الدبلوماسيين النقاط التالية:
- أولاً، ان دول الخليج التي طبّعت أو ستطبع مع اسرائيل، “قامت بذلك انطلاقا من قناعة عميقة عندها بأن مستقبلها التنموي والتجاري والمصلحي والسياسي والعسكري، سيكون مرتبطا بالتحالف مع اسرائيل، وهي تنظر الى اليهود حالياً، كما نظرت سابقاً الى الموارنة في لبنان، بحيث ترى فيهم المتنفّس الحقيقي في المنطقة كأقلية ناشطة وحيوية، وذلك خلافا للرأي السائد بأنها فعلت ذلك بسبب ضغوط الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وهي بالتالي ما عادت تجد في لبنان أي مصلحة، وتنظر اليه على أنه مجرّد ساحة للتمدد الايراني”.
- ثانياً، إن لبنان، ومنذ خروج منظمة التحرير الفلسطينية وسلاحها عن أراضيه، “فقد دوره كساحة اشتباك وصفقات، ذلك ان الساحات تعدّدت في المنطقة خصوصا بعد غزو العراق وهي تمددت الى سوريا واليمن والعراق وليبيا وغيرها، وبات لبنان الأقل منفعة في ذلك، فلو حصل مثلا أي صدام كبير أو صفقة، فان العراق او حتى سوريا سيكونان الأولى بذلك”.
- ثالثاً، إن الحركة المصرفية والمالية ضُربت في الصميم، لتنتعش دولٌ اخرى وتتحول الى مركز الجذب المالي، فبالاضافة الى دبي التي خطفت لسنوات طويلة وهج لبنان بهذا المعنى، “نجد أن البحرين ومصر قد عززتا مكانتيهما الماليتين والاستثماريتين في السنوات القليلة الماضية، وارتفع سعر الجنيه المصري مثلا خمسين بالمئة تقريباً في الفترة الاخيرة نظراً للتدفقات المالية والاستثمارات”.
- رابعاً، ضُربت منافذ لبنان فعلياً، فإلى مسألة الحدود البرية التي تطرح اشكالية حقيقية، فان مرفأ بيروت قد انهار، ومطار العاصمة صار مشبوهاً من وجهة نظر الغرب، وثمة اتجاه لجعل مرفأ حيفا، وكما كان قبل حرب 1948، مركز الثقل الأساس. ولذلك فان رئيس مجلس النواب نبيه برّي مثلاً، وبعد تفجير المرفأ، في 4 آب/ أغسطس كان همّه الأكبر، والذي ردّده أمام زواره، هو في اعادة فتح بوابة لبنان، قائلا :”اكتمل الطوق، يجب الاسراع في الخروج من هذه الكارثة التي هدفها خنق لبنان ثم نرتب الأمور السياسة الاخرى”.
قال دبلوماسي فرنسي صراحة في الأيام القليلة الماضية:”اننا في حالة يأس من هؤلاء السياسيين الذين ضربوا كل الفرص التي قُدّمت لهم، صحيح ان الرئيس ايمانويل ماكرون كان جادّاً في المساعدة على توفير حلول، لكنه شعر باليأس، ولولا الذكرى المئوية لتأسيس لبنان الكبير وما تعنيه لفرنسا لما كان تحمّس للمجيء واقتراح حلول”
- خامساً، اذا كان الخليجيون أحبوا لبنان تاريخيا، لأسباب عديدة تتعلق بطقسه وحسن خدماته وجمال طبيعته وحرية الحياة فيه، “فان اسرائيل ستحاول اغراءهم بأكثر من هذا وهي بدأت فعليا بذلك منذ فترة غيرة قصيرة، ذلك ان التطبيع ليس وليد ساعته”.
- سادساً، بالنسبة لاكتشاف الغاز والتفاوض الحدودي مع اسرائيل لترسيم الحدود البحرية، يقول دبلوماسي واسع الاطلاع:”ألا تلاحظون ان اسرائيل هي التي تؤخر ذلك حالياً، وتتدلل على لبنان؟ فهي ما عادت تشعر بالحاجة الى تقديم تنازلات في ظل هذا الانفتاح العربي الكبير عليها”.
- سابعاً، لم تعد الدول الكبرى مقتنعة بان الطبقة السياسية الحالية قادرة على توفير الحلول. فقد قال دبلوماسي فرنسي صراحة في الأيام القليلة الماضية:”اننا في حالة يأس من هؤلاء السياسيين الذين ضربوا كل الفرص التي قُدّمت لهم، صحيح ان الرئيس ايمانويل ماكرون كان جادّاً في المساعدة على توفير حلول، لكنه شعر باليأس، ولولا الذكرى المئوية لتأسيس لبنان الكبير وما تعنيه لفرنسا لما كان تحمّس للمجيء واقتراح حلول”. هذا يعني ان مبادرة ماكرون التي صيغت بدقة مع الجانب المصري، تلاشت قبل تنفيذ أي بند منها، ومن الصعوبة بمكان معرفة كيف يمكن ان تعود الى الانطلاق في ظل استمرار الإنسداد اللبناني الداخلي لاسباب واهية.
- ثامناً، من الوهم تماماً الاعتماد على الادارة الاميركية الجديدة لاعادة تنشيط الوضع اللبناني. “فالمفاوضات بين الرئيس جو بايدن وايران في حال انطلقت، ستمتد لفترة طويلة، ذلك انها سنقسم الى مرحلتين، الاولى، تكون فيها العودة الى الاتفاق القديم شرط تراجع ايران عن كل الخطوات التي أعقبت ألغاء الإتفاق من جانب الولايات المتحدة في العام 2018 مقابل إفراج أميركا عن بعض الأموال ووقف العقوبات، والثانية، تتوسع الى مجالات اخرى وربما الى دول اخرى. لكن هذا ليس منتظرا قبل عام على الاقل، وسوف نشهد هذا العام انتخابات في سوريا وايران وفلسطين وإسرائيل، وفي الحالة السورية لا شيء واضحاً حتى الآن”.
- تاسعاً، إن حاكم مصرف لبنان يحاول تقطيع الوقت نقديا ومالياً حتى الانتخابات الرئاسية في لبنان، فعملية اعادة الهيكلة تتسلل شيئاً فشيئاً، والـ “haircut” حصل فعليا اذا ما نظرنا الى اسعار صرف الدولار بين الرسمي والمنصة والسوق السوداء، ثم إن مصرف لبنان المركزي يقول انه من خلال اعادة الرسملة في شهر شباط/فبراير المقبل سيتم ادخال 4 مليارات دولار، “فلنفترض ان مليارين سيدخلان فعلياً، اضافة الى مليار للتأمين، فهذا سيساهم مع ما هو متوفر حالياً في تمرير المرحلة المقبلة، بانتظار حسم إنضمام لبنان إلى برنامج صندوق النقد الدولي وتشكيل حكومة جديدة. وقد تبين من خلال مؤتمر باريس الأخير ان الدول الغربية حصرت مساعداتها الى لبنان بما يضمن تأمين أدنى الشروط الانسانية والغذائية والطبية فقط لا غير”.
انطلاقاً من كل ما تقدّم، يُجمع دبلوماسيون مهتمون بالشأن اللبناني، ان لا مجال لأي حلول سحرية خارجية، وان المطلوب من القيادات السياسية اللبنانية الاتفاق سريعاً على تشكيل حكومة والبدء في تطبيق مشروع انقاذي برغم ثقل المهمات. لكن معظم هؤلاء الدبلوماسيين باتوا مقتنعين ان هذا الحد الأدنى من الحلول يصطدم بعقبة كأداء تتمثل في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فجميع الأطراف دخلوا على ما يبدو في هذا النفق الرئاسي وكل منهم يريد تحسين شروطه، وما عاد بالتالي تشكيل الحكومة منعزلاً عن ترتيب بيوت الأطراف الداخلية استعداداً للاستحقاق الأهم. ولذلك فإن اللبنانيين أمام مرحلة ستشتد صعوبة، واذا لم تصل الى الاتفاق على رئيس جمهورية في مرحلة تحسن المناخ الدولي، فان لبنان سيغرق في الفراغ الرئاسي. ثمة خطر آخر وهو في انعدام حصول تحسن في التفاوض الاقليمي والدولي خصوصا بين ايران وأميركا، ما يعني زيادة في تعقيد الأوضاع الداخلية اللبنانية.
ان كان كل ما تقدّم يؤكد أن التاريخ يكرّر نفسه ولكن بصورة أبشع وأكثر سوداوية في لبنان، ذلك أن معظم الأطراف السياسية عاجزة او غير راغبة بانتاج حلول توافقية وكل طرف واهمٌ بأنه سينتصر على الآخر.