يقول الكاتب رونين بيرغمان إن إطلاق أوسع حملة إغتيالات لمسؤولين فلسطينيين في العالم لم يُثر نقاشا أخلاقياً داخل أروقة مؤسسات القرار “الإسرائيلي”، خاصة بعد أن نالت الضوء الأخضر من السلطتين التشريعية (الكنيست) والتنفيذية (رئيسة الوزراء جولدا مائير)، بل أكثر من ذلك، فقد كانت مائير تستقبل بعض منفذي تلك العمليات قبل أو بعد تنفيذ عملياتهم، وينقل بيرغمان عن مائير قولها عن هؤلاء القتلة “كنت أجلس أمامهم وأنا ممتلئة إعجاباً بشجاعتهم وهدوئهم وعمق معرفتهم وقدرتهم الدقيقة على التنفيذ. لقد كانوا يعيشون بين فكي العدو.. لم أستطع أن أشرح لنفسي كم كنا مباركين بإمتلاك هذه المجموعة من الأشخاص”.
وينقل بيرغمان عن أحد ضباط وحدة “قيصرية” التي كانت مكلفة بعمليات القتل قوله “بعض العرب الذين قتلناهم في تلك المرحلة، لم نعرف لماذا قتلناهم، وبطبيعة الحال هم لم يعرفوا لماذا قتلوا، وائل زويطر (المترجم الفلسطيني في السفارة الليبية) مثلاً لم تكن له أية علاقة بعملية قتل الرياضيين الاسرائيليين في ميونيخ. ربما العلاقة الوحيدة هي أن الطائرة التي أقلت القتلة (عناصر “منظمة أيلول الأسود”) مرّت في أجواء روما، وهي في طريقها إلى مطار ميونيخ”.
وينقل بيرغمان أيضاً عن أحد كبار المسؤولين في “الموساد” بعد إطلاعه على ملف زويطر بعد سنوات من قتله قوله “كان قتله خطأً رهيباً”، فهو كما ذكر الفلسطينيون، مجرد مثقف مسالم مناهض للعنف، ولكن بالنسبة لقادة آخرين في “الموساد”، ذلك ليس مهماً (أي سلميته). ويضيف نقلاً عن أحد كبار قادة جهاز “أمان” (الإستخبارات العسكرية) الذي كانت مهمته التحقق من الأهداف المعدة للقتل “فلنفترض أن زويطر كان فقط ممثلاً لمنظمة التحرير في روما، وهذا الأمر لم يكن هناك توافق عليه في الجهاز، فقد كنا ننظر إلى المنظمة كهيئة معنوية واحدة، ولم نكن لنوافق على التمييز بين أولئك العاملين في الشأن السياسي وزملائهم العاملين في شؤون الارهاب. بالنسبة إلينا كانت “فتح” منظمة إرهابية تقتل اليهود وعلى كل عضو في هذه المنظمة أن يعلم أنه هدف مشروع للقتل”.
بعد كل هذه السنوات، يصعب التأكد ما إذا كان قتل وائل زويطر خطأ أم تنفيذاً لمقاربة حكمت العقل “الإسرائيلي” المدبر لعمليات قتل الفلسطينيين والقائمة على فكرة أن أي عضو في منظمة “إرهابية”، حتى ولو لم يكن نشاطه يرتبط بصورة مباشرة بأعمال “الإرهاب”، هو هدف مشروع للقتل، يقول رونين بيرغمان. وفقاً لهذه المقاربة، يضيف الكاتب نفسه، سُمِح لـ”الموساد” بقتل من يستطيع قتله وليس بالضرورة من كان الجهاز يعتقد أنه يستحق القتل. وهكذا فقد إعتبر الجهاز أن حملة الإغتيالات تلك كانت حملة ناجحة، ولكن مع حلول العام 1973 كانت هذه الحملة قد فشلت في التسبب بأية أضرار على مستوى القيادة الفلسطينية، فهذه الأهداف كانت تتخذ من بيروت مقراً لها وهناك كان على “إسرائيل” أن تضرب وهذا الأمر كان صعباً للغاية.
“الموديل”، حسب رونين بيرغمان، هو الإسم السري لكلوفيس فرنسيس أحد أهم عملاء “أمان” و”الموساد” في تاريخ عمل الجهازين في لبنان. فقد كان فرنسيس إبن عائلة مسيحية لبنانية غنية ولها علاقات واسعة مع علية القوم في لبنان، وخدم دولة “إسرائيل” بإخلاص على مدى عقود
بهذه الكلمات مهّد الكاتب لرواية تفاصيل عملية إغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة (كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار) في منازلهم في شارع فردان في بيروت. يقول بيرغمان في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1972 وصلت إلى وحدة الإتصالات مع العملاء في الشرق الأوسط في جهاز “أمان” الإستخباري رسالة مشفرة تقول إن “الموديل” يطلب “لقاءً عاجلاً”.
“الموديل”، حسب رونين بيرغمان، هو الإسم السري لكلوفيس فرنسيس أحد أهم عملاء “أمان” و”الموساد” في تاريخ عمل الجهازين في لبنان. فقد كان فرنسيس إبن عائلة مسيحية لبنانية غنية ولها علاقات واسعة مع علية القوم في لبنان، وخدم دولة “إسرائيل” بإخلاص على مدى عقود، وكان يرسل البرقيات المشفرة منذ أربعينيات ذلك القرن، مُستخدماً كاميرا مثبتة على باب سيارته حيث تمكن على مدى سنوات من إرسال أكثر من مئة ألف صورة إلى أجهزة الإستخبارات “الإسرائيلية” توثّق كل زاوية في لبنان، وكان يزور “إسرائيل” بصورة دورية عبر إحدى الغواصات أو المراكب العسكرية “الإسرائيلية” من أجل تقديم معلومات قيمة لكبار مسؤولي الإستخبارات “الإسرائيليين” ولم يكن يطلب أي مقابل مالي لعمله، وكان يقول إنه يتجسس من منطلق “إيمانه بالتحالف بين لبنان وإسرائيل ولاحقاً لأني رأيت أن نشاطات الفلسطينيين في لبنان تشكل خطراً كبيراً على بلادي”.
يضيف بيرغمان، أنه بعد ثلاثة أيام من وصول برقية “الموديل” التي يطلب فيها “اللقاء العاجل”، وصل زورق مطاطي في عتمة الليل إلى شاطىء مدينة صور في جنوب لبنان إصطحب “الموديل” إلى زورق سريع كان في عرض البحر، تولى نقله إلى ميناء حيفا حيث كان بإنتظاره كبار ضباط الوحدة 504 ليستمعوا إلى ما يحمل إليهم من معلومات.
وبالفعل، ما خاب أمل المسؤولين “الإسرائيليين” من “الموديل”. أحضر الرجل إليهم عناوين سكن أربعة من كبار المسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وهم: محمد يوسف النجار (أبو يوسف النجار)، مسؤول جهاز الاستخبارات في منظمة “فتح”، الذي كان مسؤولاً عن التخطيط والموافقة على عملية ميونيخ، كمال عدوان المسؤول عن عمليات “فتح” داخل “إسرائيل” والضفة الغربية وقطاع غزة، كمال ناصر الناطق الرسمي بإسم منظمة التحرير الفلسطينية، وأبو جهاد (خليل الوزير) الرجل الثاني في منظمة “فتح” بعد ياسر عرفات، وكان الثلاثة الأول (النجار وعدوان وناصر) يقطنون في منازل متقاربة في مبنيين عاليين ومتقاربين في شارع فردان في بيروت.
يتابع بيرغمان سرده قائلاً: تم نقل المعلومات إلى “رومي” الضابط في وحدة “قيصرية” الذي باشر على الفور بالدعوة إلى سلسلة من الإجتماعات في مقر قيادة الوحدة في شارع كابلان 2 في تل أبيب. وبالإضافة إلى المعلومات عن مكان سكن القادة الفلسطينيين، توفرت معلومات عن أهداف أخرى لمنظمة التحرير من ضمنها أماكن تصنيع وتخزين الأسلحة ومقرات قيادية. ولكن كانت هناك ثغرات معلوماتية تتطلب مزيداً من الإستقصاء، بحسب قول “هراري” قائد وحدة “قيصرية” الذي كان قد حدد قاعدة للعمل تقوم على الآتي: “إن لم تكن هناك معلومات وافية، ليس هناك عملية ونقطة على السطر”، يقول رونين بيرغمان.
ومن أجل تفادي النقص في المعلومات (سد الثغرات)، قررت وحدة “قيصرية” أن ترسل إلى بيروت عميلة ميدانية، فوقع الخيار على “يائيل” (لم يسمح سوى بنشر إسمها الأول) المولودة في كندا عام 1936، وهي نمت وترعرت في نيوجيرسي الأميركية لوالدين يهودين لا تربطهما أية علاقة بـ”إسرائيل”.
إرتبطت “يائيل” بعلاقة عاطفية بـ”إسرائيل” قبل حرب الأيام الستة (1967) وقررت هجرة رفاهية العيش في الولايات المتحدة والعيش في الدولة الفتية حيث عملت في البداية مبرمجة كومبيوتر، قبل أن يتم تجنيدها في وحدة “قيصرية” وإخضاعها للبرنامج التدريبي القاسي لعملاء هذه الوحدة. مع الوقت، باتت “يائيل” معروفة بمواهبها الإستثنائية وهدوء أعصابها في الميدان كما بشخصيتها الكاريزمية وجاذبية مظهرها، وهذا كله إستخدمته سلاحاً في عملها الميداني التجسسي. في هذا السياق، وقبل توجهها إلى بيروت، قال لها هراري “أنت بأنوثتك وأناقتك وجمالك، من يمكنه أن يشتبه بك؟”.
وصلت “يائيل” إلى لبنان في 14 يناير/ كانون الثاني عام 1973 ونزلت في فندق البريستول بضعة أيام قبل أن تنتقل إلى شقة إستأجرتها في مبنى فخم، في منطقة فردان، مقابل تماماً للمبنيين اللذين يقيم فيهما القادة الفلسطينيون الثلاثة
يقول بيرغمان إن “يائيل” أعطيت في “الموساد” إسما ميدانياً هو “نيلسون” وقصة غطاء أنها أتت إلى لبنان لكتابة مسلسل تلفزيوني عن حياة الليدي هيستر ستانهوب، وهذه السيدة سليلة عائلة أرستقراطية بريطانية هجرت عائلتها وتحوّلت في أواخر القرن التاسع عشر إلى ناشطة إجتماعية وسياسية جالت في العديد من البلدان العربية، لتستقر في أواخر أيام حياتها بين لبنان وسوريا.
وصلت “يائيل” إلى لبنان في 14 يناير/ كانون الثاني عام 1973 ونزلت في فندق البريستول بضعة أيام قبل أن تنتقل إلى شقة إستأجرتها في مبنى فخم، في منطقة فردان، مقابل تماماً للمبنيين اللذين يقيم فيهما القادة الفلسطينيون الثلاثة (لم يكن ابو جهاد ـ خليل الوزير ـ يقيم في المنطقة نفسها)، وتمكنت بسرعة فائقة من نسج علاقات صداقة مع أبناء المحلة ومع أجانب مقيمين في بيروت وافقوا على مساعدتها في أبحاثها من أجل عملها التلفزيوني عن حياة الليدي ستانهوب، وقد ساعدتها قصة الغطاء هذه في الحصول على مبرر مشروع للتنقل بحرية تامة في كل أنحاء لبنان.
وبالفعل، بدأت “يائيل” تجول حول المباني ـ الهدف وتستطلع الأماكن المحتملة للإنزال، وهي تحمل حقيبة مزودة بكاميرا مخفية كان بالامكان تشغيلها بكبسة زر موجودة مثبتة خارج الحقيبة. كل تفصيل مهما صغر كان مهماً وقد تمكنت “يائيل” من رصد وتوثيق كل أمر روتيني يخص الأهداف الثلاثة (كمال ناصر ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان) ليلاً ونهاراً. متى كانت تشتعل أضواء منازلهم ومتى كانت تنطفىء. من يمكن رؤيته من النافذة وفي أي وقت بالإضافة إلى تفاصيل تخص سياراتهم وزوارهم وما إذا كانت أماكنهم محروسة أم لا.
مع سيل المعلومات المُرسلة من “يائيل”، بات بإمكان “الموساد” أن يعرف من سيقتل وأين وكيف، لكن ثمة مصاعب جمة للتنفيذ، يقول رونين بيرغمان، فمنازل هؤلاء القادة الثلاثة كانت واقعة في بنايات، وسط منطقة مكتظة بالسكان في بيروت، ما يعني أن ليس بالإمكان إستخدام المتفجرات لأن من شأن ذلك أن يؤدي الى مقتل عدد من المدنيين الأبرياء إلى الحد الذي لا يمكن تحمله، ويعني أيضاً أن عملية القتل يجب أن تنفذ عن قرب، وهنا كان لبنان يُصنّف ضمن البيئات المعادية، وبالتالي فإن إعتقال أي شخص من المنفذين سيؤدي إلى تعرضه إلى تعذيب شديد ينتهي بموته، ومن المصاعب أيضاً أن كل عملاء وحدة “قيصرية” في لبنان كانوا مدربين على مهمات غير قتالية وبقصص غطاء لعملهم الميداني الاستطلاعي فقط، أما القتلة في وحدة “الحربة” الذين لديهم القدرة على تنفيذ عمليات قتل نظيفة، فلم يكن لديهم قصص غطاء مقنعة للتواجد في البلد ـ الهدف لمدة تكفي لتنفيذ عمليتهم، وحتى لو توفرت لهم مثل هذه “القصص” (الغطاء)، فإن مغادرتهم البلد ـ الهدف بسرعة بعد قتل ثلاثة قادة فلسطينيين ستكون أمراً مستحيلاً.
إزاء هذه المعطيات، يقول رونين بيرغمان، توصل “هراري” و “رومي” الى قناعة مفادها ان وحدة “قيصرية” لا تستطيع تنفيذ هذه العملية بمفردها وأنه لا بد من اللجوء إلى الجيش “الإسرائيلي” فهو الجهة الوحيدة التي لديها القوات والموارد الضرورية لتنفيذ إغارة ناجحة. وهذا كان أمراً جديداً فلم يسبق أبداً للجيش و”الموساد” أن تعاونا في عملية هجومية على الأرض، وكان من تداعيات ذلك أن “اسرائيل” كانت تنفي مسؤوليتها عن عمليات الإغتيال التي ينفذها “الموساد” أما في هذه الحالة وفي ظل وجود قوة عسكرية كبيرة مشاركة في القتل، حتى ولو لم يكن الجنود بزيهم العسكري، كان يستحيل على “إسرائيل” أن تنفي تورطها!
يضيف بيرغمان أن الخطة الأولية للجيش كانت شبه فوضى عارمة “تضمنت إشراك كتيبة عسكرية مؤلفة من حوالي مئة جندي تقوم بمهاجمة المبنيين وإنزال سكانهما إلى الشارع وتبدأ بالتحقق منهم فرداً فرداً وما أن يتم التحقق من الأهداف حتى يصار إلى قتلها. لكن رئيس أركان الجيش “الإسرائيلي”، وقتذاك، ديفيد اليعازر شكك بإمكانية نجاح هذه الخطة وطلب من إيهود باراك (أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء) قائد وحدة “سايريت ميتكال” أفكاراً أخرى”. يستطرد بيرغمان للقول إن هذه الوحدة “أنشئت في العام 1950 لتكون قوات نخبة تستطيع أن تخترق صفوف العدو وتعمل خلف خطوطه وأن يكون بامكانها القيام بأعمال هجومية تتضمن التخريب وتجميع المعلومات، وبقيت هذه الوحدة حتى العام 1970 متخصصة بإختراق خطوط العدو لزرع أجهزة تنصت ومراقبة متطورة جداً، وكانت ولا تزال تعتبر أفضل وحدات “جيش الدفاع الإسرائيلي” التي عادة ما يرفدها بأفضل المجندين الجدد لكي يخضعوا لدورة تدريبية مدتها 20 شهراً يقال إنها من أصعب دورات التدريب في العالم. وكان ايهود باراك المولود في أحد الكيبوتزات والشاب القصير القامة مع جسم رياضي وإرادة مصممة أول ضابط عامل في هذه الوحدة، إذ تولى قيادتها في العام 1971 بصفته يحمل المواصفات المطلوبة، ناهيك عن مهارة سياسية تخوّله معرفة كيفية التعامل مع رؤسائه، وهكذا منذ اللحظة التي تولى فيها قيادة الوحدة، عمل على تحويلها إلى جزء من عمليات الجيش “الإسرائيلي”، بدل أن تقتصر مهمتها على جمع المعلومات خلف خطوط العدو”، يقول بيرغمان.
(*) في الحلقة 28: تفاصيل عملية فردان