نجح تكتل أطلق عليه لقب التغييريين في إنتخابات العام 2022. لكن سرعان ما امتصهم المجلس النيابي الطائفي بكل حذاقة وسرور. لم يستطع التغييريون إحداث “غمش” في الجسم السياسي اللبناني، حتى الآن. ربما كان من المبكر الحكم عليهم. وقاحة الجسم السياسي اللبناني الطائفي لا حدود لها. ما إن كاد يحدث خلل في التوزيع الطائفي في اللجان النيابية، حتى انبرى أحدهم، من أحزاب الطوائف، إلى طرح أن يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة. تجري الإنتخابات النيابية فيها على أساس النسبية (مع إلغاء الحصص المخصصة لكل طائفة). هدف هذا الطرح هو ابتزاز المسيحيين الحاضرين. إذ أن ذلك يعني لعبة الأعداد، فيكون لكل لبناني صوت. وهذا معناه خسارة المسيحيين عددياً. أصلح الخلل فوراً وكأن شيئاً لم يكن.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها دويلة ضمن الدولة في لبنان. في أواخر ستينيات القرن الماضي، أنشأ الفلسطينيون الوافدون من الأردن، إثر هزيمة “أيلول الأسود” (1970) التي ألحقها بهم الملك حسين، دولة ـ دويلة باسم “المقاومة”. ولم ينفع اتفاق القاهرة الذي عقد في القاهرة في أواخر أيام جمال عبد الناصر (1969) في كبح جماح هذه الدويلة. كانت المقاومة الفلسطينية متحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية. وكان طبيعياً أن تكون هذه متعاطفة مع الطائفة الشيعية، التي أسّس لها الإمام السيد موسى الصدر حركة المحرومين (أمل).
إن إلغاء السياسة الجدية، بمعنى إدارة شؤون المجتمع، حصل بإشراف حزب وحلفائه، الذين كانوا أدوات في هذا الأمر، وهو تدمير البنى التحتية، تدمير الاقتصاد، تدمير القطاع المصرفي، إنتاج حالة من اليأس والإحباط عند اللبنانيين، هبوط معظمهم نحو المجاعة المستترة
في العام 1982، غزت إسرائيل جنوب لبنان، ووصلت الى العاصمة بيروت، التي احتلتها لمدة 3 أيام؛ وأخرجت المقاومة الفلسطينية الى تونس. وفي نفس العام (1982) تأسّس حزب الله، وأسس المقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي. كانت ثمانينيات القرن العشرين مرحلة شديدة الإضطراب: منافرة عنيفة بين حزب الله والجيش السوري؛ حروب بين أمل والحزب التقدمي الاشتراكي؛ حرب أمل وحزب الله؛ حرب حركة التوحيد على طرابلس؛ حربا “التحرير” و”الإلغاء” اللتان شنهما ميشال عون؛ حرب الجبل، وحروب أخرى صغيرة، بالإضافة الى حوادث خطف كثيرة للبنانيين وأجانب، كما حوادث اغتيالات ومحاولات اغتيال.
على العموم كانت حروب ضد الشعب اللبناني. لم تكن المرحلة الحريرية سوى مرحلة ليبرالية رافقت الوجود السوري، واحتمت به، كما كانت الليبراليات تحتمي بحكم الفرنسيين والانجليز قبل ذلك. بعدها ساد حكم التحرر الوطني بكل مواصفاته. فهناك من حرر ابتداء من عام 2000. وهو من يحكم. وإذا كان قد تسامح قبل ذلك وبعده، فقد كان ذلك من قبيل تقديم حكم الطغيان على غير حقيقته. حكم التحرر الوطني بعد عام 2000 أو 2005 هو امتداد لحكم الاستعمار الذي سبقه، كما كان حكم التحرر الوطني في كل بلد عربي بعد الاستقلال هو استمرار لحكم الاستعمار بشكل أو بآخر. على كل حال، لم تقصّر قوة السيطرة بعد 2005، وربما بعد 2000 في إرعاب الناس كي ينضووا تحت لواء الحكم الجديد. الذي كان رمزاً لحكم ليبرالي إغتيل عام 2005. مهمة الذي قام بهذا الاغتيال أدت الى النتائج نفسها.
إلغاء السياسة
لبنان ليس سهل الاحتواء أو الابتلاع. لكن الأمر حصل بعد 2005. ألغيت السياسة بمعنى إدارة المجتمع. تفوقت السياسة المبتذلة بمعنى التنافس على السلطة، منذ 2005. وقد كان حزب الله مسيطراً، لم نر مشروعاً واحداً لإعادة التيار الكهربائي أو إصلاح البنى التحتية، بل رأينا إمعاناً في تدمير البنى التحتية. أما ما أصاب القطاعات الاقتصادية الإنتاجية، فكان انهياراً تاماً. لو قالوا “كابيتول كونترول” لكان الأمر مفهوماً. بل أن تكون هناك أكثر من أسعار لليرة اللبنانية في وقت واحد، فهذا واحد من سمات أنظمة الاقتصاد بالأمر.
إن إلغاء السياسة الجدية، بمعنى إدارة شؤون المجتمع، حصل بإشراف حزب وحلفائه، الذين كانوا أدوات في هذا الأمر، وهو تدمير البنى التحتية، تدمير الاقتصاد، تدمير القطاع المصرفي، إنتاج حالة من اليأس والإحباط عند اللبنانيين، هبوط معظمهم نحو المجاعة المستترة. كل ذلك كان يحصل بتنفيذ رأسمالية لبنانية، بعلم حزب كان يمتلك فائض القوة المادية والسياسية خلال السنين الثلاثين الماضية. وما الحملة الإعلامية لإلصاق التهمة بالغير، الحريري مثلاً، سوى نوع من الدجل الذي هدف الى القول إن حزب الله لم يكن في السلطة، وهو كان، وأن الحزب بعيد عن الفساد وهو يعرف مدى الفساد الذي أصاب بعض كوادره، في الفترة التي حكم فيها حزب الله خلال السنين الثلاثين الماضية.
لبنان الذي كان حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية مجتمعاً مفتوحاً، ولو الى حد ما، جرى السعي لجعله مجتمعاً مغلقاً، أو على الأقل جماعات مغلقة
إن قاعدة عمل النظام في لبنان، مثل قاعدة أنظمة الطغيان في بقية البلدان العربية: إلغاء السياسة الجدية (الأفقية) والاقتصار على السياسة المبتذلة (العمودية). ظهر ذلك جلياً بأكثر من السابق بكثير بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005. إذ لم يحدث الكثير من “إدارة شؤون المجتمع”، خاصة على الصعيد الاقتصادي، وبالأخص على صعيد الاعمار. في هذه الفترة، تتالت موجات الاغتيالات، وشُدّدت القبضة على الجمهور الطائفي، وتكالبت الطوائف على تدمير الدولة ومرافقها. في قطاع الكهرباء مثلاً، كان التدمير مقصوداً ومبرمجاً. تزايدت وقاحة الطوائف في الإفصاح عن مكنوناتها. وصارت كل طائفة تسعى لأن تنتخب هي لا غيرها ممثليها. لم تعد المشاعر الطائفية أمراً يخجل به صاحبه. صار الإعلان عنها تعبيراً عن مرجلة. فقدت الطوائف ملكات التهذيب والتسامح والانضباط. وصارت التهم بالعمالة توجه للآخر لمجرد إبداء الرأي. تحدد الخطاب السياسي بين ما هو مقبول وغير مقبول، وبين ما هو وطني وغير وطني. صار الوفاء للقضية (المقاومة، مثلاً) أهم من الوفاء للوجود الإنساني. إذا كانت الطائفية تعددية من نوع معيّن، فإن التعدديات الثقافية والسياسية، وفي الرأي بشكل عام، جرى العمل لإسكاتها أو طمسها. لبنان الذي كان حتى في أحلك ظروف الحرب الأهلية مجتمعاً مفتوحاً، ولو الى حد ما، جرى السعي لجعله مجتمعاً مغلقاً، أو على الأقل جماعات مغلقة. إذا كان الانقلاب العسكري مستحيلاً لأسباب طائفية وجيوبوليتيكية، فإن تعطيل البرلمان لعامين ونصف العام الى أن يرضى الجميع بالتئامه لانتخاب رئيس، زُعِمَ أنه الأقوى في طائفته، والأهم أنه حليف الطرف الأقوى، يشبه الانقلاب. ليس مسموحاً لمجلس النواب إلا انتخاب رجل بعينه. ليس الأمر انقلاباً عسكرياً، بل النتيجة ذاتها.
(*) نص منشور في كتاب “تأملات في الحرية والسياسة والدولة” (صادر في العام 1922).