كسب رسّامنا (الكاريكاتور أعلاه) مبالغ ضخمة، بفضل انتشار رسمه الهازئ هذا. فهو لخّص فيه، باكراً، تطوّرات التكنولوجيا التي سابقت سرعتها سرعة الضوء. فغيّرتنا وغيّرت مسارات حياتنا، كلّها، على هذا الكوكب. هي تغيّراتٌ صارت فيها الضبابيّة والمجهول والإفتراض، الدعائم التي قام عليها عالمنا. فانعدمت في فضائه الجاذبيّة. كلّ شيء أمسى وكأنّه الحقيقة المطلقة. الواقع غير الواقعي الطاحن. كلّ أمرٍ بات مموَّهاً. والتمويه يخلق تمويهات. في الهويّة والانتماءات والقضايا والإيديولوجيّات والصراعات والمبادئ والأفكار والآراء والمواقف والعواطف و..الأهداف.
انقلبت المقاييس والمعايير والأدوار. أرقامٌ قلبت الدنيا رأساً على عقب. جعلت “عاليها واطيها”، لكلّ سبب وأيّ سبب ومن دون سبب. دخلنا، بنشوةٍ وانبهار، إلى عالمٍ “يستطيع فيه أيّ أحمق أن يجعل الأشياء تبدو أكبر وأعقد”، كما يقول آينشتاين الذي أصبح اسمه مرادفاً للعبقريّة.
بطبيعة الحال، لم يستخدم الكاريكاتوريست Steiner “الكلب” ليتنبّأ بمسخنا، يوماً، إلى كلابٍ ناطقة. بل، على الأرجح، اختاره (من بين سائر الحيوانات)، ليوجِّه إلينا أكثر من رسالة مضمرة؛ الأولى، لتقول كم إنّنا غدَوْنا عاجزين عن تحديد هويّة “مُرسِل” المضامين، في العمليّات الاتصاليّة. مُرسِل، بات “نشاطه” أفظع، بأشواط، من مُطلِق رصاص الموت العشوائي على الأحياء والبيوت الآمنة! أمّا الرسالة الثانية، فهي لتذكيرنا بأنّ الكلب بارعٌ في الصيد. يدفع الطريدة دفعاً كي تطير إلى حتفها. ومن ثمّ يشتمّ مكان سقوطها، فيهرع لجلبها. وليقول ثالثاً، إنّ الكلب مشهورٌ بوفائه لصاحبه. فهو يشرئبّ للدفاع عنه، قاتلاً أو مقتولاً. لماذا هذا التحليل للكاريكاتور؟
هو لمحاولة فهْم فحوى المعارك التي تدور رحاها حاليّاً في أزقّة الإنترنت، وعلى جبهات المنصّات الرقميّة. جولاتٌ من التراشق بالكلمات والصور والرسوم والهاشتاغات. تشتدّ وتخبو، ويتخلّلها هدنات ووقفات لإطلاق النار. تماماً، كما كان يحصل في حروبنا العسكريّة والسياسيّة “المجيدة” في لبنان. اختلف نوع السلاح، لكن لم تختلف هويّات وأجندات قادة المحاور. مَن هم هؤلاء المحاربون الجُدد؟ يتردّد أنّهم أشخاص وجماعات، لا اسم ولا صورة ولا هويّة لهم، أحياناً. إنّما نخلص من خلال تعليقاتهم الهزيلة، لغويّاً وسياسيّاً وثقافيّاً وأخلاقيّاً، إلى أنّهم فهموا شيئاً وحيداً من مغزى اختراع هذه المنصّات. أي، العمل بالمثل الفرنسي القائل “يقطع الطاغي الشجرة ليحصل على الثمرة”! هم بشر إذن؟
ليس بالضرورة، في بعض الظروف. لذا، من الأصحّ (ربّما) طرح السؤال السابق على الشكل التالي: “مَن” أو “ما” هم، هؤلاء المحاربون؟ لماذا؟ لأنّ الآلة، ببساطة، تكون هي المُرسِل، أحياناً. وهو ما بدأتم تسمعون عنه يا أصدقاء، منذ العام 2010. أي، “الجيوش الإلكترونيّة” أو “الذباب الإلكتروني”.
ماذا تعني هذه التسميات؟
لا تتّسع هذه السطور، طبعاً، للخوض في تفاصيل الجوانب التكنولوجيّة والمصطلحات العلميّة الشارحة، لكيفيّة عمل ونشاط وتفاعل هذه الجيوش التي تجتاح صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. فعديدة هي التعريفات التي أُعطيت لها. لكنّ التعريف الأكثر دقّة وبساطة، هو أنّها مجموعات من الأشخاص لديهم قيادة ومرجعيّة. يعملون بشكلٍ منظَّم. وفق أجندة محدَّدة. لصالح جهاتٍ محدَّدة، سياسيّة أو أمنيّة أو غيرها. تعمل هذه الجيوش عن طريق إنشاء حسابات بأسماء وهميّة، غالباً، وتديرها روبوتات (Bots). أمّا “عقيدتها العسكريّة”، فتقوم، بالأساس، على الترويج لوجهات نظر معيّنة تتوسّل حشد الرأي العام معها. وبديهيّاً، هي تطمح لتشكيل هذا الرأي العام وتوجيهه. وليس هذا كلّ شيء. إنّما هناك، أيضاً، هدف استراتيجي لها. يتمثّل، في تشويه سمعة “الأعداء” والتشويش على آرائهم وإسكاتهم، بأيّ وسيلة. كيف تعمل هذه الجيوش؟
عندما نتحدّث عن الجيوش الإلكترونيّة النظاميّة التي تُرصَد لها الميزانيّات في دول وأنظمة العالم، فنكون نعني بها، تحديداً، تلك المرتبطة بمؤسّسات الدول الأمنيّة. بحيث أنّ محرِّك نشاط هذه الجيوش، هو الدفاع عن البلاد. ويكون هدفها المركزي، إختراق أنظمة الأعداء والخصوم ومواقعهم
كما في كلّ معركة، تحتاج المواجهة فيها إلى حشود وخطط وأهداف. ومعلومٌ، أنّ أهمّ ما في خطّة الهجوم العسكري، هو كيفيّة توزيع المجموعات في “الانتشار الميداني”. يبدأ الهجوم على السوشيل ميديا، عبر مجموعة تتشكّل لتقوم بالتنسيق لإطلاق “هاشتاغ” المعركة. تعتمد تلك المجموعة توقيتاً محدّداً. غالباً ما يكون مساءً، بين الساعة السادسة والحادية عشرة ليلاً. فهذا هو الوقت الذي تكون فيه المتابعة الجماهيريّة، في ذروتها. عندها، تُضَخّ دفعة كبيرة من التغريدات إلى “المناصرين”، في وقتٍ واحد. لماذا؟ ليستلهموا منها، أو ليشاركوا في توزيعها ونشرها، بكثافة. فالمشاركة، بزخم، في حروب التغريدات والتعليقات على المنصّات، مطلوبة بشدّة من قِبَل “المُشغِّل”. مطلوبٌ الدخول، جحافل متتالية، إلى بازار “التراند” و”الرايتينغ”. فجعْل المضمون المسوَّق، الأكثر تداولاً بين سائر المضامين، هو الهدف المرتجى. إذْ إنّ دوره حاسم، في الخوض في شقٍّ من الصراع السياسي. وفي صدّ هجمات الجيوش المناوئة، من خلال احتلاله مساحةً من الميدان الإفتراضي.
وما محتوى ذاك المضمون المسوَّق؟
يكون، في العادة، كوكتيلاً من التعليقات والآراء، يتظهّر على شكل مشاركاتٍ في النقاشات والسجالات. والتي سرعان ما يتدهور مستواها، إلى أسفل درْك “القال والقيل” والردح وكيْل الشتائم والمديح والتبجيل..، لا فرق. ونادراً، ما يتبدّى على شكل معلومات (ملفَّقة في معظم الأوقات). قد يكون “المبثوث” عائداً إلى الأشخاص والجماعات التي تتفاعل على هذه الحسابات، على وقْع خبرٍ أو معلومةٍ أو حدثٍ أو حادثٍ ما. وقد تكون، في بعض الحالات، انعكاساً للأفكار الحقيقيّة التي تدور في خلد “قياداتهم” المختبئة وراء المتاريس الإفتراضيّة لعسكرها. تتوارى خلفهم، لأنّها تتحاشى الإفصاح عن هويّتها. وتخشى البوح بما تريد قوله للخصوم والحلفاء وجماهيرهما. فالأمن والأمان (معهم) أقلّ تكلفة من الحرب، كما كان يقول الكاتب المصري نجيب محفوظ. هكذا، وبالواسطة، تستطيع هذه القيادات خلق النزاعات وإشعال المعارك على “تويتر” و”فيسبوك”. مع آمالٍ دفينة لديها، في قطف المكاسب وتثميرها على أرض الواقع. وبعد؟
عندما نتحدّث عن الجيوش الإلكترونيّة النظاميّة التي تُرصَد لها الميزانيّات في دول وأنظمة العالم، فنكون نعني بها، تحديداً، تلك المرتبطة بمؤسّسات الدول الأمنيّة. بحيث أنّ محرِّك نشاط هذه الجيوش، هو الدفاع عن البلاد. ويكون هدفها المركزي، إختراق أنظمة الأعداء والخصوم ومواقعهم. عندئذٍ، تأخذ الهجمات طابع القرصنة والتجسّس وتعطيل مواقع “العدو”، بعد العبث بها وسرقة البيانات السرّيّة منها. هل ما عندنا، في لبنان، “يرتقي” إلى مستوى ذلك النوع من “الجيوش الإلكترونيّة”؟ كلا.
فعلى الرغم من أنّ رواج ظاهرة “الجيوش الإلكترونيّة” بدأ في لبنان منذ 2014، لكنّ معاركها لا تزال مقتصرة، إلى حدٍّ بعيد، على الأسلحة “التقليديّة الخفيفة”. فلا تجسّس واختراقات وقرصنة، إلاّ في الحدود الدنيا. بمعنى، تتوقّف مهمّة “جيوشنا” عند حدود الهجوم وقصف الـ”تراند”، فقط. والسبب ليس رفعةً في الأخلاق. بل ارتفاعاً لتكلفة الاستثمار، في هذا المجال. يا لفرحتنا.. بالعوز والإفلاس!
كلّ ما نملكه، هو الذباب. نعم. “الذباب الإلكتروني”، هو فصيل من “الجيوش الإلكترونيّة العربيّة” الشبيهة جدّاً بالجراثيم. هي اسمٌ على مسمّى. أي، جيوش تنتشر كالذباب، لا فائدة منها. فالذباب، لا يحوم إلاّ فوق القذارات وحول الدِمَن. “وما هي إلاّ دِمْنة لكن اكتسى ثراها من النَبْت المزوَّر ملبسا”، بحسب جبران خليل جبران. وهذا التعبير السلبي، يزعج المعنيّين به. يعتبرونه تهكّماً واستخفافاً وتقليلاً من شأنهم. لمَن يتبع ذبابنا الإلكتروني اللبناني؟
معظم أحزاب السلطة وسياسيّي لبنان، لديهم “ذبابهم الإلكتروني”. يوظِّفون منه “ذبابة” مميّزة، لتخطّط للحملات. بينما يتولّى المناصرون (في هذه الحملات) إدارتها، بواسطة مجموعاتٍ على تطبيق “الواتساب”. وقبل الحديث عن دور ومكانة أركان السلطة اللبنانيّة (المتواضع طبعاً) في “جمهوريّة السوشيل ميديا”، لا بدّ من التعريج على أحزاب هذه السلطة. فبحسب الترتيب الذي يُجمِع عليه الخبراء في هذا المجال، تقريباً، فإنّ جيش “حزب الله” هو الأقوى. يليه على التوالي جيوش: “التيّار الوطني الحر”، “القوّات اللبنانيّة”، “الحزب التقدّمي الاشتراكي”، “تيّار المستقبل”.
غالبيّة وزرائنا غابوا عن جلسات الحكومة ليكونوا على السمع. تفرّغوا ليكتشفوا، كيف ترسم مواقع التواصل الاصطفافات في البلد. وكيف تحدِّد قواعد الاشتباك، بينهم وبين شعبٍ أعزل من كلّ سلاح!
كيف يطير الذباب الإلكتروني اللبناني، ومتى وأين يحطّ؟
في مقابلةٍ إذاعيّة مباشرة، قبل سنتيْن، سألتني إحدى الإعلاميّات: “هل تخشين من أن تعرِّضَكِ مواقفُكِ للتنمُّر على السوشيل ميديا؟”. فكّرتُ سريعاً، لأفهم تعريب هذا المصطلح. فهو يعني، من بين ما يعنيه، السلوك العدواني المتكرّر لشخصٍ (أو أشخاص) حيال “الآخر”. يهدف، بخاصّة، إلى الإضرار النفسي أو الجسدي المتعمَّد، بشخصٍ آخر (أو آخرين). إذن، هنا بيت القصيد في “النشاط الذبابي”. الإضرار بمَن لا يعجبهم رأيه. والتكتيك يبدأ بتلويث السمعة. أو الإغتيال المعنوي. فصناعة بروباغندا الخوف (أيّاً كان مصدرها)، تستند إلى القتل المعنوي للخصم. شكّل ذلك في 2015، موضوع دراسة بعنوان “نداءات الخوف” Appealing to fear . يشير فيها أحد الباحثين، إلى أنّ الغاية من الترهيب، قد تكون لأهدافٍ استقطابيّة سياسيّة. إنّما قد تكون، أيضاً، لإظهار “مخاطر ما” والتوعية حيالها.
لا “يوافق” الذبابيّون اللبنانيّون، أبداً، على ذاك الوجه الإيجابي لسيكولوجيا التهديد. كيف؟
يركّز عمل “الذباب الإلكتروني”، لكلّ حزبٍ من أحزاب السلطة اللبنانيّة، على ضرب الخصم، أكثر من الترويج لنفسه. لذا، يغدو شغل هجماته الشاغل الشيطنة. شيطنة للخصم، ولكلّ ما يصدر عنه أو يتّصل به. وسواء أكان هذا الخصم، حزباً منافساً أو شخصيّة مشاكسة أو إيديولوجيا معادية أو جماعة معارضة..لا فرق. “كلّو في حبّك وكرهك يهون”. فذباب، كلٍّ منهم، يحتكر ناصية الحقّ والحقيقة، دون غيره. وعلى هذا الأساس، يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم. يشيطنون مَن يريدون. لا أحد يوقفهم. يؤسِّسون لآراء تفتيتيّة تنخر مجتمعنا. ولا أحد يوقفهم. يحلو لهم، كثيراً، ممارسة تخوين الناس. ولا أحد يوقفهم. بل، على العكس تماماً. فالتخوين، هو أبرز مواهبهم. خصوصاً، عندما تحرِّك “لكْشةٌ ما” الذبابَ من قمامة غيرهم. حينئذٍ، يصير لزاماً عليهم أن يردّوا الصاع صاعيْن. حتّى من دون أن يفهموا لماذا!
فكثيرٌ من الذبابيّين، يمتازون بقوّة جهلهم. وكما يُقال، مِن أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والاعتراض قبل أن يفهم، والحُكم بما لا يعلم. والتخوين، هو صنو التكفير الذي يلخِّص انبهار الناس بالباطل، على حدّ تعبير الكاتب المصري فرج فودة، إحدى ضحايا التكفيريّين. فلقد أرسل له كهنة التكفير، ذات يوم من حزيران/يونيو 1992، رجلاً جاهلاً امتلأت جمجمته حمقاً. فأطلق نار رشاشه، في الشارع، على فرج فودة. أرداه فوراً، على مرأى ومسمع ابنه الصغير. وعندما سُئل عن سبب قتله لفودة، قال إنّ كُتبه تحوي كفراً صريحاً. سألوه، هل قرأتَ شيئاً من كُتبه؟ فأجاب بأنّه أمّي، لا يعرف القراءة والكتابة! لا داعي، طبعاً، للتفسير أكثر. ماذا بعد؟
معظم مسؤولي لبنان يدوزنون آلات الحُكم، تبعاً لنوتات ومفاتيح السوشيل ميديا. منهم مَن دخل باكراً عالم “السيلفي” والتغريد على “تويتر”. ومَن كان منهم في حزبٍ، يتولّى مستشاروه الجهابذة تلقينه كيفيّة التعاطي مع هذا العالم الذي يجهله. أمّا مَن كان منهم أعزل من سلاح المستشارين (مثل رئيس حكومتنا المستقيل)، فعاجل لشراء خدمات شركةٍ متخصّصة في الاستشارات الإعلاميّة والعلاقات العامّة. خبراء، يعلّمونه كيف يسوِّق لشخصه على السوشيل ميديا. ومنهم، أيضاً، مَن اعتبر، أنّه من النواقص أن يسلّم الإنسان عقله إلى غيره، كائناً مَن كان. هذا حال قاضينا في التحقيق العدلي في إنفجار مرفأ بيروت، مثلاً، والذي سلّم مجاذيف سفينته لأمواج مستخدمي السوشيل ميديا. صار يتفاعل معها، وينتظر ما “يبدعونه” على ترنيمة “مِيلِي ما مَال الهوا”. وبالتأكيد، غالبيّة وزرائنا غابوا عن جلسات الحكومة ليكونوا على السمع. تفرّغوا ليكتشفوا، كيف ترسم مواقع التواصل الاصطفافات في البلد. وكيف تحدِّد قواعد الاشتباك، بينهم وبين شعبٍ أعزل من كلّ سلاح!
كلمة أخيرة. يقول الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني: “إنّ الصراصير قادرة، وحدها، على قتل أَخْيَل.. يا للسخافة!”. والأخْيَل، هو طائرٌ من الجوارح من جنس الصقور. إقتضى الشرح.